إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > التربية > خطبة مكتوبة بعنوان: “تسلية أهل الإيمان بما يُخفِّفُ الهموم والغموم والكُروب والأحزان “.

خطبة مكتوبة بعنوان: “تسلية أهل الإيمان بما يُخفِّفُ الهموم والغموم والكُروب والأحزان “.

  • 19 أبريل 2018
  • 13٬895
  • إدارة الموقع

تسليةُ أهل الإيمان بما يُخفِّفُ الهموم والغموم والكُروب والأحزان

 

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله سامعِ الأصوات، مُجيب الدعوات، وقاضي الحاجات، وكاشف البليَّات، ومُفرِّج الكُربات، والمُطلِّع على ما في القلوب والنِّيات، وما يُفعَل علنًا وفي الخفيَّات، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تُنجِي قائلها مِن وبال التَّبِعَات، وتُبوِّؤُه منازلَ أهلِ الكرامات، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله السِّاعي بين الناس بالخيرات، والداعي إلى الطاعات، صلَّى الله عليه وآله وأصحابه صلاةً تَبلُغ أعلى الدَّرجات، في سواء الجنَّات.

أمَّا بعد، فَيَا معاشِر أهل الإسلام:

إنَّ ابتلاءَ أهلِ الإيمان بدخول الهُموم والغُموم والأحزَان على قلوبهم، وزيادَتها لهم أكثر مِن أهل الكفر والفجور، وحصولَ البلاء والكُروب والشدائد عليهم في دينهم، أو أبدانهم، أو أهليهم، أو معاشهم وأرزاقهم، أو ديارهم: أمْرٌ مُقَدَّر ومكتوب لا مَهرب مِنه، إذ أقسَم الله العظيم بأنَّه سَيبتلي المؤمنين ببعض ذلك اختبارًا لإيمانهم، وتمحيصًا لإسلامهم، فقال سبحانه: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }، وقال ــ عزَّ شأنه ــ: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }، وثبت عن سعد بن أبي وقاص ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ )).

وبعض الناس قد يُبتلى بِبَسط الدنيا، وزيادةِ المال، وعظيمِ الشُّهرة، وعُلوِّ المكانة، وعتيد القوة والسَّطوة، وهذا أخطر على العبد مِن جهة دِينه وآخرَتِه، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ )).

وإنَّه بسبب الإيمان بالله، والدُّخول في دينه الإسلام تقِلُّ جدًا آثار وأخطار الهُموم والغُموم والأحزان والكُروب والشدائد، فترى كثيرًا مِن الكفار يُصابون بذلك فينهارُون سريعًا، ويُقدِمون على قتل أنفسهم تخلُّصًا ممَّا أصابهم، حتى بلغت حالات الانتحار في البلد الواحد مِن بلدانهم الآلافَ الكثيرة، بل أصبح السَّماع عنها عند جُموع عديدة مِنهم عاديًّا لا يؤثِّر فيهم، بسبب كثرة حصوله، وأمَّا المستشفيات فمِن أكثرِ رُوَّادِها ونُزلائها عندهم مرضى الانهيارات العصبية، والصَّدمات النفسية، وحالات الاكتئاب.

معاشِر أهل الإسلام:

إنَّ مِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: التَّسلُّحَ بالإيمان المقرون بالعمل الصالح، والسَّعيَّ في تقويته وزيادتِه بالإكثار مِن الطاعات القولية والفعلية والقلبية، لقول الله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }.

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: تسلِيةُ النَّفس وتذكيُرها بالعواقب الحميدة للصَّبْر على المصائب والكُروب والأحزان والهُموم والابتلاءات، مِن تكفيرٍ للسيئات، وتكثيرٍ للحسنات، ورِفعةٍ في الدرجات، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ ،وَلا حُزْنٍ، وَلا أَذًى، وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ))، وفي لفظ آخر صحيح: (( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلا نَصَبٍ، وَلا سَقَمٍ، وَلا حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ ))، بل وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوْ الْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ، وَفِي مَالِهِ، وَفِي وَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ ))، وإذا علِم العبد أنَّ ما يُصيبه مِن الهُموم والمصائب والآلام يُكفِّر سيئاته، فرِح، واستبشر، واطمأن قلبه، وارتاحت نفسه، ودخلَه الأنس، وزال هَمُّ قلبه أو خَفَّ، بل قد يَتلذذ به، ويَجِد له حلاوة.

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: معرفة أنَّ الدنيا ليست محلًّا لبقاء المؤمن، ولا لراحته، بل هي ممَرٌّ قصير يَتزوَّد مِنه لِمحَلِّ راحته وسعادته الأبدية جنَّة الخُلد التي لا همَّ فيها، ولا حُزن، ولا ضِيق، ولا كَرْب، ولا ألَم، فليكن همُّه الأكبر هو العمل لإصلاح آخرته، وتحسين حاله يوم القيامة، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ))، لأنَّ المؤمن يَكدَح في الدنيا، ويَعمل كثيرًا لأجل آخِرَتِه، بخلاف الكافر فهمُّه الأكبر أنْ يَحصل على المتعة والسعادة في الدنيا، وهي له جنَّة بالنِّسبة لِمَا سيجدُه مِن عذاب في الآخرة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( أَنَّه مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، فَقَالُوا: مَا الْمُسْتَرِيحُ وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ، فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إلى رحمة الله، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ )).

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: أنْ يتذكَّر المؤمن أنَّه سيُعوَّض خيرًا يوم القيامة عن كل ما مرَّ به مِن ألم وهَمٍّ وحُزن وغَمٍّ وكَرْب وبلاء ومرَض، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ )).

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: أنْ يَجعل العبدُ الآخرةَ همَّه، وبهذا تَقوَى نفسُه، ويكون قلبُه متَّصِلًا بربِّه، فيطمأِن ويرتاحَ ويأنس، ولا تُؤثِّر عليه مصائب الدنيا وآلامها، ولا همُومها وأحزانُها، وأمَّا إنْ جَعل دنياه هي همَّه، وانشغل بها عن آخرته، فسيتأثَّر بكل ما يَحصل له فيها، ويَضيق صدره، ويَزداد همُّه وغمُّه، ويَكبُر حُزنُه وأرَقُه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ )).

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: ترْكُ الذُّنوب، فهي تُسبِّب عقوبات الله العاجلة، وتتسبَّب في قسوة القلب، وضيق النَّفْس، وتُكدِّر الذِّهن، بخلاف الطاعة فإنَّها تسُرُّ النَّفْس، وتَشرح الصدر، وتَجلِب الاطمئنان، حيث قال الله سبحانه في تقرير ذلك: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }، وثبت: (( أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ ــ رضي الله عنه ــ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: مَا أُرَاهُ إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ، وَتَلَا: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } )).

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: الإكثار مِن ذِكر الله تعالى واستغفاره ودعائه وتلاوة القرآن كلمَّا وجَد العبد فُرصة، يَفعل ذلك في بيته، ومركبته، وعمله، وسُوقه، وطريقه، وحال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه، فإنَّ هذا يُشعِرُه بالرَّاحة والسعادة، وطُمأنينة النَّفْس، وهدوء البال، لأنَّه يَحسُّ بتعلق قلبِه بربِّه سبحانه، وقُربِه مِنه، ويتلذَّذ بما يَفعل، ويَذوق حلاوته، لإحساسه أنَّه يَعمُر آخرته، وقد قال الله عن أهل هذا الحال: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }، وصحَّ عن أمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ ))، وقال ــ جلَّ وعزَّ ــ عن المعرضين الغافلين عن ذِكره: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }.

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: أنْ ينظرَ العبدُ إلى مُصاب مَن هو أعظم مِنه، وما هو فيه مِن نِعمٍ كثيرة ومتنوِّعة، فإنَّ هذا يُخفِّف عنه هُمومَه وأحزانَه وكَربَه وبلاءه، ويُضعِف آلام ذلك على نفسه، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ )).

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: أنْ لا يشغل العبدُ نفسَه بالخوف على رِزقه، أو على مُستقبله ومُستقبل أبنائه وبناته، أو الخوف مِن حصول مكروه وضيق له، أو لأهله، أو لِمَن يُحِب، فجميعهم تحت قضاء الله وقدره، وما كتبه عليهم كائن، لا دافع له عنهم ولا رادّ، وما لم يكتبه فلن يَحصُل ولو تعاون جميع مِن في الأرض على فعله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ )).

وحين ذَكر الله السِّحر والسَّحرة في سورة البقرة، فقال سبحانه: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }، طمأنَ قلوبَ عباده وربَطَ جأشها على الفور، فقال: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }، وثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ))، ألا فلنَطِب نفسًا، ولا يَضَيق لنا صدرًا، ولا نُكدِّر خاطرًا، ولا نُرعِب أهلًا أو زوجًا أو ولدًا، ولنَنَم سُعداء، ولنَخرُج مطمئنين، وسُبحانَ ربِّك، ربِّ العِزِّة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالَمين.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله الرَّءُوف الرَّحيم، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على سيِّدنا محمد آله وصحبه، وحسبنا الله ونِعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وبَعْدُ، معاشِر المسلمين:

فإنَّ مِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: الإكثارَ مِن استعمال الأذكار والأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب الهَمِّ والغَمِّ والحُزن والكَرب والبَلاء بقلْبٍ حاضر، وذِهن صافٍ، ونفس مُتعلِّقة بالله، إذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ))، وصحَّ عن أنس ــ ر ضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ ))، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ:اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدك، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ،عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ: أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا ))، وصحَّ عن ابن عباس ــ ر ضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ))، وثبت عن أسماء بنت عُميس ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ: أَللَّهُ أَللَّهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا )).

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: الإكثارُ مِن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مِمَّا يُفَرِّج الله به عن عباده الهُموم، فقد ثبت عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي؟ فَقَالَ: “مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ”، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: “إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ ))، ومعنى: (( أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا )) أي: أجعلُ دعائي كلَّه صلاةً عليك، والصلاة في لُغة العرب: الدعاء.

ومِن أدْوِيةِ الهُموم والغُموم والأحزَان والكُرُوب: لجوءُ العبد وفزعه إلى الصلاة، واستعانته بها على تخفيف ما أصابه، لقول الله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }، وفي حديثٍ حسَّنَه المُحَدِّثَان ابنُ حَجَرٍ والألبانيُّ عن حذيفةَ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى ))، ومعنى: (( حزَبَه أَمْرٌ )) أي: هجَم عليه، ونَزَل بِه هَمٌّ أو غَمٌّ.

وقال العلماء: يُستفاد مِن هذا الحديث أنَّ الرجل إذا نزَل بِه أمرٌ يَهُمه، يُستحب له أنْ يُصلِّي.

وقال الإمام الشنقيطي ــ رحمه الله ــ: لأنَّ الصلاة هي أكبرُ مُعِينٍ على ذلك؛ لأن العبدَ إذا وقَف بين يَدَيِ ربِّه يُناجِي ربَّه ويتلو كتابَه، تَذَكَّرَ ما عند اللَّه مِن الثوابِ، وما لدَيِه مِن العقابِ؛ فَهَانَ في عينِه كلُّ شيء، وهانَت عليه مصائبُ الدنيا، واسْتَحْقَرَ لذَّاتِها، رغبةً فيما عندَ اللَّه، ورهبةً ممَّا عند الله.اهـ

وصحَّ أنَّ ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: (( نُعِيَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُثَمُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ تَنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ، فَأَنَاخَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَامَ يَمْشِي إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } )).

اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا وما أسرَفنا، وما أنت أعلم به مِنا، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت، اللهم طهِّر قلوبنا مِن الغِلِّ والحقد والحسد والنِّفاق، وألسنتنا مِن الشِّرك والكذب واللعن والغيبة والنميمة، اللهم فرِّج همومنا، ونفِّس كروبنا، وهوِّن علينا بلوانا، واجعلنا مِن الصابرين، اللهم اغفر لنا، ولأهلينا، ولجميع المؤمنين، إنك سميع الدعاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.