تبصير المُسلِم والمُسلِمة بحكم توكيل الكافر الكتابي بذبح لأضحية
الحمد لله على ما له مِن الأسماء الحُسنى، والصفات العُلى، والنِّعم الظاهرة والباطنة، وأُصلِّي وأُسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
وبعد، أيُّها المسلم ــ زادك الله علمًا بدينه ــ:
فإنَّ الأفضل أنْ يَذبح المُضحِّي أضحيته بيده، لأنَّه فِعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقُرْبَة إلى الله ــ جلّ وعزَّ ــ.
حيث قال أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ:
(( ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، يُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ )).
[ رواه البخاري (5558)، واللفظ له، ومسلم (1966). ]
وفي حديث عائشة ــ رضي الله عنها ــ:
(( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ»، ثُمَّ قَالَ: «اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ»، فَفَعَلَتْ: ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ» )).
[ رواه مسلم (1967). ]
وقال الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” (عند حديث رقم:5559)، جازمًا:
(( وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ )).
وذَكر الحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (10/ 21)، مَن وصَله، وقال عقبه:
وسنده صحيح.اهـ
وثبت عن عبد الله بن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه: (( كَانَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ بِيَدِهِ )).
رواه مالك في “الموطأ” ( 145).
وقال الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “شرح صحيح مسلم” (13/ 116 ــ عند حديث رقم:1962):
قوله: (( وَانْكَفَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَبْشَيْنِ فَذَبَحَهُمَا )).
فيه: إجزاء الذَّكر في الأضحية، وأنَّ الأفضل أنْ يَذبحها بنفسه، وهما مُجْمَعٌ عليهما.اهـ
فإنْ وكَّلَ المُضحِّي في ذبْح أو نَحْر أضحيته مُسلمًا جاز باتفاق العلماء.
وذلك لِمَا أخرجه مسلم (1218)، عن جابر بن عبد الله ــ رضي الله عنهما ــ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم: (( انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ )).
وقال الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التمهيد لِمَا في الموطأ مِن المعاني والأسانيد” (2/ 107) عقب هذا الحديث:
وفيه مِن الفِقه:
أنْ يَتولى الرَّجل نَحْر هَديه بيده، وذلك عند أهل العلم مُستحب مُستحسَن، لِفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيده، ولأنَّها قُربة إلى الله ــ عزَّ وجلَّ ــ فمباشرتها أولى.
وجائز أنْ يَنحَر الهَدى والضحايا غير صاحبها، ألا تَرى أنَّ علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ نَحَر بعض هَدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو أمْر لا خِلاف بين العلماء في إجازته، فأغْنَى عن الكلام فيه.
وأمَّا إذا كان صاحِب الهَدي أو الضَّحية قد أمَر بِنَحْر هَديه أو ذبْح أضحيته، فلا خِلاف بين الفقهاء في إجازة ذلك، كما لو وكَّل غيره بشراء هَديه فاشتراه، جاز بإجماع.اهـ
وقال الفقيه ابن رُشد المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” (2/ 449):
وأمَّا الذابح فإنَّ العلماء استحبُّوا أنْ يكون المُضحِّي هو الذي يَلي ذبح أضحيته بيده.
واتفقوا على أنَّه يجوز أنْ يُوكِّل غيره على الذبح.اهـ
وقال الفقيه الشافعي أبو زكريا النَّووي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المجموع شرح المُهذَّب” (8/ 382):
أجمعوا على أنَّه يجوز أنْ يَستنيب في ذبح أضحيته مسلمًا.اهـ
وبنحوه في شرحه على “صحيح مسلم” (13/ 129 ــ عند حديث رقم:1966).
ونَقل الإجماع أيضًا:
علاء الدين ابن العطَّار الشافعي في “العُدة في شرح العمدة” (3/ 1638)، وابن حَجَر العسقلاني الشافعي في “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (10/ 21 ــ عند حديث رقم:5558)، والمُناوي الشافعي في ” فيض القدير شرح الجامع الصغير” (5/ 214 ــ عند حديث رقم: 7025).
وقال الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “شرح صحيح مسلم” (13/ 129 ــ عند حديث رقم:1966):
قال أصحابنا: والأفضل لِمَن وكَّل أنْ يُوكِّل مسلمًا فقيهًا بباب الذبائح والضحايا، لأنَّه أعرَف بشروطها وسُننها.اهـ
وأمَّا توكيل المرأة، والمراهق.
فقد قال الفقيه عون الدين ابن هُبيرة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإفصاح عن معاني الصِّحاح” (1/ 335 ــ قسم اختلاف العلماء):
واتفقوا ــ أي: الأئمة الأربعة ــ على أَنَّ ذبْح العَبْد مِن المسلمين في الجواز كالحرِّ وامرأة مِن المسلمين، والمُراهق في ذلك كالرَّجل.اهـ
وأمَّا توكيل الكافر الكِتابي ــ وهو: اليهودي والنّصراني ــ في ذبْح الأضحية:
فجائز عند عامَّة أهل العلم مع الكراهة، لأنَّه مِن أهل الذَّكاة، بنصِّ القرآن.
وقال الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “شرح صحيح مسلم” (13/ 129 ــ عند حديث رقم:1966):
وإنْ استناب كتابيًّا كُرِه كراهية تَنزيه، وأجْزَأه، ووقعَت التَّضحية عن المُوكِّل.
هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة، إلا مالكًا فى إحدى الروايتين عنه، فإنَّه لم يُجوِّزها.اهـ
ودليل الجواز أنَّه مِن أهل الذَّكاة كالمسلم، لِقول االله سبحانه في سورة المائدة:
{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ }.
وقال العلامة السعدي ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” (1/ 221)، عند هذه الآية:
أي: ذبائح اليهود والنَّصارى حلال لكم يا معشر المسلمين دون باقي الكفار، فإنَّ ذبائحَهم لا تَحِل للمسلمين، وذلك لأنَّ أهل الكتاب ينتسبون إلى الأنبياء والكتب.اهـ
وقال الفقيه عون الدين ابن هُبيرة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإفصاح عن معاني الصِّحاح” (1/ 335 ــ قسم اختلاف العلماء):
واختلفوا هل يجوز أنْ يذبحها كِتابي؟
فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز مع الكراهة.
وقال مالك: لا يجوز أَنْ يذبحها إلا مسلم.
وعن أحمد روايتان كالمذهبين، أشهرهما الجواز.اهـ
وقال الفقيه جمال الدين الصردفي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المعاني البديعة في معرفة اختلاف أهل الشريعة” (1/ 408):
عند الشافعي وأحمد وأكثر العلماء:
يُكره أنْ يَستنيب في ذبْح أضحيته أو هَديه يهوديًا، ويُجزئه.
وعند مالك: لا يجوز، فإنْ استناب مَن ذَكرناه وذبحها لم يُجزئه، وكانت شاة لحم.اهـ
ومِمَّن نُقل عنه الجواز مِن التابعين:
إبراهيم النَّخعي، وعطاء بن أبي رباح ــ في رواية صحيحة عنهما ــ، والزُّهري.
وقال الإمام مُوفَّق الدين ابن قُدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُغني” (13/ 389):
وجُملته أنَّه يُستحب أنْ لا يذبح الأضحية إلا مسلم، لأنَّها قُربة، فلا يَليها غير أهل القُربة، وإنْ استناب ذِمِّيًّا في ذبحها جاز مع الكراهة.
وهذا قول الشافعي، وأبي ثور، وابن المُنذر.
وحُكي عن أحمد: لا يجوز أنْ يذبحها إلا مسلم.
وهذا قول مالك.
ومِمَّن كَرِه ذلك: عليٌّ، وابن عباس، وجابر ــ رضي الله عنهم ــ، وبِه قال الحسن، وابن سِيرين.اهـ
ثُمَّ قال ــ رحمه الله ــ في ترجيح الجواز:
ولنا: أنَّ مَن جاز له ذبْح غير الأضحية، جاز له ذبْح الأضحية كالمسلم.
ويجوز أنْ يَتولى الكافر ما كان قُرْبة للمسلم، كبناء المساجد والقناطر.
والمُستحب أنْ يَذبحها المسلم لِيَخرُج مِن الخلاف، وإنْ ذبَحها بيده كان أفضل.اهـ
وقال الفقيه ابن حزم الظاهري ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُحلَّى” (6/ 44 – مسألة رقم:983):
ونَستحِبُّ للمُضحِّي رجلًا كان أو امرأة أنْ يذبح أضحيته أو يَنحرها بيده، فإنْ ذبحها أو نَحَرَها له بأمْره مسلم غيره، أو كتابِيٌّ، أجزأه، ولا حرَج في ذلك.
وقولنا هذا، هو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان.اهـ
وقال الفقيه بدر الدين العَيني الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “البَناية شرح الهداية” (12 / 59)، بعد ذِكر الجواز عند الحنفية:
وبِه قال الشافعي، وأحمد، وأبو ثَور، وابن المُنذر، وقال مالك: لا يجوز أنْ يذبحها إلا مسلم.اهـ
وقال الفقيه أبو العباس القرطبي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُفهِم لِمَا أشكل مِن تلخيص كتاب مسلم” (5/ 362 ــ عند حديث رقم:1960):
واختُلِف في الذِّمِّي، فأجاز ذلك عطاء ابتداءً، وهو أحد قولي مالك، وقال في قولٍ له آخَر: لا يُجزئه، وعليه إعادة الأضحية.
وكَرِه ذلك جماعة مِن السَّلف، وعامَّة أئمَّة الأمصار، إلا أنَّهم قالوا: يُجزئه إذا فَعَل.اهـ
وبنحوه في كتاب “إكمال المَعْلم بفوائد مسلم” (6/ 413 ــ عند حديث رقم:1967)، للقاضي عياض المالكي ــ رحمه الله ــ.
ومِمَّن رُويَت عنه الكراهة مِن التابعين:
سعيد بن جبير، والحسن البصري، وعطاء الخرساني، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن ابي رباح في رواية، وعامر الشَّعبي، وطاوس بن كيسان.
وجاء عن جابر بن عبد الله ــ رضي الله عنهما ــ:
(( أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَذْبَحَ النُّسُكَ إِلَّا مُسْلِمٌ )).
أخرجه أحمد ابن منيع كما في “المطالب العالية” (2292)، و “إتحاف الخِيَرة المَهَرة” (4759).
وإسناده حسن.
وجاء نحوه عن:
علي بن أبي طالب، وابن عباس ــ رضي الله عنهم ــ .
وضعَّفهما ابن حَزم الظاهري ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُحلَّى” (6/ 45 – مسألة رقم:983).
ثُمَّ قال بعد ذلك:
إلا أنَّه عن الحسن، وإبراهيم، والشَّعبي، وسعيد بن جُبير، صحيح.اهـ
تنبيه مُهِم جِدًّا:
قال الفقيه ابن جاسر الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “مُفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام” (ص:915):
ومُراد الأصحاب جواز توكيل الذِّمي الكتابي في ذبيحة هَدي المسلم أو أضحيته إذا كان الكتابي يَذبح الأضحية أو الهَدي أو يَنحرهما في موضعه الشرعي بشروطه المُعتبَرة.
أمَّا إنْ كان يذبحها بضربِ المسامير أو الفؤوس في الرأس ونحوه، أو بالكهرباء كما عليه عمل بعض النصارى في هذا الزَّمن، فإنَّه لا يَصحُّ توكيله، ولا تَحِلُّ ذبيحته بذلك، لأنَّ ذبْحَه للبهيمة على هذه الصِّفة لا يُسمَّى ذكاة، ولا تَحِلُّ بذلك، بل حكمها حُكم المَيتَة، فهي حرام كما لو فَعَل ذلك مسلم، وأولى.اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.