إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > خطبة مكتوبة بعنوان: “أحكام الوصيَّة والموصِين والموصَى لهم والأوصياء”.

خطبة مكتوبة بعنوان: “أحكام الوصيَّة والموصِين والموصَى لهم والأوصياء”.

  • 10 مارس 2017
  • 5٬315
  • إدارة الموقع

أحكام الوصيَّة والموصِين والموصَى لهم والأوصياء

الخطبة الأولى:ـــــــــــــــ

الحمد لله المحمودِ على كل حال، الموصوفِ بصفات الجلال والكمال، المعروفِ بمزيد الإنعام والإفضال، أحمده سبحانه وهو المحمود على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق المقال، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خيرِ صحب وآل، وسلِّم تسليما كثيرًا ما تعاقبت الليال.

أما بعد، فيا أيها الناس:

اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته، ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته، فقد قرُب الرحيل، وذُهِبَ بساعات العمر وأوقاته، ألا وإن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن صحته لمرضه، ومن حياته لموته، ومن غناه لفقره، فوالله ما بعد الموت من مُسْتَعْتَبٍ، وما بعد الموت من دار إلا الجنةَ أو النار، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ )).

وقال الله – عزَّ وجلَّ -: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا }.

ثم اعلموا – سددك الله وسلَّمكم – أن الوصية على نوعين:

النوع الأول: الوصية الواجبة.

فمن كانت عليه ديون ومستحقات للناس، أو في ذمته حقوقٌ أو أماناتٌ أو عُهدٌ تتعلق بالغير من تُجَّارٍ أو أيتام أو شركاء أو عمل أو وظيفة أو إخوان أو أخوات أو أعمام أو عمات، أو شهادةٌ يضيع بها حق الغير أو يحصل له بها ظلم واعتداء، أو اختلاطٌ في الأنساب، أو خلوةٌ بغير المحارم، فهنا يجب عليه أن يكتب وصيةً يُبين فيها ذلك، حتى إذا عجَز عنها في حياته أو دهمه مرض يعوقه أو فجأه موتٌ، قام بها عنه مَن بعده مِن أوصياءَ أو ذريةٍ أو إخوة، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ )).

النوع الثاني: الوصية المستحبة.

فمن كان عنده فضلُ مالٍ فإنه يستحب له أن يوصي بشيء منه للمحتاجين من قرابته التي لا ترثه أو الفقراءِ أو المرضى أو المعاقين أو بناء مسجد أو حفر بئر يشرب من مياهها الناس والدواب، أو طباعة كتب لأكابر أهل العلم من أهل السنة والحديث في العقيدة أو الفقه أو تفسير القرآن أو الأحاديث النبوية، فقد قال الله ـ عز وجل ـ مرغبًا: { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا }.

وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه محرضًا: (( أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ )).

والأفضل عند عامة الفقهاء أن يجعل وصيته لأقاربه الذين لا يرثون، إذا كانوا فقراء ذوي حاجة، لأن الله تعالى بدأ بهم قبل غيرهم حين رغَّب عباده في الصدقة، فقال سبحانه مادحًا المنفقين: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ }.

أيها الناس:

هذه جملة من الأحكام المتعلقة بالوصية، والموصِين، والموصَى لهم، والأوصياء، فأقول مستعينًا بالله – جلَّ وعلا -:

الحكم الأول: من ليس عنده إلا مال قليل فلا تستحب له الوصية باتفاق أهل العلم، لأن الوصية قد تضر بورثته من بعده، ونفعها للمحتاجين يسير.

الحكم الثاني: إذا أوصى العبدُ بشيء من ماله في وجوه البِرِّ والإحسان، فإنه إن كان له ورثة فلا يتجاوز بهذه الوصية ثلثَ ماله، لِما صح عن سعد ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، زَمَنَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقُلْتُ: بَلَغَ بِي مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ )).

الحكم الثالث: إذا أوصى العبد بأكثر من ثلث ماله كنصف أو ثلثين ثم مات، فإن الورثة لا يجب عليهم إلا إخراجُ الثلث فقط، فإن طابت أنفسهم وسمحت بإمضاء ما أوصى به كاملًا جاز ذلك باتفاق العلماء.

الحكم الرابع: لا يجوز للعبد أن يوصي بشيء من ماله لأحد من الذكور أو الإناث الذين سيرثونه بعد موته باتفاق العلماء، لِما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ )).

فإن مات وقد أوصى لأحدهم بشيء، فالأمر بيد الورثة، إن سمحوا  عن طِيب نفس أُمْضِيَت الوصية، وإن لم يأذنوا لم تُنفَّذ وصيته باتفاق العلماء، لأن المال قد انتقلت مِلكيته لهم، وإن كان القضاء يحكم بغير الشرع فأمضى الوصية لهذا الوارث، فإنه إن قبِل يكون قد أكل مالًا حرامًا، وظلم الورثة حيث منعهم حقهم، وأساء إلى المورِّث حيث أمضى وصيته المحرمة.

الحكم الخامس: إذا أوصى الإنسان بشيء من ماله لبعض ورثتة فلا يجوز لأحد أن يَشهد على هذه الوصية، لأنه يكون معينًا على الظلم والجور، وقد صح أن رجلًا وهب أحد أولاده دون الآخرين فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على هبته، فقال صلى الله عليه وسلم له: (( أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ )).

الحكم السادس: إذا أوصى الميت بشيء من ماله وهو في مرض موته أو مرض يَخاف منه الموت، فإن وصيته صحيحةٌ ونافذة، إلا أنها لا تنفذ باتفاق الأئمة الأربعة إلا في الثلث فقط فما دونه.

الحكم السابع: إذا مات الميت وقد أوصى بشيء من ماله، وعليه ديون للناس تَذهب بجميع ماله، فإن سداد ديونه يُقدم على تنفيذ وصيته باتفاق العلماء.

الحكم الثامن: من أوصى أن يُصرف شيء من ماله على أمر محرم فإن وصيته لا تنفذ باتفاق العلماء.

ومن أمثلة الوصايا المحرمة:

الوصية بشيء من ماله لبناء مسجد أو قُبة على قبر، أو إقامةِ مأتم شهريٍّ أو سنوي للنفس أو الأب أو الأم، أو عملِ مولد لوليٍّ أو غيره، أو طباعةِ كتاب بدعة وضلالة، أو كتاب مجون وخلاعة، أو نسخِ شريط غناء أو تمثيل.

الحكم التاسع: إذا أوصى العبد بشيء من ماله إلى بعض الأشخاص أو الجهات ثم أراد الرجوع عن وصيته هذه في حياته أو تبديلها جاز له ذلك باتفاق العلماء.

الحكم العاشر: إذا أوصى العبد بشيء من ماله أو متاعه لأحد بعد موته، ثم مات هذا المُوصَى له قبل المُوصِي، فإن الوصية تبطل باتفاق الأئمة الأربعة.

نفعكم الله بما سمعتم، وزادكم فقهًا بدينه وشرعه، إنه سميع مجيب.

الخطبة الثانية:ـــــــــــــــ

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.

أما بعد، فيا أيها الناس:

اعلموا – سلمكم الله – أنه يُسن للعبد أن يكتب وصيته بيده، ويُشهد عليها شاهدين، لأن ذلك أحفظُ لها، وأحوطُ لما فيها، وأضمنُ في القيام بها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ )).

فإذا كتب العبد وصيته وضعها في مكان آمن، بحيث لا تطالها يد غيره فتحرفَ فيها أو تبدل، أو يضعها عند رجل معروف أمين ثقة من قبيلته أو عائلته أو أصحابه أو يضعها في صندوق في بنك.

أيها الناس:

إذا كان العبد يعلم من ورثته وقرابته أنه إن مات قاموا في حقه بارتكاب بعض البدع والمحرمات فإنه يتأكد في حقه شديدًا أن يوصيهم بأن لا يفعلوا ذلك.

ومن هذه البدع والمحرمات:

البناء على قبره، أو دفنه في مسجد، أو إقامة مأتم له يُطعم فيه الطعام، أو يُؤتى فيه بالمقرأين، أو قراءة الفواتح على روحه، أو النياحة عليه، أو تشييعه مع ترديد شيء من الذكر كقول لا إله إلا الله أو وحِدّوه، لأن السنة الصمت حال تشييع الجنازة.

وقد قال فقيه الشافعية أبو زكريا النووي ـ رحمه الله ـ:

ويستحب استحبابًا مؤكدًا أن يوصيَهم باجتناب ما جرت به من البدع في الجنائز، ويؤكدَ عليهم العهدَ بذلك.اهـ

أيها الناس:

إن القائم على الوصية وتنفيذِها وحفظِها ورعايتِها يُقال له الوصيّ، ويشترط له باتفاق العلماء أن يكون: مسلمًا، عاقلًا، عدلًا، ولا يصح أن يكون مجنونًا، ولا طفلًا، ولا كافرًا، ومن عُرف واشتهر بالخيانة أو الفسق فلا يصح أن يكون وصيًا عند أكثر العلماء، ويجوز باتفاق الأئمة الأربعة أن تكون الوصية امرأة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل امرأةً قيِّمةً على أولادها في النفقة، فصح أن هند بنت عتبة – رضي الله عنه – قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ )).

وأخبر عمرو بن دينار ـ رحمه الله ـ : (( أنَّ عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه – أوصى إلى حفصة )).

أيها الناس:

إذا كان للأيتام أموال فإن الوليَّ أو الوصيَّ عليهم يُخرج الزكاة منها إذا كانت نصابًا، وحال عليها الحول، وله أيضًا إن رأى المصلحة: أن يتَّجِرَّ لهم بأموالهم لتزداد، ويجوز له أن يأكل منها بقدر عمالته بالمعروف إذا كان فقيرًا محتاجًا، وإن كان غنيًا فليستعفف، فقد صح عن القاسم ـ رحمه لله ـ أنه قال: (( كُنَّا يَتَامَى فِي حِجْرِ عَائِشَةَ فَكَانَتْ تُزَكِّي أَمْوَالَنَا )).

وصح عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( ابْتَغُوا ـ يعني: اتجروا ـ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، لَا تَسْتَهْلِكْهَا الزَّكَاةُ )).

وصح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: عند هذه الآية: (( { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ }: أُنْزِلَتْ فِي وَالِي اليَتِيمِ الَّذِي يُقِيمُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُ فِي مَالِهِ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ )).

وأما إن تجرَّأ وأكل من مال اليتيم بغير حق، فقد أتى كبيرة، وتوعده الله بوعيد شديد فقال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }.

هذا وأسأل الله الكريم أن ينفعنا بما علمنا، ويزيدنا فقهًا وعملًا بشرعه، اللهم ارزقنا توبة نصوحًا، وأجرًا كبيرًا، اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وسائر أهلينا، اللهم من كان منهم حيًا فبارك له في عمره ورزقه، وزده هدى، ومن كان منهم ميتًا فتجاوز عنه، واجعله في قبره منعمًا، اللهم جنبنا الشرك والبدع والمحرمات، اللهم من أراد هذه البلاد ودينها وأمنها وأهلها وولاتها وجندها والمقيمين فيها بشر وكيد فاجعل كيده في تباب، وشره عليه وعلى من أعانه، اللهم ارفع الضر عن المتضررين من المسلمين، اللهم ارفع عنهم القتل والقتتال والخوف والجوع والأمراض والأوبئة، وأعذنا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قاتل الكفرة المعتدين، والنصيرين والحوثيين المجرمين، والخوارج المارقين، إنك سميع مجيب، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.