الإمام المصلح المجاهد ربيع بن هادي المدخلي وشيء من سيرته
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضلَّ الضَّالون، لا يُسئل عمَّا يفعل وهم يُسألون، خَلق فقدَّر، ودبَّر فيسَّر، فكلُّ عبدٍ إلى ما قدَّره عليه وقضاه صائر، له الحكمة البالغة، والرَّحمة السَّابغة، والعدل التَّام، ولا إله غيره، ولا ربَّ سواه.
والصَّلاة والسَّلام على خاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، وقدوة العلماء العاملين النَّاصحين، أعلَمُنا بالله، وأخشانا له، وأوقفنا عند حدوده ومحارمه، وعلى آله وأصحابه، خير آلٍ وصحب، والذين هم بهديه مُستمسكون، وبسنَّته مسترشدون، وبشرعه قائمون، ومن تبعهم مِن صالح العبيد إلى يوم الدِّين، ما طلع فجرٌ على المُصبحين، ودخل ليلٌ على الْـمُمسِين.
أمَّا بعدُ، فيا أيُّها الإخوة والأخوات – حصَّنكم الله بالعلم النَّافع، وقوَّاكم بالعدل، ورزقكم سداد القول والفعل -:
هذه هي «الحلقة الرَّابعة» من حلقات لقاء «يوم الثلاثاء»، والتي هي بعنوان:
«مِـــــنْ فِـــقْهِ عَالِـمٍ».
وتُلقى على مسامعكم النَّبيلة، وأذهانكم الحصيفة، وتصغُون إلى ما حَوَته ووَرَد في طيَّاتها، في اليوم الخامس من شهر صفر، من عام ألفٍ وأربع مئة وأربعة وثلاثين مِن هجرة النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن مكَّة إلى المدينة.
ووَسيلةُ سماعكم لهذا اللقاء وهذه الحلقات هي: «إذاعة موقع ميراث الأنبياء»، وما ينقِلُ عنها من مواقع، فنفع الله بجهود الجميع، وسدَّد القائمين عليها، وأعظمَ لهم الأجر، وأكثر في الثَّواب، وأجزل في الفضل، وبارك في الجهود.
وضَيفُ هذا اللِّقاء الذي نستمدُّ من فقهِه وعلمه، وننهل من دُرره وفوائده، ونلتقط من كنوزه وفرائده، ونستأنس به، ونستفيد منه، هو:
الإمامُ الفاضل، والعالِم الرَّاسخ، والمُصلِح النَّاصِح، والمُشفِق النَّبيل، والثِّقة الحصِيف، والمُحدِّث البارع، والذَّابُّ عن السُّنَّة المجاهد، أحد أذكياء العصر، ونُبهاء الوقت، وشُجعاء الزَّمان، ورؤوس أهل السُّنَّة والحديث:
«ربيع بن هادي عُمير المدخلي».
أعلى الله ذِكْره، وأمتع ببقائه، وحشره في زُمرة أوليائه، وصبَّره على أذى خلقه، وأكثر له في الأجر، ورفع منزلته يوم الحَشر.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
إذا ذُكرت السُّنَّة كان في رؤوس أهلها، وإذا ذُكر الغيورون على التَّوحيد والعقيدة كان مِن كبارهم، وإذا ذُكرت البدع والأهواء كان في طليعة الرادِّين عليها، والنَّاصحين المنُكرِين على أهلها ودُعاتها، وإذا ذُكر الشُّجعان في قَول الحقِّ ونُصرته كان مِن أوائلهم، وإذا ذُكر الكرماء الأجواد كان مِن نوادرهم، وإذا ذُكر المتواضعون المتقلِّلُون مِن الدُّنيا كان في بَابَتهم.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
إذا ذُكر العلم الشرعي فهو مِن أحرص أهله عليه، وأشدهم حُبًّا له، وأكثرهم مدارسة له، ووقته عامر به، إما قراءة، أو بحثًا، أو تدريسًا، أو نشرًا، أوتأليفًا، أو إفتاء، أو ردًّا ونُصحًا.
وكلما جالستَه أو زرته أو استضافك رأيت في يده كتابًا يقرأ فيه، أو يَنقل عنه، أو أوراقًا يكتب فيها العلم ومسائله، وأشغلك بالعلم معه، تقرأ عليه مِن كتاب، أو تبحث معه فيه عن مسألة، أو حديث، أو ترجمة راوٍ.
ناهيك عن مجالسه العامرة بالدروس المتنوعة، والشروح المتعددة، والكلمات والمحاضرات المتجددة، وقراءة الكتب المختلفة.
وبل تُقرأ عليه بعض الكتب في أثناء ركوبه السيارة في سفر، أو ذهابٍ إلى الطائف وجدة وإياب منهما، أو غيرهما، حتى إن بعض الكتب تقرأ عليه أثناء ذهابه إلى المسجد ورجوعه منه، أو في طريق زيارته لعالم، أو مريض، أو غيرهما.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
كم له مِن أَيادٍ بيضاء، وفضلٍ ظاهر جليٍّ على أهل السُّنَّة والحديث؛ أتباع السَّلف الصَّالح في هذا الزمان، في الدُّنيا كلّها مِن علماء، وطلاب عِلمٍ، وعَوَام؟
إِذْ بصَّرهُم الله تعالى بِه بِأحوال أهلِ البدع والأهواء المعاصرين؛ لا سيَّما مَن تزيَّا بِزِيِّ أهل السُّنَّة، وأظهر أنَّه مِنهم، ونطق ببعض قولهم، وعَمِل شيئًا مِن أعمالهم؛ وهو ليس مِنهم، ولا على طريقهم، ولا يحمل هَمَّ دعوتهم.
بصَّرهُم الله تعالى بِه بِأحوال الأحزاب والجماعات المعاصرة المخالفة للسُّنَّة والعقيدة، والتي تنخَرُ في صُورة الإسلام الصَّحيح الذي جاء مِن عند الله تعالى، وسَار عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وباقي سلف الأمَّة الصالح، وتُكدِّرُه على أهل عصرها، وتقودُهم إلى خلافِه، وتغيِّر معالِـمَه على الأجيال القادمة، وأهل العصور المتراخية.
بصَّرهُم الله تعالى بِه إلى التنبُّه والانتباه، والتفطُّن والإدراك إلى بعض أصول أهل السُّنَّة والحديث التي تآمر عليها أهل البدع والأهواء وأحزابهم وجماعاتهم والمتأثِّرين بهم في هذا العصر، وسَعَوا إلى تبديل وتغيير معالِـمها التي قرَّرتها وأَرسَتها الشَّريعةُ الجليلة، وأجمع عليها سَلفُ الأمَّة الصَّالح – رحمهم الله تعالى -.
ومِن أهمِّ هذه الأصُول:
السَّمع والطَّاعة لوليِّ الأمر المسلم في غير معصية الله؛ حتَّى ولو جَار وظلم واستأثر بالدُّنيا وأموالها ومناصبها، وتحريم الخروج عليه، ونزع اليد من طاعته، وتحريض الرَّعية وتأليبهم عليه، وأنه يُنصح سِرًّا لا علنًا؛ درءًا للفتن والشُّرور عن العباد والبلاد، والدِّين والدُّنيا.
حيث أفسده أهلُ البدع والأهواء المعاصرين وأتباعهم على المسلمين في عامَّة البلدان؛ فأصبحوا يُجيزون الخروج على الحاكم المسلم الجائر، ويحرِّضُون الرَّعية عليه وعلى عصيانه وعدم الطَّاعة له، تسمعُه وتشهده في الخطب والدُّروس والمحاضرات، والكُتب والصُّحف والمجلات، ومواقع (الإنترنيت)، و(تويتر)، و(الفيس بوك)، و(الوتس آب)، ويعلنون أخطاءه ومثالبه وينشرونها بين النَّاس، ولا يذهبون بها إليه وينصحونه سرًّا كما كان السَّلف الصالح وعلماء أهل السُّنَّة والحديث في كلِّ وقتٍ يفعلون، متابعة مِنهم للنُّصوص النَّبوية الثابتة.
ومِن أهمِّ هذه الأصُول:
التَّحذير والحذَر مِن أهل البدع والأهواء وبُغضهم في الله، ولله، وهجرهم والابتعاد عنهم، وعن مجالسهم، ومواقعهم، ومنتدياتهم، وصَون الآذان والعيون عن باطلهم الذي يكتبونه، ويقولونه، وينشرونه، وأنَّ مَن يُثنِي عليهم ويمتدحهم ويبجِّلهم ويكرمهم يُلحقُ بِهم، ويُذم ويُثرَّب.
حيث أفسده أهل البدع والأهواء المعاصرين وأتباعهم على المسلمين في عامَّة الدِّيار والبِقَاع؛ فأصبحوا يمدحون ويُثنون ويعظِّمون ويبجِّلون ويوقِّرون أصحاب البدع الكبرى، والضَّلالات العظيمة، والانحرافات الخطيرة، والجهالات الشَّنيعة، وربَّما وصفوه بالإمامة، وألبسوه حُلَّة التَّجديد، وطوَّقُوا خاتمته بالشَّهادة، والموت ساجدًا، ويحثُّون على كُتبهم، ويُربُّون عليها الصِّغار في المدارس والمعاهد والجامعات، والحِلَق والمراكز، وينشرونها في كلِّ مكان، ويجمعون لطباعتها ملايين الدَّراهم والدَّنانير، والجُنيهات والدُّولارات والرِّيالات.
وإذا رُدَّ عليهم وعلى مَن عظموه ووقَّروه وبجَّلوه وأَعلُوه وبُيِّنَت مخالفاتهم التي أخطئوا بها على الشَّريعة، وعلى أنفسهم، وعلى العباد؛ قالوا: هذه غيبة!! لا يحلُّ الوقوع في أعراض الناس، سَلِم من ألسنتهم وأقلامهم الأعداء ولم يسلم منها الدُّعاة والمرشدون والموجهون والخطباء!!!.
مع أنهم يعلمون أنَّ هذا الرَّدّ لا يدخل في الغيبة المحرَّمة بإجماع أهل العلم، وأنَّه يُعتبر من النَّصيحة الطَّيبة للمردود عليه، وللنَّاس، وللدِّين، ومِن الرحمة، وأنَّه لا يزال العلماء يردُّون على مَن خالف الشَّريعة وقرَّر البدع منذ فجر الإسلام الأوَّل وإلى اليوم.
بل هم في واقعهم وبأنفسهم يتكلَّمون على أهل السُّنَّة والحديث السلفيين أمام أتباعهم ومحبيهم وفي الملأ بأقبح الكلام، وأبشعه، وأبعده عن الحقِّ، ولا يقولون لأنفسهم ولا لأتباعهم: هذه غيبة، هذا وقوع في الأعراض المحرمة!!!.
ويعلمون أنَّ الرادِّين عليهم يردُّون على كلِّ من خَالف الشَّريعة، فيردُّون على سائِر أهل المِلل، ويردُّون على أهل المذاهب الفاسدة من الشُّيوعيِّين، والبعثيِّين، والقوميَّين، والماسونيِّين، والعلمانيِّين، والحداثيِّين، واللبراليِّين، ويردُّون على المبتدعة من الرَّافضة، والزَّيدية، والصُّوفية، والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأضرابهم.
ومِن أهمِّ هذه الأصُول:
توحيد الله – عزَّ وجلَّ – الذي خُلقت لأجله الجنُّ والإنس، وأُرسلت الرُّسل، وأُنزلت الكُتب، وهو إفراد الله وحده بجميع العبادات فلا تُصرف إلا له؛ لا يُصرف شيءٌ منها لملَكٍ مُقرَّب، ولا لنبيٍّ مُرسل، ولا لوليٍّ صالح، ولا لغيرهم من المخلوقات.
حيث أدخل عليه أهلُ البدع والأهواء المعاصرين وأتباعهم ما يُضعفه في قلوب المسلمين، ويُهوِّن من شأنه، ويُقلِّل من الاهتمام به؛ فأصبحوا يمدحون ويثنون ويعظِّمون بعض رؤوس أهل البدع والأهواء الذين يقعُون في أمورٍ من الشِّرك الأكبر المُخرج عن مِلَّة الإسلام، ويُجوِّزُون للنَّاس الوقوع في بعض الشِّركيَّات.
وجعلوا أخصَّ خصائص التَّوحيد الذي جاءت به الرُّسل هو ما يسمونه بـ: «توحيد الحاكمية»، وجعلوه قسمًا رابعًا من أقسام التَّوحيد؛ لأجل مُنَاطَحَةِ الحكَّام ومجابهتهم، وأخذ كراسيِّ الحُكم مِنهم.
مع عِلمهم بأنَّ العلماء قد يُدخلون «الحاكمية» في «توحيد العبادة» باعتبار، أو في «توحيد الرُّبوبية» باعتبارٍ آخر، فلا يصلح أن يكون قسمًا رابعًا مستقلًّا.
وجعلوا([1]) الشِّرك الكبير والخطير على الأمَّة هو «الشِّرك السِّياسي» الذي يسمونه بـ: «شِرك الحكَّام»، ويريدون به: ترك الحُكم بالشَّريعة الإسلامية؛ حتَّى يتجيَّش النَّاس في صفوفهم حين يُنازعون الحكَّام على الكراسيّ والسُّلطة.
مع عِلمهم بأنَّ الشِّرك الذي جابهه جميع الأنبياء – عليهم السَّلام -؛ من أوَّلهم نوح -عليه السَّلام – وآخرهم محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأُرسِلوا لإنكاره وبيان خطره على النَّاس؛ هو الشِّرك في باب العبادة، من دعاء المخلوقين، وسؤالهم تفريج الكُرَب، وجلب النَّفع، ودفع الضُّر، والذَّبح لهم، والنَّذر.
كقول بعضهم: أغثني يا رسول الله!، اشفني يا حسين!، مدد يا بدوي!، فرج عني يا جيلاني!، شيئًا لله يا رِفاعي!
ومع عِلمهم بأنَّ هذا الشِّرك هو الوارد في أكثر نصوص القرآن، يقرأه كلُّ أحدٍ، عالِـم وغير عالِـم، وهو الأكثر ورودًا في نصوص السُّنَّة النَّبوية.
ومع عِلمهم بأنَّ هذا الشِّرك هو الفَاشِي والمنتشر والواقع مِن الأعداد الغفيرة جدًّا في عامَّة بلدان المسلمين اليوم، وفي العصور السَّابقة.
ومع عِلمهم بكلام العلماء حول الحُكم بما أنزل الله وتفصيلاته، ومتى يكون من الكفر الأصغر أو الأكبر؟ وما لهم حوله مِن خلافٍ واجتماع.
هذا التآمر والكَيد والخلل والنَّقص والشرُّ الذي دخل على هذه الأمور الثلاثة وغيرها تنبَّه له كثيرٌ من أهل العِلم، وطلَّاب العلم، وعموم النَّاس في أرجاء الأرض وأصقاع الدُّنيا، بسبب هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -، وقليل مِن إخوانه مِن أهل العِلم والفضل والسُّنَّة والاتِّباع.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
إذا نظرت إليه مع أهل الكفر مِن يهودٍ ونصارى وغيرهم؛ وجدت إسهاماته وكتاباته العديدة في بيان باطلهم وتشويهاتهم للإسلام وأهله، وتنبيه عوامهم إلى ما في كتبهم وعند علمائهم مِن تحريف، وكذب، وخروج عن العدل في التَّعامل مع الإسلام وأهله.
وإذا نظرت إلى العلمانيِّين واللبراليِّين والحداثيِّين والماسونيِّين وأضرابهم؛ وجدته قد كَتب وتكلَّم كثيرًا ومِرارًا في تبيين عوارِهم، وردَّ على جحافِلهم، وكشَف تزييفاتهم، وفلَّل مذاهبهم، وأبان عن مخططاتهم، وما يحيكونه للشَّريعة وحَمَلتها وعموم أفراد المسلمين.
وإذا نظرت إلى دُعاة وداعيات إخراج وإبعاد المرأة عن أحكام الدِّين والشَّريعة، وتعريتها مِن لباس الفضيلة، وسَلْب عِفَّتها وطُهرها؛ وجدت كتاباته الرَّائعة في الردِّ عليهم، وبيان خدعهم، ودحض شبههم وتشبيهاتهم، وردِّ المسلمة المنخدعة إلى جادَّتها، وتقوية الثَّابتة المُحافِظة الواعية.
وإذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع مِن الرَّافضة والصُّوفية الطُرُقية بأنواعهم وأضرابهم وأخدانهم، وجدت مصنفاته ومقالاته وأشرطته المتكاثرة في بيان ضلالاتهم، وكَشْف زيغهم، ونقض مذاهبهم، وبيان بُعدها وبُعدهم عن الدِّين والشَّريعة، والتَّحذير مِن البدع ودُعاتها لاسيَّما أعيانهم ورؤوسهم.
وإذا نظرت إلى جهوده في نُصرة العقيدة السَّلفية والسُّنَّة والحديث؛ فما أكثر ما ألَّف وصنَّف!، وما أكثر ما شَرَح ودَرَّس!، وما أكثر ما حَاضر وأفتَى!، ووضَّح وبيَّن، ونصح وأرشد، وكَاتَب ورَاسَل، وردَّ على مخالفٍ للصَّواب مُجانِب.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
إذا نظرت إليه في باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، باب إنكار المنكرات الشُّبهاتية، والمنكرات الشَّهواتية؛ وجدت حالًا عجبًا، وجدت غَيرة شديدة قلَّ نظيرها، وتبيينًا وبيانًا متواصلًا، وتحذيرًا وتنبيهًا كثيرًا، ونُصحًا متزايدًا مستمرًّا، ومع القريب والبعيد، والصَّغير والكبير، وبالمكاتبة والمشافهة، وإرسالٍ مَن لعلَّه يكون أدعَى للقبول.
وتلحظ هذا الحال منه إذا صلَّيت معه في مسجدٍ فيه بعض البدع، أو وقع إِمَامُه في مخالفةٍ للسُّنة النبوية، وتراه مع زوَّاره وضيوفه من أنحاء الدُّنيا، وتشاهده مع أهله وعياله وأحفاده وقرابته، وتعرفه مع العلماء وطلاب العلم والدُّعاة إذا قرأ لهم كتابًا أو سمع شريطًا، وتُقِرُّ به إذا مشيت معه في الطَّريق ورأى إنسانًا يفعل منكرًا، أو وقع في بدعة، وتسمعُ به إذا زار بلدًا، وحلَّ على قومٍ، وتقرأه في ردوده على الكُتَّاب في الكُتب، الصُّحف، والمجلات، ومواقع الإنترنيت.
وأذكر أني كنت معه في بيته بين المغرب والعشاء، ثم ركبت وإياه سيارته مع سائقه وأحد الأفاضل لنُصلِّي صلاة العشاء في المسجد الحرام، فلما بدأت السيارة بالتحرك اعتذر إليَّ فقال: “اعذرني يا ولدي، هذا الوقت إلى أن نصل الحرم أجعله لسماع القرآن، فإذا رجعنا نُكمل”، أو نحو هذا.
فأخذنا نسمع معه القرآن مِن مُسجِّل السَّيارة حتى وصلنا قُرب المسجد الحرام، ثم صعدنا عبر السلالم الكهربائية إلى ساحات الحرم، ثم دخلنا الحرم، وهو – سلَّمه الله – مِن حين نزلنا مِن السَّيارة وإلى أن ركبنا فيها عقب الصلاة – يعني: ذهابًا وإيابًا -، وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا وجد ما يقتضي ذلك مِن بدعة، أو معصية، أو أدب، حتى إنه رأى بنتًا في الحرم كاشفة شعرها فقال لها: “غطي رأسك يا ابنتي”، فقال أبوها: إنها لا تزال صغيرة، فنصحه الشيخ، وكان ممَّا قال له: “إن مثلها قد بلغ”.
وفي ظني أنها قد تجاوزت العشر سنين باثنتين أو ثلاث أو أكثر.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
إذا نظرت إليه مع الوُلاة والحكَّام والمسؤولين وجدته بعيدًا عن دنياهم، زاهدًا فيما في أيديهم، بَاذِلًا لهم النُّصح في السِّرِّ، ودافِعًا لهم إلى نَصر السُّنَّة والتَّوحيد ومشجِّعًا ومحرِّضًا ومُذكِّرًا، يفعل ذلك بنَفْسِه فيزور بعضَهم لذلك، ويُكاتِب آخرين، ويشافههم إذا لَقِيَهم في محضرٍ عامٍّ أو مؤتمر، ويُكلمهم عبر الهاتف، ويُذكِّر إخوانه من العلماء ويعضُدهم على القيام بواجب النَّصيحة لهم.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
ليس ببعيد عن أحوال المسلمين، وما يحصل لهم، ويجري في بلادهم، وما يُعانونه، وفي الغالب قد لا تحتاج أن تخبره بشيء مما حصل عندهم، وعليهم، بل تجد عنده ما ليس عندك، فهو يسأل عنهم دومًا، ويُهاتف من يثق به وبخبره، ويقرأ بعض الصُّحف باستمرار، ويُطالع بعض الكتابات والمقالات.
وكم – والله – رأيت في وجهه الحُزن، وسمعت مِنه التأسف، وشهدت تألمه على أحوال إخوانه المسلمين، وما يحصل لهم مِن قتل وتشريد، وإفساد ديني ودنيوي، وتكالب مِن البعيد والقريب، وما جرَّه عليهم مَن يتكلم بألسنتهم مِن علمانيين، ولبراليين، وتغريبيين، وأهل أهواء وبدع.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
قد أطبقَت كلمةُ رؤوس أهل السُّنَّة والحديث العلماء الأثبات الرَّاسخين في الثَّناء عليه، والمدح له، والحثِّ على الأخذ عنه، والرُّجوع إليه، وبيان حُسن عقيدته ومنهجه، وغزارة علمه وسعته، ونُبله وفضله وشرفه، وعُلوِّ مكانته، ومدحِ تصانيفه، وذِكر إصابته في ردوده على المخالفين للسُّنَّة وطريقة السَّلف الصَّالح.
وكفى بشهادتهم هذه له مِن شهادة؛ تغني كلَّ سُنيٍّ سلفيٍّ في هذا العصر – مِن أيِّ أرضٍ أو قومٍ كان -، وسيستضيءُ بها كلُّ سُنيٍّ سلفيٍّ على مرِّ العصور، وتعاقب الأجيال، وتُخرِص قول كلِّ مُتقوِّلٍ عليه، ومُتكلِّمٍ فيه، وشانِئٍ له، ومَن قَلَاه، وتُسقِطُه مِن العيون والنُّفوس، وتُنقِصه وتُخفضه وتُسفلُه، وتسوِّد تأريخه وتُشينه.
وعلى رأس هؤلاء([2]) وفي مُقدّمتهم:
أولًا – إمام أهل السُنة والحديث في بلاد الهند، العلَّامة: عبيد الله الرحماني المباركفوري -رحمه الله -.
ثانيًا – إمام أهل السُّنة والحديث في هذا العصر، وأجلّ علماء الوقت، العلَّامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله -.
ثالثًا – إمام أهل الشَّام، ومحدِّث الدنيا، العلامة: محمَّد ناصر الدِّين الألباني – رحمه الله -.
رابعًا – فقيه الأمة البارع، العلَّامة: محمَّد بن صالح العثيمين – رحمه الله -.
خامسًا – إمام أهل اليمن، المحدِّث الكبير، العلَّامة: مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله -.
وزِد على هؤلاء الخمسة جمعًا من أهل العلم الأكابر الرَّاسخين، والمصلحين الأعلام، مِن أهله السُّنَّة والحديث:
كالعلَّامة محمد أمان بن علي الجامي، والعلَّامة أحمد بن يحيى النَّجمي، والعلَّامة صالح بن فوزان الفوزان، والعلَّامة صالح بن محمد اللحيدان، والعلَّامة زيد بن محمد بن هادي المدخلي، والعلَّامة محمَّد بن عبد الله السّبَيل، والعلَّامة محمد علي آدم الإتيوبي، والعلَّامة محمَّد بن عبد الوهاب البناء، والعلامة عُبيد بن عبد الله الجابري.
رحم الله الميِّت منهم، وجعله في الفردوس، وسلَّم الأحياء وسدَّدهم في الأقوال والأفعال.
وهؤلاء الأئمة الأكابر في العلم والسُّنة مِن أعرف النَّاس به – سلَّمه الله -، وأدراهم بعلمه، ورسوخه فيه، وأخبرهم بدعوته، وجهاده، فهو إمَّا طالب مِن طلَّاب بعضهم، أو قرين ومجالِس لبعضهم، أو مُصاحب في أثناء طلب العلم، أو الرِّحلة في بثِّه ونشره.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
قد زرتُ معه عددًا من أئمة أهل السُّنة والحديث وأكابر علماء العصر – رحم الله الميِّت مِنهم وبارك في الحيِّ وسلَّمه -، وسمعتُ عن مجالس أخرى لهم معه، ونُقل إليَّ بعض ما جرَى ودار فيها؛ فما رأيتُ منهم ولا سمعت عنهم إلَّا الإجلال له والتَّوقير، والشُّكر والعرفان، ورأيتُ فيهم مِن المهابة له، والإصغاء إليه، وحُسن الأدب معه، ما يحتقر الإنسان حينها نَفْسَه، ويرتفع لديه قدرهم، ويظهر له الفَرق بين العالِم وغير العالِم.
وكيف لا يكون حالهم مثلما رأيت؟؛ وقد آتاهم الله من العِلم والفُرقان ما يعرفون به صاحب العلم والسُّنَّة الرَّاسخ النَّاصح مِن صاحب الضَّلال والبدعة.
كيف لا يكونون كذلك؟؛ وعلماء أهل السُّنة والحديث الرَّاسخين على مرِّ العصور هم أقوم النَّاس بالعدل، وأنصفهم للخلق، وأعملهم بالشَّرع.
كيف لا يكونون كذلك؟؛ والله تعالى قد أكرمهم بأدب العلم، ومَنَّ عليهم بمعرفة قدر أهله العاملين به، وتلقوه عن الأكابر، ورَوَوْه عن السَّلف الأماجد.
بخلاف بعض مَن شاهدناهم مِن الأحْدَاث، ومِن متنوِّعيِّ المشارب، في محضر الشَّيخ، أو مجلسه، أو بيته عند الكلام معه، والمناقشة؛ حيث ترى رفع الصَّوت، وإظهار الانفعال والغضب، والتغامز والضَّحك، والمقاطعة والمجادلة.
فلا هُم تأدَّبوا بأدب العِلم الذي قرَّرته الشَّريعة، وتعارف عليه الكبار والصِّغار، الذُّكور والإناث، العامِّي والمتعلِّم، ولا نالهم الأدب مع كبير السِّنِّ، وإجلال ذي الشَّيبة، الذي رسَّخه الدِّين، وأقرَّه كلُّ عاقلٍ من كل البَشر، ولا راعوا حُرمة المسجد الذي هم فيه، ولا المجلس الذي دُعُوا إليه، ولا حقَّ ضيافة الشَّيخ لهم، وإدخاله لهم إلى بيته وإكرامه.
وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كرَّه هذا الخُلق، ونفَّرَّ عنه، وقبَّحه بأشدِّ ما يكون مِن القول، فقال صلى الله عليه وسلم: (( لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا )) يعني: حقَّه.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله –:
إن صلَّيت بجواره فأخطأت السُّنَّة؛ نَصَح لك وبيَّن ووجَّه، وإن سِرْتَ معه في الطَّريق فرأى منك منكرًا؛ أرشدك، وإن أسرعت في المشي؛ تَبِعك إن قَدِر وذكَّرك، وإن خطبت خُطبة جمعة أو ألقيت كلمةً في مجلسٍ أو مركزٍ أو مسجدٍ بعد الصَّلاة أو قبلها فأخطأتَ؛ نصح لك وبيَّن بكلمةٍ رفيقةٍ رقيقة، ترى فيها العِلم والأدب، وتلحظُ منها الشَّفقة والإحسان، وإن قرأ لك خطأً في كتابٍ أو بحثٍ؛ كتب لك، أو اتَّصل بك، أو بمن يكلِّمُك، وإن لم تستجب له؛ كرَّر وعاوَد لعلَّ الله أن يهديك، ويفتح قُفْل قلبك.
حتَّى والله! لقد شهدتُ له مِن المواقف الكثيرة ما لا تكاد تجدها إلَّا عند القلائل والكُمَّل مِن العلماء والفضلاء.
فيتَّصل عليَّ أحيانًا ويخبرني بأنَّ فلانًا مِن طلَّاب العِلم قد وقع في خطأ كذا وكذا فلو كلمته ونصحته؛ لعلَّه يقبلُ منك، وأحيانًا يعطيني أوراقًا لأُعطيها لعالِـمٍ أو طالب علمٍ وقعت منه أخطاء شديدة في بعض كُتبه؛ لعلَّه يتنبه لها ويراجع، وأحيانًا يكلِّمني بأن كلِّم فلانًا أن يتريَّث في فِعل شيءٍ حتَّى لا تقوم بسببه فتنة، ويخبرني بأنَّه قد كلَّمه؛ فلم يفعل، لكن لعلَّه يقبلُ منك إذا حاولت وبيَّنت له العواقب.
ومرةً طلب منِّي أن أنصح شابًّا صغيرًا مِن قرابته أن يترك لحيته النَّابتة حديثًا ولا يأخذ منها، وأبيِّن له ما ورد فيها مِن نهيٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأخبرني أنَّه قد كلَّمه لكن لا زال على أخذه، وقال لي: انصحه لعلَّه يقبلُ منك؛ فبعض النَّاس يَقبل ويستحيي مِن الغريب أكثر مِن القريب.
وذات مرَّةٍ صلَّيتُ بجواره فلمَّا سلَّم الإمام وسلَّمنا معه، ثم شرعنا في الأذكار التي تُقَال عقب الفريضة، سمعني أقول ذِكْرًا معيَّنًا، فلما انصرف النَّاسُ مِن المسجد وبقيت معه أنا وأحد طلابه قال لي – سلَّمه الله – بحُسن أدبٍ، وابتسامةٍ طيبة، وبِشرٍ وحفاوة – كعادته في نصحه لي ولأبنائه مِن طلَّاب العلم -:
«هذا الذِّكر قد بحثتُ أحاديثه منذ زمنٍ فتبيَّن لي أنَّها ضعيفة».
فأخبرتُه أنِّي قد كتبتُ رسالةً حول هذا الذِّكر وجمعتُ طُرق أحاديثه ودرستها فتبيَّن لي ثبوته، ثم ذكرتُ جمعًا ممَّن نصَّ على ثبوته.
فقال لي -سلَّمه الله-: «انشُره»، وطلب منِّي نسخةً منه، فأرسلتُها إلى أحد طلَّابه عبر البريد الإلكتروني، وأوصله إليه.
فلم يجد – سلَّمه الله – في إجابتي له غضاضةً، ولا تغيَّر وجهه عليَّ، ولا رأيتُ ما يدلُّ على تمعُّض نَفْسِه؛ بل خرجنا من المسجد وبِشْر وجهِه، وطِيب كلامه، وحفاوة نَفْسِه قد زادت ولم تنقص.
وهذا الحال يُذكِّرني بحال شيخنا الإمام المبجَّل عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – وطِيب نَفْسِه، وحُسن كلامه، وبِشْرِ وجهه معنا إذا راجعناه في بعض المسائل، والأقوال، والأحاديث، والوقائع.
ومَن خالط الشَّيخ ربيع بن هادي – سلَّمه الله -، وقَرُبَ منه؛ عَرف حاله، وحال نصائحه السِّرية لمِن خالف الحقَّ، وجانب الصَّواب، مِن طلَّاب العِلم والدُّعاة، وأنَّها الأصل عنده، ولا تُعدُّ ردوده العلنية عند مُنَاصحَاته السِّرية شيئًا؛ بينهما بَونٌ شاسع، وفرقٌ كبير ظاهر، مع تكرار معاودتها، والاستمرار عليها مدَّة طويلة، ومكالمة مَن يرجو أنَّ المنصوح يقبلُ منهم ليكلِّموه وينصحوه ويُذكِّروه.
وفي مرَّة كنت عنده وقد كتب وريقات إلى عالم فاضل جليل وقعت له أخطاء في بعض كتبه، فبيَّنها له، وبيَّن خطأها بالنُّصوص الشَّرعية، وساق كلام أهل العلم السابقين حولها لِتتَّضح أكثر، ولم يكتب اسمه عليها، وقال لي: سلِّمها إليه بنفسك، ولا تُخبره أنها مِنيِّ، ولا أنيّ كاتبها، فذهبت بها إليه، وسلَّمتها له يدًا بيد.
وفعَل الشيخ ربيع بن هادي – سلَّمه الله – هذه الطريقة مِن ستر اسمه، لأن المقصد هو تَبَيُّن الخطأ والرجوع عنه، وتأليفًا ومراعاة للقلوب حتى لا يدخلها شيء.
وبعد فترة اتَّصَل عليَّ فرحًا ومُبشِّرًا ليخبرني بأن هذا العالِم قد رجع عن خطأ كذا، – وهو مما كُتب في هذه الوريقات – فلعله انتفع بهذه الكتابة، ففرحت مثله.
وذات مرَّةٍ زُرته مع بعض الرِّفقة؛ فذَكر أحدُ الحاضرين – وهو جالسٌ على سُفرة الطَّعام في بيت وبجوار الشَّيخ – رجلًا من كبار المخالفين للسُّنَّة وطريقة السَّلف الصَّالح، ومِمن ردَّ الشَّيخ عليهم في كتابٍ مستقل وأشرطة، وذَكَر قولًا شنيعًا له، وقال: أَمَا يتَّقي الله أن يقول مثل هذا؛ فتغيَّر عليه وجهُ الشَّيخ، وزجره بحُسن أدب، وعبارةٍ لطيفة، ودُون أن يشعر مَن على السُّفرة فيحرَج أو تنكسر نَفْسُه، إلَّا مَن تنبَّه لقُربه وحرصِه على الاستماع للشَّيخ أكثر مِن الطَّعام.
ثم عَاوَد هذا الحاضر نَفْسَ هذه المقولة بعد مدَّة على شخصٍ آخر بُغية اختبار موقف الشَّيخ – سلَّمه الله – وهل تغيَّر؟، فكان أنْ وجد من الشَّيخ نَفْسَ الموقف، ونَفْسَ الكلام، ونَفْسَ الطَّريقة.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
شديد التَّواضع، سهل العَرِيكة، ليِّن الجانب، واسع الصَّدر، كبير التَّحمُّل، عظيم الصَّبر، يأخذ ويعطي معه الصَّغير والكبير، العامِّي والمتعلِّم، في مسائل العِلم، ويناقشه ويعارضه، وهو يصبر عليه، ويتحمَّل ضعف أدبه، مع أنَّه في بيته وضيافته؛ لعلَّ الله تعالى أن يهديه، ويردَّه إلى الحقِّ، وجادَّة الصَّواب، ونحن حاضرون لذلك المجلس، وهذه المناقشة، وبكلفة شديدة نُرغم أنفسنا على الصَّبر على هذا المُناقِش المُجادِل المُخاصِم، وعدم الخروج من المجلس، حتى لا تتفلَّت علينا؛ لأنه قد تجاوز حدود أدب العِلم، وأدب الضِّيافة، وأدب التعامل مع المُسنِّ الكبير، ولم يمرّ بنا مثله؛ لكن نصبر احترامًا وتوقيرًا للشَّيخ – سلمه الله -، وحتى لا يفوتنا شيء مِن علمه، ولنكتسب مِن أدبه، وحسن تعامله، وسديد فهمه.
ثم بعد هذا كله يأتي الشَّيخ – سلَّمه الله – ويعتذر مِن المُناقِش المُجادِل إنْ زلَّ أو أخطأ في حقِّه، فلا نملك إلَّا أنْ نُكبِر الشيخ أكثر، ويعظم في نفوسنا أشدَّ مِن ذِي قَبل، ويزداد حبُّنا له، ونعود على أنفسنا باللَّوم والعَتَب، ونشعر أنَّنا في وادٍ، والعلماء في وادٍ آخر.
وذات مرَّةٍ كنَّا في بيته بالمدينة النَّبوية – عام 1412هـ – بعد صلاة العشاء، والمجلس ممتلئ، فقام الشَّيخ – سلَّمه الله – لأخذ كتابٍ للإمام ابن قيم الجوزية حتَّى يُطلعنا على كلامٍ له في مسألةٍ ما، فاصطدم كتفه بكتف أحد أبنائه – وكان مِن أصغرهم سِنًّا – اصطدامًا خفيفًا مِن غَير انتباه؛ والخطأ مِن الابن حيث دخل بسرعة وعجلة ليقوم على خدمة الضيوف -، فما كان مِن الشَّيخ إلَّا أنْ اعتذر مِن ابنه، وطلب منه المسامحة، وقال: أعتذر يا ولدي سامحني ما انتبهت لك، أو نحو هذا الكلام، ووضع يده على صدره يطيِّب خاطره، فتعجبتُ مِن هذا الموقف مِن أبٍ مع ابنه الصَّغير، الذي لم يسبق لي أنْ رأيته، ولا سمعت به في حياتي عن أحد.
وفي سَنةٍ من السِّنين وقُبيل الحج طلب مِنّي الشيخ – سلَّمه الله – مع ابن أخيه وزوج بنت مِن بناته شراء أضحيتين له؛ فاشتريت له كبشين من الكِباش المشهورة في البيئة التي أعيشُ فيها بأنَّها الأطيب، يُقال لها: “النُّعيمي”، وبيئة الشَّيخ التي يعيش فيها هي «الحجاز»، وعلى رأسها مكَّة والمدينة، وسكَّانها يفضِّلون أنواعًا أخرى مِن الغنم؛ فأنا أخطأتُ الاختيار، وكان الأليق أن أشتري له ولأهل بيته ما يناسب بيئتهم؛ فهُم وفقراء بلدهم ممَّن سيأكل مِن لحم هذه الأضحية، ولكن لقصر نظري رأيتُ مِن زاويتي فقط، وزاد الطِّين بِلَّة أن الأضحيتين ماتتا بعد يومين مِن شرائِي لهما، لا أدري أَهُوَ لشيءٍ في صحَّتهما مع أنِّي قد تفحَّصتهما جيدًا، ولم ألحظ عليهما شيئًا؟ أو بسبب ركضهما الشَّديد المستمر في حوش البيت حيث لم يُربطا؟، وهذا النَّوع من الغنم معروفٌ بأنَّه يتوحَّش ويَنفر من النَّاس أكثر مِن غيره، حتَّى أنَّه يركض مِنهم أحيانًا حتى ينقطع نَفَسُه ويخرَّ ميتًا، وهذا خطأٌ آخر منِّي حيثُ لم أنبِّه الشَّيخ – سلَّمه الله – وأهله إلى ذلك، ثم اشترى الشَّيخ – سلَّمه الله – غيرهما مِن الغنم بعد العيد وضحَّى بها.
والشَّاهد مِن هذا، والذي سُقت لأجله هذه الحادثة:
أنَّ الشَّيخ – سلَّمه الله – ما كلَّمني عن موتهما، ولا فتحه أمامي، ولا دَرَيت عنه مِن أهله أو المُجالِسين له، لا قبل العيد ولا بعده، بل ما عرفته إلَّا بعد سنوات مِن أحد طلَّابه، وهو الشيخ الفاضل خالد الظفيري – سدَّده الله -، حيث كان يقصُّ عليَّ نبأ هاتين الأضحيتين، وهو لا يدري أنِّي أنا مَن اشتراهما للشَّيخ، فأخبرته، فأخذ يضحك.
فالشيخ – سلمه الله – يتحسَّس نفوس مُجالسيه، ويُراعِي مشاعرهم، ويحرصُ على أن لا يُدخِل الكدر عليهم بسبب شيءٍ من أمور الدُّنيا وحطامها.
ومِن تواضعه – سلَّمه الله – أني دخلت وإياه المسجد الحرام لصلاة العشاء، فخلع حذاءه وجعله في يده، فمددت يدي لآخذه منه، لمكانته في العلم والسِّن، ولأني أعدُّ نفسي كأحد أولاده، وهو بمثابة الوالد، فشدَّ يده على حذائه حتى لا أتمكن مِن أخذه، فشددت يدي وأبيت فكاكها، فلما أصررت استسلم للأمر، فأخذتها منه ووضعتها في مكان بقربنا، فلما انتهينا من الصلاة ذهبت وإياه لأخذهما فمددت يدي للأخذ، فحلف أن لا يحمل حذاءه إلا هو، فتركته وما أقسم عليه.
وقد حج معي – سلمه الله – بعض حجَّات، وبرفقتي بعض عوام الناس، أو قرابتي، أو شبيبة، فتعجبوا مِن تواضعه، وسهولته، ولينه، وطِيبة نفسه، وحُسن عشرته، وعُلوِّ خُلقه.
ولسان حالهم يقول:
أهذا هو الشيخ الذي ذاع صيته، وتسامع به الناس، وأطبقت شهرته المعمورة، وأقضَّ أضجاع أُمم مِن أهل الأهواء والبدع، ومَن ترأس أحزابهم وفِرقهم وجماعاتهم مِن المشاهير.!!
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
من كُرماء العالَم، وأهل الجُود والسَّخاء، والبذل والعطاء، يأتيه الزُّوار إلى بيته العامر بمكَّة وقبلها المدينة، ويتزايدون عليه لاسيَّما في المواسم كرمضان، وشهور وأيام الحجِّ، وأوقات الإجازة مِن غالب أصقاع الدُّنيا، وفيهم العلماء وطلاب العلم وعوام النَّاس، ومِنهم مَن ينطق العربية، ومِنهم من ينطق بغيرها، فيتناولون طعام الغداء وطعام العشاء معه، وحين كانت صحته أتمَّ مِن الآن كان بابه مفتوحًا في غالب الأوقات، وتشهد معه جميع الوجبات، ولعلَّ غالب أكله كان مع الضيوف لا مع أهله، وفي رمضان يمتلئ بيته مِن كثرة الضُّيوف، حتى إنَّه يتكلَّم ويعتذر ويطلب المسامحة ممَّن لم يجد له مكانًا، ويوزَّع الفطور على مَن لم يجد مكانًا خارج الباب.
وأذكر أنِّي كنتُ عند الشَّيخ – سلمه الله – في عشر ذي الحجَّة الأُوَل منذ سنين قد مضت، وكان الزُّوار يأتونه مِن كلِّ جهةٍ وأرض، وبعضهم يفطر معه صباحًا، ومِنهم مَن يتغدَّى معه أو يتعشَّى، ومِنهم مَن يحضر الوجبات كلَّها أو أكثرها، ومِنهم مَن يبيت عنده حتَّى يأتي يوم التروية ويذهب إلى مِنَى فيبيت فيها، فلاحظ الشيخ – سلمه الله – أن أحد الموجودين لا يأتي معهم على سُفرة الطعام ليأكل، بل يبقى في المكتبة أسفل البيت، فذهب إليه وكلَّمه لِما لا تأتي، فأخبره بأنَّه يصوم أيام العشر، فتحسّر الشَّيخ – سلَّمه الله – وتوجَّع لعدم صيامه لها بسبب مرضه الذي حلَّ به، وما يأخذه مِن أدوية يحتاجها في النهار، وبارك لهذا الرَّجل وشجَّعه ودَعَا له، وقال له: “كلّ يومٍ مِن العشر إذا أتَى وقت الإفطار فتعال لتفطر عندي”، فتعذَّر من الشَّيخ وحاول أن يُعفيَه فأبَى الشَّيخ إلا حضوره، فأصبح يأتي كلَّ يومٍ ويصعد غرفةَ الطَّعام في بيت الشَّيخ وإذا بفطوره على السُّفرة، فيأكل حتَّى يشبع ثم ينصرف، والشَّيخ يتعاهده ويتعاهد وقت فطوره ويتأكد مِن مجيئه وفطوره كلَّ يوم، والرَّجل يقول لعلَّه ينسَى يومًا، لكن لم يحصل ذلك.
حتَّى -والله!- إنِّي وبعض إخواني الفضلاء لنجهز العذر والتعذُّر مِن دعوته – سلمه الله – لنا للعشاء أو الغداء قبل الحضور إليه؛ حتَّى نخفِّف عنه ولا نكلِّفه، فنرتبط بموعدٍ مع آخرين في وقت العشاء أو الغداء أو نواعِد أهلينا بالذَّهاب لزيارة أقارب أو خروج في نُزهة، فنظلُّ نعتذر ونتعذَّر من الشَّيخ – بارك الله له – وهو يكرُّر علينا الدَّعوة لا يملُّ حتَّى يغلبنا وهو الأكثر، أو نغلبه، وهذا قليل، وما بنا- والله! – مِن رغبة عن الشَّيخ ومجالسته؛ بل ذلك مِن أحبِّ الأمور إلينا، ولكن مراعاةً لحاله، وصحَّته، وكِبَر سِنِّه، ووقته.
فالشَّيخ – أغناه الله وبارك له فيما آتاه من رزق – نعرف حاله، فلا هو من الأغنياء ولا الأثرياء ولا التُّجار؛ حاله كغالب حال الناس، يعتمد في نفقة نَفْسِه وأهله وعياله وضيوفه على راتبه، وهو الآن يستلم راتب التَّقاعد؛ لكن الله قد بارك له فيه حتَّى سدَّ أهله وضيوفه على كثرتهم واستمرار مجيئهم.
ويحدثني – سلَّمه الله – أحيانًا؛ بأنَّه يجد بركةً في هذا الراتب، حتَّى إنَّه ليسدّ حاجته، وحاجة أهله، وعياله، وضيوفه، ولا يكاد يحتاج أن يتسلَّف ويقترض من أحد، فإن احتاج؛ اقترض من بعض أبنائه وردَّه إليه، وشدَّد عليه في أخذه.
ولا عجب في حصول هذه البركة، رحمةً من الله تعالى به، ومِنَّةً مِنه عليه وإفضالًا؛ فكثيرٌ من النَّاس قد ضَعُفَت البركة في أموالهم، فما يأتيه مالٍ إلَّا وقد ذهب سريعًا، وإذا به يقترض من النَّاس، وترى مالَه يذهب في الكماليات؛ بل ربَّما فيما ضرره أكثر من نفعه، تراه كلَّما اشتهت نَفْسُه اشتراه، كلَّما وصل جهاز كمبيوتر أو هاتف جوَّال بمواصفات أحدث وأفضل اشتراه، وكلَّما نزل عرض جديد على شيء هو لا يحتاجه اشتراه، وكلما اشتهت نَفْسُه السَّفر والمُتعة سافر، وربما دفع من الأموال ما يسدُّه ويسد أهله شهورًا عديدة.
وبعض أهل البدع والأهواء – أصلحهم الله – يتَّهمون هذا الإمام بالباطل؛ فجورًا في الخصومة، وحتَّى ينفِّروا عنه الناس، ويُضعفُوا مِن إقبالهم على كُتبه، ومقالاته، ومَجالسه، وصوتياته، التي فيها بيان بدعهم وضلالاتهم وانحرافاتهم:
“بأنَّه يقبض الملايين مِن الدَّولة على ردوده عليهم، وكتابته في بيان ضلالاتهم،!!”، وهو – والله! – لمِن أبعد الناس عن دُنيا الحكَّام والوُلاة والأمراء والوجهاء والأثرياء، وأزهدهم فيها، بل وقليلُ الاتِّصال بهم، ومنشغلٌ عنهم بالعِلم تدريسًا وتعليمًا، وتصنيفًا وإفتاءًا، ودعوة ونشرًا.
ووالله! قد جالسته وخالطته وعرفته أنا وغيري كثيرً؛ فما رأيتُ شيئًا مِن فجورهم في الخصومة هذا، وما رأينا شيئًا مِن افترائهم وكذبهم وإفكهم هذا؛ رأينا دنياه بسيطة، عندنا وعند غيرينا – والله – أحسن وأكثر منها، وقد ظل منزله بعد بُنيانه عِدَّة سنين مِن غير صبغٍ خارجي له لعدم توفُّر المال، وبيوت كلّ مَن حوله مِن الناس قد صُبغت بالألوان المختلفة، وجُمِّلت بالرُّخام وأنواع الأحجار، ولا يزال بيته مِن اسمنت، وهو ساكن فيه على هذا الحال.
وجلَست أحواش هذا البيت سنوات كثيرة وهي لا تزال مِن تراب، لم يوضع لها بلاط، أو رخام كباقي بيوت الناس، لعدم توفُّر المال؛ بل كلَّما اجتمع عند الشَّيخ – سلَّمه الله – شيءٌ من المال عمِل بقدره في إتمام هذا البيت.
وإلى يومنا هذا وبيت الشَّيخ – سلَّمه الله – لم يكتمل فرشه كباقي بيوت الناس، وما فُرِش مِنه فمِن أرخص أنواع الفُرش، ولا غُطّيت كل شبابيكه ونوافذه، مع أنَّ سُكْناه له قد زاد على عشر سنين، بأربعٍ.
يا قوم! إن تكلمتم فتكلموا بحقٍّ وعدل، لا بالبهتان والافتراء والإفك، إن تكلمتم فتكلموا بشيءٍ له واقع حقيقي، بشيء لا نرى خلافه، ونلمس عكسه، ونعايش غيره، حتى لا تُفضَحُوا في هذه الدُّنيا، ويفضحكم الله ويخزيكم في الآخرة.
يا قوم! كونوا شرفاء في الخصومة، كونوا نزيهين عند الاختلاف، لا تهدروا حسناتكم على النَّاس، فحقوق العباد ستدخل في باب المقاصَّة يوم العرض والحساب.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
شديد الحرص على إخوانه وطلَّابه وأحبابه من أهل السُّنَّة والحديث السَّلفيين في كلِّ أرضٍ وبلد، في البلاد العربية، وبلاد شرق آسيا، وبلدان أفريقيا، وقارة أوربا، يتصلُ بهم، ويسأل عن أحوالهم، وأحوال أهليهم، ويدعوا لهم، ويَطلب منهم السَّلام على إخوانهم مِن أهل السُّنَّة السَّلفيين في نَفْس البلدة بأسمائهم، ويسألهم عن حالهم وصحَّتهم، ويُعين المُحتاج منهم ويساعده، ويبذل له المال والشَّفاعة بكلِّ ما يستطيع، ويعزِّيهم في مَوتاهم، ويتفقَّد مرضاهم حتَّى يُشفون، وقد مرضتُ غير ما مرَّة فوجدته كثير الاتصال بي، والسُّؤال عن صحَّتي، والمتابعة لحالي، حتَّى والله! إنَّ سؤاله يكون أكثر مِن كثير مِن أهلي وقرابتي، حتَّى يصيبني الحياء، ويتنكَّب لساني فلا أدري ما أقول عند الحديث معه.
فإذا كان هذا حاله معي، فكيف بحاله مع أهله، وعياله، وقرابته، وكيف حاله مع كبار أهل العلم وكبار طلَّاب العلم، وكيف حاله مع كبار طلَّابه وتلامذته، وكيف حاله مع مَن هم أكثر لصوقًا به، ومجالسة له، وقراءةً عليه؟
وإذا أخبرته – سلَّمه الله – بموت والد أو والدة أحد إخواننا مِن أهل السُّنَّة السَّلفيين طلب منِّي رقم هاتفهم ليعزِّيهم ويواسيهم في مُصَابهم، وإن كانوا عندي طلب منِّي محادثاتهم فكلَّم أولاد الميت واحدًا بعد واحد، حتى إنَّهم ليتعجبون مِن كلام الشَّيخ – سلَّمه الله -معهم بنَفْسِه، رغم أنَّه قد لا يكون رآهم أو رأَوه، فيَكبُر في نفوسهم، ويرتفع في عيونهم، ويدعون الله له بالسَّداد والتَّوفيق.
وهذا الحال وغيره يقع مِنه – سلمه الله – لحبِّه الشَّديد لأهل السُّنَّة والحديث السَّلفيين في كلِّ مكان، ومِن كلِّ بلد، وكلِّ قبيلةٍ وقوم وشَعب، لِما هم عليه مِن العمل بالكتاب و السُّنَّة، ومتابعة السَّلف الصالح، والاستمساك بالتوحيد و السُّنَّة، ومجانبة الشِّرك والبدعة.
وحين كانت صحَّته أفضل وعُمره أقلّ مِن الآن، وعنده من القوَّة والنَّشاط ما يُعينه ويساعده؛ كان يسافر إلى إخوانه مِن أهل السُّنَّة والحديث السَّلفيين بنَفْسِه فيتفقَّدهم ويُعينهم وينصرهم ويعضدِّهم ويدرِّسهم ويوجِّهُهم ويعلِّمهم ويحرِّضهم على الدَّعوة إلى التَّوحيد والسُّنَّة، والردِّ على أهل البدع، وبيان ضلالهم وانحرافهم.
ولِتُسأل عنه الدُّنيا، لِتُسأل عنه الهند، وأفغانستان، وباكستان، والسُّودان، وأفريقيا، واليمن، وجميع مناطق البلاد السعودية.
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
إن نظرت إلى التَّوحيد والسُّنة؛ وجدته كثير الكلام عنهما، كثير التَّدريس في كتبهما، كثير التَّصنيف فيهما، كثير الدَّعوة إليهما، مع التَّكرار المتواصل، والتَّبيين المُستمر، والمعاودة الدؤوب، وعدم السَّأم والملل.
ورأيتَ فيه مِن الغيرة عليهما والحُرقة والتوجُّع مِن مخالفتهما ما لا تجده إلَّا عند القلائل مِن النَّاس، ولا تلمسه إلَّا مِن النَّوادر، يفرح إن ظهرا وينشرح، ويلهج حينها بالحمد لربِّه والشُّكر، ويحزن ويتألَّم إن رأى خللًا مِن أحدٍ فيهما، أو ظهر منحرفٌ يُشبِّه أو يُشكِّك النَّاس فيهما.
ويا لله! كم هدى الله على يديه مِن إنسان، وكم رجع بسببه مِن ضال، وكم استقام بعد كلامه مِن معوج، وكم وحَّد بعد وَعظِه وتذكيره مِن إنسان، وكم سلك جادَّة أهل السُّنَّة والحديث حين قرأ له أو سمع أو خالط مِن مُضَلَّلٍ؟
هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سلَّمه الله -:
إن رأيته وهو يصلِّي رأيت السُّكون والطمأنينة والوقار في صلاته، وكلَّما فعل شيئًا في هذه الصَّلاة؛ قلتُ: هو يعمل بحديث كذا، هو يتحرَّى تطبيق هذه السُّنَّة ، مذهب الشَّيخ في هذا الفعل يظهر مِن تطبيقه له؛ فهو – سلَّمه الله – بحقٍّ أُسوة، يتتبَّع السُّنَّة.
وكنت وغيري إذا صلينا معه في المسجد الحرام نتعب أحيانًا مِن شدة حرصه على العمل بالسُّنَّة النبوية، فهو إذا دخل الحرم – مع كِبَر سِنِّه، وضعف صحته – يأخذ في التقدم إلى الصفوف الأولى ولو ثَمَّت زِحام، ثم يُصلى تحية المسجد، فإذا سلَّم نظر ما أمامه مِن صفوف فإذا وجد فرجة تقدم، فيظل يتقدم حتى يَقرُب من الكعبة والإمام، ويزداد تقدمه عند إقامة الصلاة.
ونحن نتعب مِن ملاحقته خوفًا على صحته حتى لا يتضرر بالزحام، وحتى لا نفقده ويضيع مِنَّا، وهو أيضًا ليس معه هاتف جوال حتى يتصل بنا أو نتصل به.
أيُّها الإخوة والأخوات – أكرمكم الله بالتَّوحيد والسُّنة إلى الممات -:
لم تجرِ عادتي في هذه اللقاءات أن أتكلَّم بشيءٍ عن حال وواقع وجهود الإمام الذي سأذكر شيئًا من فقهه، وأنهل وإياكم مِن معِين عِلمه، ونكتسب مِن دُرره وفرائده، ونلتقط مِن جميل فوائده؛ لكنِّي تكلَّمتُ عن هذا الإمام المصلح، والعالِم النَّاصح: ربيع بن هادي عُمير المدخلي – سلَّمه الله وسدَّده -؛ لأنَّ هذا الإمام هو شَامَةُ أهل السُّنَّة والحديث السَّلفيين في هذا العصر، إذا ذُكِرَت السُّنَّة ذُكِر، وإذا ذُكِر السَّلفيون في كلِّ بلاد الدُّنيا ذُكِر، بل لم يُطبق أهل الأهواء والبدع بالحرب على أحدٍ مِن أهل السُّنة والحديث السَّلفيين المعاصرين مثله، حربٌ قلَّ نظيرها، حربٌ تُذكِّر بحروب أسلافهم على الإمامين الكبيرين: ابن تيمية، ومحمَّد بن عبد الوهاب – رحمهما الله تعالى -، بل وجعلوه كبير أهل السُّنَّة والحديث السلفيين في هذا الزمان.
وإني والله! لينتابني الحزن الشَّديد، والأسف البالغ، والخوف الكبير، حين أسمع مِن بعض إخواني – أصلحهم الله -م مَّن ينتسب إلى أهل السُّنَّة والحديث يغمز في هذا الإمام مِن طرفٍ خَفيٍّ أو جليٍّ، ويحمل في نَفْسِه عليه، وتلحقه غضاضة وعدم احتمال عند ذِكره.
وأنبِّه هؤلاء – أرشدهم الله – إلى أمرين مُهمَّين، ينبغي أن يتفطنوا لهما، ويراعوهما باستمرار، ويلتفتوا إليهما بجد:
الأمر الأول: أن يحفظوا جميل هذا الإمام المُصلِح النَّاصح الذي بصَّرنا الله تعالى وبصَّرهُم بِه بأشياء جليلة عظيمة في باب الإمارة والولاية، وباب البدع والمبتدعة، وباب الفِرق والجماعات، وباب التَّوحيد والسُّنَّة، وغيرها من الأبواب.
ليحفظوا له هذا الجميل، ويتذكَّروه باستمرار، ولا يغيب عن أذهانهم، فقد كان حتَّى الجاهلي على شِركه وكُفره يحفظ للمسلم جميله الدُّنيوي الذي عمله معه قبل إسلامه، ولم يكافئه عليه بعدُ، وأنتم – والله – أولى وأحرَى مِن غيركم بحفظ كلِّ جميل، فكيف إذا كان هذه الجميل لا يتعلَّق بالدُّنيا؛ بل بالدِّين، بل بالتَّوحيد والسُّنة، والعقيدة والسَّبيل؟
بل لو فعلنا معه مِن الخير والمعروف، والإكرام والإجلال، والإحسان ما فعلنا؛ قد لا نصل إلى مكافئته على ما لَهُ مِن جميلٌ وفضل علينا.
بل وحتَّى العلَّامة ابن باز، والعلَّامة الألباني، والعلَّامة العثيمين، والعلَّامة الوادعي -رحمهم الله – وغيرهم من علماء أهل السُّنَّة والحديث قد أصابهم شيءٌ مِن هذا الجميل؛ فتبصَّروا بكلامه وكتاباته ومقالاته بأحوال وخطر بعض الجماعات والجمعيات، وببعض الدُّعاة والدَّعوات، وبعض المؤلفات والكتابات؛ فتكلَّموا في هذه الجماعات، وهذه الدَّعوات، وهؤلاء الدُّعاة ومناهجهم، وأصبحوا يُكثرون مِن التَّطرُّق لبعض المسائل التي دخل فيها الخلل على النَّاس، ويفصِّلون فيها؛ لا سيَّما المسائل المتعلقة بوليِّ الأمر، والمناهج، والدَّعوات، والدُّعاة، والجهاد؛ والأحزاب، والبدع، حتَّى اهتدَى ورجع وتبصَّر الكثير والكثير في عامَّة البلدان.
والفضل عائدٌ في كثيرٍ مِن ذلك بعد توفيق الله وتسديده إلى هذا الشَّيخ – سلَّمه الله -، وإلى مَن سانده وعاضَده مِن المشايخ وهم قليلٌ، فهم مَن بَدأ وسَبق بهذا التبيين، وهذه المواجهة، ونالهم مِن الأذيَّة والظلم والطَّعن ما لم ينل غيرهم، فلله درُّهم، وجزاهم الله على ما أسدوه لنا مِن خيرٍ ومعروف، وجميلهم على رؤوسنا، وفي قلوبنا، فشكر الله لهم.
ألَا فالحذر الحذر! أيُّها الإخوة – سدَّدكم الله – أن نكون مِن الصِّنف الذين ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال فيهم:
«لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ».
الأمر الثاني: أن يُراعوا ويرحموا نفوسهم وتأريخهم حين كلامهم في هذا الإمام المُصلِح النَّاصِح – سدَّده الله -، أو تتغير وجوههم تبعًا لنفوسهم عند ذِكره ومدحه؛ فإنَّ الكلام فيه مظنَّة كبيرة للسُّقوط عند أهل السُّنَّة والحديث السَّلفيين عبر التاريخ، وتعاقب الأجيال، لأنَّهم إذا قرأوا كُتبه وسمعوا أشرطته فلن يجدوا فيها إلَّا نُصرة التَّوحيد و السُّنَّة وأهلهما، وقمع أهل الأهواء والبدع، والردَّ عليهم، ونقض باطلهم، والتحذير منهم.
وسيجمعون معه كلام أكابر علماء أهل السُّنَّة والحديث السَّلفيين فيه، والذين قد عاصروه وعايشوه وعرفوه وسادُوا أهل زمانهم؛ ولن يجدوا في كلامهم إلَّا الثَّناء والمدح، والإشادة والإجلال، والإكبار والإعظام، والتعزيز والنُّصرة.
ثم سيقاربونه ويقارنونه بكلامكم ومواقفكم وهمساتكم؛ وحينها سيلحظون ويجدون الاختلاف والفَرق والمخالفة؛ فيعودوا عليكم بالذمِّ والتَحذير والعَيب، وربما قالوا فيكم ما هو أشدّ.
فالله! الله! إخواني – وفَّقكم الله لكلِّ خَير – في أنفسكم التي بين جنبيكم لا تؤتَى مِن قِبَلكم، ولا تكونوا سبب القدح فيها، ولا طريق النُّفرة عنها، وكونوا رحمةً لها، لا شقاء عليها، واجعلوها محلَّ ذِكرٍ حَسنٍ، وموقفٍ مسدَّد، وتاريخ مُشرِّف مُشرق، و- والله! – ما أردتُ لكم بهذه النصيحة إلَّا الخير في الدُّنيا والآخرة، ولا أحببتُ لكم إلَّا ما فيه زَينكم وذِكركم بالطَّيب والجميل.
وفي ختام هذه الحلقة أسألُ الله تعالى أن يُمتِّع الشَّيخ ربيع بن هادي بالصِّحة والعافية، ويمنحه القوَّة والنَّشاط، ويمدَّ في عمره ويكرمه بعونه الكبير؛ ليدفع الشرَّ عن السُّنَّة وأهلها بلسانه وقلمه وكُتبه ومقالاته، وأن يرفع ذِكرَه في الدُّنيا والآخرة، ويحشره مع صفوة الخَلق مِن النبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، ويبارك له في أهله وأولاده وأحفاده وماله وتلامذته، وأن يجزيه عنَّا خير الجزاء على ما بصَّرنا به وهُدِينا إليه بسببه مِن الحقِّ والصَّواب، وأن يوفِّق الجميع إلى مرضاته وما فيه خيرهم في الدُّنيا والآخرة، إنَّه سميع الدُّعاء، عظيم الجُود والعطاء.