إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > الفقه > خطبة مكتوبة بعنوان: ” الترهيب مِن الوظائف والمِهن المحرمة وكسْب الحرام وأكله “.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” الترهيب مِن الوظائف والمِهن المحرمة وكسْب الحرام وأكله “.

  • 25 أكتوبر 2017
  • 11٬522
  • إدارة الموقع

 التَّرهيب مِن الوظائف والمِهن المحرَّمة وكسْب الحرام وأكله

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــ

الحمد لله المُتكفِّلِ بأرزاق جميع العبيد، الذي هداهم إلى تحصيل رِزقه بالأسباب المُتنوعة مِن عملٍ سهل وشديد، ومكانٍ قريب وبعيد، وبيَّن لهم الحلال وأمرهم بالأكل مِنه ووعد مَن شَكره عليه بالمزيد، وزجَرهم عن الكسْب الحرام وبيَّنه وأغلظ فيه الوعيد والتَّهديد، وأشهد أنْ لا إله إلا الله الفعَّال لِما يُريد، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله أكملُ العبيد، ومُوضِحُ شرع ربِّه السَّديد، والآمرُ عباد الله بالتوحيد، والناهي لهم عن الشِّرك والتنديد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه السالكين صراط العزيز الحميد.

أما بعد، فيا عباد الله:

اتقوا الله ربكم حق تقواه، باتباع أوامره، والعمل بما فرض، واجتناب ما حرَّم، فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، واعلموا أنَّ تقواه ــ جلَّ وعلا ــ مِن أعظم أسباب جلْب الرِّزق وسَعته، وتيسير طُرقه، وتعدُّد مصادره المباحة، حيث قال سبحانه: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }.

وصِلةُ الأرحام – قرُبوا أم بعُدوا – طاعةٌ لله جليلة، وهي مِن تقواه سبحانه، وقد تفضَّل فجعلها مِن أسباب بَسْط الرزق، وطول العُمر، حيث صحَّ عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ )).

وشُكرُه ــ عزَّ وجلَّ ــ على نِعمه مِن أعظم العبادات، وهو مِن تقواه سبحانه، وقد تفضَّل فجعله مِن أسباب زيادة الرِّزق والنِّعم، فقال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ }.

ويُقويِّ ذلك ويزيد مِن إيضاحه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ )).

عباد الله:

إنَّ أرزاقكم ليست بيد سُلطان، أو تاجر، أو هيئةٍ إغاثية، أو شركة، أو غيرهم، بل هي بيد الله وحدَه، ومِنه سبحانه، فهو الرَّازِق والرَّزَّاق، فابتغوا الرِّزق مِن عنده، حيث أمركم بذلك فقال ــ جلَّ وعزَّ ــ: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ }.

ولا تقلقوا على أرزاقكم، وتُرهِقوا أنفسَكم بالهموم لأجْلِها، فقد كُتِبت قبل وجودكم وخروجكم إلى الدنيا، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ )).

ورِزقُ العبد الذي كَتب الله أنْ يحصل له في حياته الدنيا آتيهِ لا محالة، شاء أم أبَى، ولن يموت حتى يستكمِلَه، لِما ثبت عن النبي صلى لله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ )).

عباد الله:

احذروا طلب الرِّزق عن طريق الأعمال والوظائف والمكاسب والسِّلع والمِهن المحرَّمة، واحذروا أكلَه عن طريق الكذب والغِش والخِداع والتَّغرير والتَّدليس والسَّرقة والرِّشوة والحِيَل والابتزاز والاختلاس، واحذروا أكلَه عن طريق أموال الزكاة وأنتم مِمَّن لا يحِلُّ لهم أخذها، فإنَّ عاقبة أكل الحرام في الآخرة وخيمة وفظيعة، إذ النار أولى بالجسد الذي تغذَّى ونَبَت مِن حرام، حيث ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ )).

والسُّحت هو: المال الحرام.

وصحَّ في حديث أبي سعيد ــ رضي الله عنه ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ )).

وصحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ )).

وقضيب الأراك، هو: عُود السِّواك.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ عَلَيْهِ رِزْقًا، فَمَا أَصَابَ سِوَى رِزْقِهِ، فَهُوَ غُلُولٌ )).

بل وأكلُ المال الحرام أيضًا مِن أعظم أسباب عدم إجابة الله دعوة صاحبه إذا دعاه، حيث صحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ )).

وعاقبة الكسْب الحرام على المال في الدنيا قبيحة وشنيعة، فهو يَمحق البركة، ويَجعل المال المُكتَسَب ممحوقَ البركة، حيث قال الله سبحانه: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ }.

وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا )).

وصحَّ عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ )).

عباد الله:

إنَّ غالب الأعمال والوظائف والمكاسب والمِهن والسِّلع المحرَّمة بيِّنَةٌ واضحة لا تخفى، ولا حُجَّة لأهلها على العمل فيها، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ ))

وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ ))

فمَن موَّه على الناس أو خرَّج وتعذَّر لنفسه في عمله المحرَّم، أو كسبه المحرَّم، أو مِهنته المحرَّمة، أو أكله الحرام، فإنَّما والله يُخادع ويَضُرُّ بذلك نفسه، بل إنَّه قد جمع بين سيئتين عظيمتين:

سيئة أكله الحرام، وسيئة تبريره وتسويغه لِمَا حُرِّم.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَان لاَ يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ )).

وإنَّ كل واحد مِنَّا سيُسأل يوم الحساب والجزاء عن ماله مِن أين اكتسبه، أَمِنْ حلال أو حرام؟ وفيما أنفقه، أفي بِرٍّ ومعروف ومباح أو إسراف وتبذير ومحرَّم ومُنكَر؟، إذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ )).

بل إنَّ الفقراء يَسبقون الأغنياء إلى دخول الجنة، حبَسَتْهُم الأموالُ والمحاسبة عليها، إذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُ مِائَةِ عَامٍ )).

وصحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينَ، وَأَصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ )).

وأصحاب الجَدِّ، هم: أهلُ الغِنى والحظوظِ الدنيوية مِن المال والجاه.

والغِنَى يحصل بسببه كثير مِن الفساد والبغي في الأرض، ولهذا لم يَبسطه الله لجميع عباده، حيث قال ــ عزَّ مِن قائِل ــ ممتنًّا: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ }.

ولَمَّا كانت تَبِعَةُ المال والغِنى عظيمةً وشديدة دُعي أصحابه إلى مَزِيد بذلٍ منه وإنفاق في مصارف البِرِّ والإحسان، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال مُرغِّبًا أهله ومُرهِّبًا: (( إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ )).

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال مُحرِّضًا التُّجار على الصدقة: (( يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ وَالإِثْمَ يَحْضُرَانِ البَيْعَ، فَشُوبُوا بَيْعَكُمْ بِالصَّدَقَةِ )).

وحين دعا النبي صلى الله عليه وسلم لآل بيته بالرِّزق ــ وهُم أحِبَّتُه ــ لم يَدْع لهم بِبَسْطه، بل دعا أنْ يكون كَفافًا، فصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا )).

والقُوت والكَفاف مِن الرِّزق، هو: الذي يكون بقدر الحاجة.

ومَن كان رِزقه كذلك فقد حاز وحصَّل خيرًا كثيرًا، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ )).

وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَخش على أمته الفقر، وإنما خشِي أنْ تُبسط عليهم الدنيا فيلتهوا بها، ويتنافسوا عليها، ويَهلكوا بسببها، حيث صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ )).

أعوذ بالله مِن الشيطان الرجيم: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }.

وسبحان ربك، ربِّ العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــ

الحمد لله الذي بنعمته تتِمُّ الصالحات، وصلى الله على سيِّدنا محمد النبيِّ الأمِّيِّ، وآله وأصحابه وسلَّم، وبالله أستعين.

أما بعد، فيا عباد الله:

لقد كان السَّلف الصالح وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحرصَ الناس على تنقية أموالهم مِن الحرام، وإبعاد أجسادهم وأهليهم عن التغذِّي والاستمتاع بالحرام، وأوْرعَهم عما اشتبه وجُهِل وحصلت فيه رِيبَة، وقد ضربوا لِمَن بعدهم أعجب وأوعظ الصُّوَر والعِبَر في ذلك، حتى إنَّ صِدِّيق الأمة أبا بكر ــ رضي الله عنه ــ أخرج مِن بطنه طعامًا دخل إليه مِن كسب فيه مُخادعة، وكسَبَه غيره، وهو جاهلٌ عنه، فصحَّ عن أم المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ )).

وأخرج مالك بالسَّند الصحيح إلى زيد بن أسلم أنَّه قال: (( شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَناً فَأَعْجَبَهُ، فَسَأَلَ الَّذِي سَقَاهُ، مِنْ أَيْنَ هذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ، قَدْ سَمَّاهُ، فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، وَهُمْ يَسْقُونَ، فَحَلَبُوا  مِنْ أَلْبَانِهَا، فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي، فَهُوَ هذَا، فَأَدْخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَهُ )).

فأخرج عمر ــ رضي الله عنه ــ لِعِظم ورَعه اللَّبَن مِن بطنه لَمَّا علِم أنَّه مِن إبل الصدقة، وهو قد كان غَنِيًّا لا تَحِلُّ له الصدقة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد صحَّ عنه أنَّه قال: (( لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ )).

وذو المِرة السَّويِّ، هو: القوي الصحيح القادر على الكسْب.

اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، ويسِّر لنا في الأرزاق، وبارك لنا في أقواتنا، وقنِّعنا بما رزقتنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا تجعلها تلهنا عن آخرتنا، ووفقنا لما ينفعنا في معادنا، وجنِّبنا الكذب والغش في معاملاتنا، وارزقنا الصدق والنصح، اللهم اجعلنا مِن الشاكرين لنعمَائك، والصابرين على أقدارك، واجعل ما أنعمت به علينا معونة لنا على الخير، ولا تحرمنا خير ما عندك مِن الإحسان بِشرِّ ما عندنا مِن الإساءة والعصيان، اللهم ارفع الضر عن المتضررين من المسلمين، وارفع عنهم القتل والاقتتال، والخوف والجوع، والجلاء مِن أوطانهم، والأوبئة والأمراض، وارزقهم إيمانًا بك متزايدًا، وصبرًا كبيرًا وثباتًا، وثقة بك، وتوكلًا عليك، إنك سميع الدعاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.