اتفاق الأئمة النبلاء على ترك مناظرة أهل البدع والأهواء
الحمدُ لله العليِّ العظيم، الـبَـرِّ الرحيم، اللطيف الخبير، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الكريم محمد، وعلى جميع النبيين، وآلِ كُلٍّ، والصحابة والتابعين.
أما بعد، أيها القارئ السُّنِّي الحصيف – جـنَّبك الله الفتن وأهلها ودعاتها -:
فهذه وُريقاتٌ تفيدُك بإذنِ الله – تعالى- في معرفةِ حُكمِ ما انتشرَ في أيامنا هذِه من المناظرات المسموعة والمرئية مع أهل البدع من الرافضة، أو المتصوفة، أو التكفيريين، أو غيرهم، عبر بعض القنوات الفضائية أو الإذاعات.
وقد دبَّجتُها وجمَّلتُها بكلامِ أئمتِنا الماضين، وأسلافِنا الصَّالحين، وكبرائِنا النابهين، وأرجو من الله – جلَّ وعلا – أن يرزقكَ نفعَ صوابِها، وأن يشرحَ صدركَ لها، وأن يزيدكَ علمًا ورشدًا، وأن تكون نابهًا، إنه سميع مجيب.
ودُونَك هؤلاءِ الأئمة وكلامهم حول المناظرات مع مرجعه ومصدره:
أولاً – ما قاله إمام أهل السنة والحديث أحمد بن محمد بن حنبل – رحمه الله تعالى –.
حيث ذَكر قوله الإمام ابن بطة العكبري – رحمه الله – في كتابه «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة» (2/ 471-472، رقم:481 – تحقيق: رضا نعسان) فقال:
«حدثني أبو صالح محمد بن أحمد قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عيسى بن الوليد العكبري قال: حدثني أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل قال:
كتب رَجلٌ إلى أبي عبد الله – رحمه الله – كتابًا يستأذنه فيه أن يضع كتابًا يشرحُ فيه الردَّ على أهل البدع وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ويحتجَّ عليهم،
فكتبَ إليه أبو عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كلَّ مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا [ من سلفنا ] من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله أو سُنة رسول الله، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لِتردَّ عليهم؛ فإنهم يُلَبِّسون عليك، وهُم لا يرجعون، فالسلامةُ – إن شاء الله – في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم.
فليتقِ الله امرؤٌ، وَلْيَصِر إلى ما يعودُ عليه نفعُه غدًا من عملٍ صالح يقدِّمه لنفسه، ولا يكن مِمَّن يُحدِث أمرًا، فإذا هو خرج منه أراد الْحُجَّة، فيحمِل نفسه على المحال فيه، وطلب الْحُجَّة لِمَا خرج منه بحقٍّ أو بباطل، ليزيِّن به بدعته وما أحدث، وأشد من ذلك أن يكون قد وضعه في كتاب قد حُمل عنه، فهو يريد أن يزيِّن ذلك بالحقِّ والباطل وإن وضح له الحقُّ في غيره، ونسأل الله التوفيق لنا ولك، والسلام عليك». اهـ
وقد ذَكر أولَّ هذه الرسالة العلامةُ أبو عبد الله ابنُ مفلح الحنبلي – رحمه الله – في كتابه «الآداب الشرعية» (1/ 220 – تحقيق: الأرناؤوط) وما بين القوسين زيادةٌ منه.
وقال ابن بطة – رحمه الله – في كتابه «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة» (2/ 539-540، رقم:677 – تحقيق: رضا نعسان):
حدثني أبو صالح، قال: حدثناأبو جعفر محمد بن داود، قال حدثنا أبو الحارث، قال: (( سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إِنَّ هَهُنَا رَجُلًا يُنَاظِرُ الْجَهْمِيَّةَ, وَيُبَيِّنُ خَطَأَهُمْ, وَيُدَقِّقُ عَلَيْهِمُ الْمَسَائِلَ فَمَا تَرَى؟ قُلْتُ: “لَسْتُ أَرَى الْكَلَامَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ, وَلَا أَرَى لِأَحَدٍ أَنْ يُنَاظِرَهُمْ , أَلَيْسَ قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: «الْخُصُومَةُ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ, وَالْكَلَامُ الرَّدِيءُ لَا يَدْعُو إِلَى خَيْرٍ لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ كَلَامٍ , تَجَنَّبُوا أَصْحَابَ الْجِدَالِ وَالْكَلَامِ, عَلَيْكُمْ بِالسُّنَنِ, وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ قَبْلَكُمْ, فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ, وَالْخَوْضَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ , وَالْجُلُوسَ مَعَهُمْ, وَإِنَّمَا السَّلَامَةُ فِي تَرْكِ هَذَا, لَمْ نُؤْمَرْ بِالْجِدَالِ, وَالْخُصُومَاتِ مَعَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ, فَإِنَّهُ سَلَامَةٌ لَهُ مِنْهُ» )).اهــ
ثانـياً – ما قاله الإمام محمَّد بن الحسين الآجري – رحمه الله –.
حيثُ قال في كتابه «الشريعة» (1/ 451-452 – تحقيق: الدميجي) أو (1/ 195-196- تحقيق: الوليد بن محمد) أو (ص:63-64 – تحقيق: عصام بن موسى هادي):
«فإن قال قائل: فإن كان رَجُلٌ قد علَّمه الله-عز وجل- علمًا فجاءه رجلٌ يسأله عن مسألةٍ في الدِّين يُنازعه فيها ويخاصمه، ترى له أن يناظره حتى تثبُت عليه الْحُجَّة، ويردَّ عليه قوله؟.
قيل له: هذا الذي نُهينا عنه، وهو الذي حذَّرنَاه مَن تقدَّم من أئمَّة المسلمين.
فإن قال قائل: فماذا نصنع؟.
قيل له: إن كان الذي يسألك مسألته، مسألة مسترشد إلى طريق الحقِّ لا مناظرة، فأرشده بألطفِ ما يكون من البيان بالعلم من الكتاب والسنة، وقول الصحابة، وقول أئمة المسلمين – رضي الله عنهم -، وإن كان يريد مناظرتك ومجادلتك، فهذا الذي كَرِه لك العلماء، فلا تناظره، واحذره على دينك، كما قال مَن تقدَّم من أئمَّة المسلمين إن كنت لهم مُـتـَّبعـًا.
فإن قال: فـنَدعُهم يتكلمون بالباطل، ونسكت عنهم؟!.
قيل له: سكوتك عنهم وهجرتك لِمَا تكلَّموا به أشدُّ عليهم من مناظرتك لهم، كذا قال مَن تقدَّم مِن السلف الصالح مِن علماء المسلمين». اهـ
وقال أيضًا (1/ 454-455 – تحقيق: الدميجي) أو (1/ 197- تحقيق: الوليد بن محمد) أو (ص:65 – تحقيق: عصام موسى هادي):
«فإن قال قائل: فإن اضَّطرني الأمر وقتًا من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الـحُجَّة عليهم ألا أناظرهم؟.
قيل له: الاضِّطرارُ إنما يكون مع إمامٍ له مذهبُ سوء، فيمتحن الناس، ويدعوهم إلى مذهبه، كفِعل مَن مضى في وقت أحمد بن حنبل، ثلاثةُ خلفاء امتَحنوا الناس، ودعَوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بُدًّا من الذبِّ عن الدِّين، وأرادوا بذلك معرفة العامَّـة الحقَّ من الباطل، فناظروهم ضرورةً لا اختيارًا، فأثبت الله تعالى الحقَّ مع أحمدَ بنَ حنبل، ومَن كان على طريقته، وأذلَّ الله العظيم المعتزلة وفضحهم، وعرفتِ العامَّـةُ أن الحقَّ ما كان عليه أحمد ومَن تابعه إلى يوم القيامة، وأرجو أن يعيذ اللهُ الكريم أهلَ العلم من أهل السنة والجماعة من محنةٍ تكونُ أبدا». اهـ
وقال أيضًا (1/ 461-464 – تحقيق: الدميجي) أو (1/ 201-202 – تحقيق: الوليد بن محمد) أو (ص: 667-668 – تحقيق: عصام موسى هادي):
«فإن قال قائل: هذا الذي ذكرته وبيَّنته قد عرفناه، فإذا لم تكن مناظرتنا في شيءٍ من الأهواء التي ينكرها أهلُ الحقِّ، ونُهينا عن الجدال والمراء والخصومة فيها، فإن كانت مسألة من الفقه في الأحكام مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحجّ والنكاح والطلاق، وما أشبهه ذلك من الأحكام، هل لنا مباح أن نناظر فيه ونجادل، أم هو محظورٌ علينا؟ عرِّفنا ما يلزم فيه؟ كيف السلامةَ منه؟.
قيل له: هذا الذي ذكرته ما أقلَّ مَن يسلم مِن المناظرة فيه، حتى لا يلحقَه فيه فتنةٌ ولا مأثم، ولا يظفرُ فيه الشيطان.
فإن قال: كيف؟.
قيل له: هذا قد كَثُر في الناس جدًّا، في أهل العلم والفقه في كلِّ بلد، يناظر الرجلُ الرجلَ يريد مغالبته، ويعلو صوته، والاستظهار عليه بالاحتجاج، فيحمرُّ لذلك وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويعلو صوته، وكلُّ واحدٍ منهما يحب أن يخطِّئ صاحبه، وهذا المرادُ من كلِّ واحدٍ منهما خطأٌ عظيم، لا تحمد عواقبه، ولا تحمده العلماء من العلماء، لأن مرادك أن يخطئ مناظرك خطأ منك ومعصية عظيمة، ومراده أن تخطئ خطأ منه ومعصية، فمتى يسلم الجميع؟.
فإن قال قائل: فإنما نناظر لتخرج لنا الفائدة ؟.
قيل له: هذا كلام ظاهر، وفي الباطن غيره.
وقيل له: إذا أردت وجه السلامة في المناظرة لتطلب الفائدة كما ذكرت، فإذا كنت أنت حجازيـًّا، والذي يناظرك عراقيـًّا، وبينكما مسألة، تقول أنت: حلال. ويقول هو: بل حرام.
فإن كنتما تريدان السلامة، وطلب الفائدة، فقُل له: رحمكَ الله هذه المسألة قد اختلف فيها مَن تقدَّم من الشيوخ، فتعال حتى نتناظر فيها مناصحةً لا مغالبة، فإن يكن الحق فيها معك اتبعتك، وتركتُ قولي، وإن يكن الحق معي اتبعتني وتركتَ قولك، لا أريد أن تخطئ ولا أغالبك، ولا تريد أن أخطئ ولا تغالبني. فإن جرى الأمر على هذا فهو حسنٌ جميل، وما أعزَّ هذا في الناس.
فإذا قال كل واحد منهما: لا نطيق هذا، وصدَقَا عن أنفسهما. قيل لكلِّ واحدٍ منهما: قد عرفتَ قولك وقول صاحبك وأصحابك واحتجاجهم، وأنت فلا ترجع عن قولك، وترى أن خصمك على الخطأ، وقال خصمك كذلك، فما بكما إلى المجادلة والمراء والخصومة حاجة، إذًا كلُّ واحد منكما ليس يريد الرجوع عن مذهبه، وإنما مراد كل واحد منكما أن يخطئ صاحبه، فأنتما آثمان بهذا المراء، وأعاذ الله تعالى العلماء العقلاء عن مثل هذا المراد.
فإذا لم تجر المناظرة على المناصحة، فالسكوت أسلم، قد عرفت ما عندك وما عنده، وعرف ما عنده وعندك، والسلام.
ثم لا يُؤمَن أن يقولَ لكَ في مناظرته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتقولُ له: هذا حديثٌ ضعيف، أو تقول: لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم،كلُّ ذلك لتردَّ قولَه، وهذا عظيم، وكذلك يقولُ لك أيضًا، فكلُّ واحد منكما يردُّ حُجَّة صاحبه بالمجازفة والمغالبة.
وهذا موجود في كثير ممن رأيناه يناظر ويجادل، حتى ربما خرق بعضهم على بعض.
هذا الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم، وكَرِهَه العلماء مـمَّن تقدَّم». اهـ
ثالـثاً – ما قاله الإمام عُبيد الله بن محمد بن بطة العكبري – رحمه الله –.
حيثُ قال في كتابه «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة»(2/ 540-541 -رقم: 679 – تحقيق: رضا نعسان):
«إنقال قائل: قد حذَّرتنا الخصومة والمراء والجدال والمناظرة، وقد علِمنا أن هذا هوالحق، وأن هذا سبيل العلماء، وطريق الصحابة والعقلاء من المؤمنين والعلماءالمستبصرين، فإن جاءني رَجلٌ يسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظهرت، والمذاهبالقبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمس مِني الجواب عليها، وأنامِمَّن قد وهب الله الكريم لي العلم لي علمًا بها، بصرًا نافذًا في كشفها،أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه، وأخليه وهواه وبدعته، ولا أردُّ عليه قبيحمقالته؟.
فإني أقول له: اعلم يا أخي – رحمك الله – أن الذي تُبلَى به منأهل الشأن لن يخلوا من أن يكون واحدًا من ثلاثة:إما رجلاً قد عرفت حسنطريقته، وجميل مذهبه، ومحبته للسلامة، وقصده طريق الاستقامة، وإنما قد طرق سمعهمن كلام هؤلاء الذين سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم،وليس يعرف وجه المخرج مما قد بُلِيَ به، فسؤاله سؤال مسترشد، يلتمس المخرج مما بليبه والشفاء مما أوذي [ بياض في الأصل ] إلى علمك حاجته إليك حاجة الصادي إلى الماء الزلال، وأنت قد استشعرت طاعته، وأمنت مخالفته، فهذا الذي افترض عليكتوفيقه وإرشاده من حبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به وتوقفه عليه من الكتابوالسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين، وكلُّ ذلك بالحكمةوالموعظة الحسنة، وإياك والتكلف لما لا تعرفه، وتمحل الرأي، والغوص على دقيقالكلام، فإن ذلك مِن فِعلك بدعة، وإن كنت تريد به السُّنة، فإن إرادتك للحقِّ من غيرطريق الحقِّ باطل، وكلامك على السُّنة من غير السُّنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاءبسقم نفسك، ولا تطلب صلاحه بفسادك، فإنه لا ينصح الناس مَن غشَّ نفسَه، ومن لا خيرفيه لنفسه لا خير فيه لغيره، فمن أراد الله وفقه وسدّده، ومن اتقى الله أعانهونصره…، فإذا كان السائللك هذه أوصافه، وجوابك له على النحو الذي قد شرحته، فشأنك به، ولا تألُ فيه جهدًا، فهذه سبيل العلماء الماضين الذين جعلهم الله أعلامـًا في هذا الدين، فهذا أحدالثلاثة.
ورَجلٌ آخر يحضر في مجلس أنت فيهحاضر تأمن فيه على نفسك، ويكثر ناصروك ومُعينوك،فيتكلم بكلام فيه فتنة وبليَّةعلى قلوب مستمعيه، ليُوقع الشكَّ في القلوب، لأنه هو ممن في قلبه زيغ يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة، وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمع كلامه، إلا أنه لا حجة عندهم على مقابلته، ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به، فإن سكت لم تأمن فتنته بأن يفسد بها قلوب المستمعين، وإدخال الشكِّ علىالمستبصرين، فهذا أيضًا مما تُردُّ عليه بدعته، وخبيث مقالته، وتنشر ما علَّمك الله من العلم والحكمة، ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته، وليكن قصدك بكلامك خلاص إخوانك من شبكته، فإن خبثاء الملاحة إنما يبسطون شباك الشياطين ليصدوا بها المؤمنين، فليكن إقبالك بكلامك، ونشر علمك وحكمتك، وبشر وجهك، وفصيح منطقك على إخوانك، ومن قد حضر معك لا عليه، حتى تقطع أولئك عنه، وتحول بينهم وبين استماع كلامه، بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوعٍ من العلم تحوِّل به وجوه الناس عنه فافعل…، فهذان رجلان قد عرَّفتك حالهما، ولخصت لك وجه الكلام لهما.
وثالثٌ مشئوم قد زاغَ قلبه، وزلَّت عن سبيلالرَّشاد قدمه، فَعشيت بصيرته، واستحكمت للبدعة نصرته، يجهده أن يُشكِّك في اليقين، ويفسد عليك صحيح الدِّين، فجميع الذينرويناه، وكل ما حكيناه في هذا الباب لأجله وبسببه، فإنك لن تأتي في باب حصر منهووجيع مكيدته أبلغ من الإمساك عن جوابه، والإعراض عن خطأ به، لأن غرضه من مناظرتكأن يفتنك فتتبعه، فيملك وييأس منك فيشفي غيظه أن يسمعك في دينك ما تكرهه، فأخسئهبالإمساك عنه، وأذله بالقطيعة له، أليس قد أخبرتك بقول الحسن – رحمه الله – حين قال لهالقائل: يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدِّين، فقال له الحسن: أما أنا فقدأبصرتُ ديني، فإن كنتَ قد أضللتَ دينك، فالتمسه.
وأخبرتك بقول مالك حين جاءه بعضأهل الأهواء، فقال له: أما أنا فعلى بينة من ربي، وأما أنت فشاكٌّ، فاذهب إلى شاكٍّمثلك فخاصمه.
فهل يأتي في جواب المخالف من جميع الحجج حجَّة هي أسخن لعينه، ولاأغيظ لقلبه من مثل هذه الحجَّةوالجواب». اهـ
رابعاً – ما قاله الحافظ أبو القاسم هبةُ الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي – رحمه الله –.
حيث قال في كتابه «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة»(1/ 19-20تحقيق: أحمد الغامدي):
«فما جُني على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذلّ أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدًا ودردًا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقًا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلا، حتى كثرت بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه في الحجج وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقرانـا وأخدانـًا، وعلى المداهنة خلانـًا وإخوانـًأ بعد أن كانوا في الله أعداء وأضدادًا، وفي الهجرة في الله أعوانـًا، يكفرونهم في وجوههم عيانـًا، ويلعنونهم جهارًا، وشتَّان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين، نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا، وأن يمسكنا بالإسلام والسنة ويعصمنا بهما بفضله ورحمته».اهـ
خامساً – ما قاله الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري الأندلسي – رحمه الله –.
حيث قال في كتابه «الاستذكار»( 8/ 118- تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي):
«وقد أجمع أهل العلم بالسنن والفقه وهم أهل السُّنة عن الكفِّ عن الجدال والمناظرة فيما سبيلهم اعتقاده بالأفئدة مما ليس تحته عمل، وعلى الإيمان بمتشابه القرآن والتسليم له، ولِمَا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث الصفات كلها وما كان في معناها، وإنما يبيحون المناظرة في الحلال والحرام وما كان في سائر الأحكام يجب العمل بها.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا مصعب بن عبد الله قال: سمعت مالك يقول: إن أهل بلدنا يكرهون الجدال والكلام والبحث والنظر إلا فيما تحته عمل، وأما ما سبيله الإيمان به واعتقاده والتسليم له فلا يرون فيه جدالا ولا مناظرة». اهـ
وقال في كتابه«جامع بيان العلم وفضله» (2/ 928-931- رقم:1768- وتحقيق: أبي الأشبال الزهيري):
«ونهى السلف – رحمهم الله – عن الجدال في الله – جل ثناؤه – في صفاته وأسمائه، وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر، لأنه عِلمٌ يُحتاج فيه إلى ردِّ الفروع على الأصول، للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك؛ لأن الله – عز وجل – لا يوصف عند الجماعة أهل السُّنة إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء فيدرك بقياس أو بإنعام نظر، وقد نُهينا عن التفكير في الله، وأُمرنا بالتفكر في خلقه الدالِّ عليه». اهـ
وقال أيضًا (2/ 945-946 – عند رقم:1806):
«ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات، وجاء عن الصحابة، وصح عنهم، فهو علم يدان به، وما أحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم، فبدعة وضلالة، وما جاء في أسماء الله أو صفاته عنهم سلم له، ولم يناظر فيه كما لم يناظروا».اهـ
وقال أيضًا (2/ 948 – عند رقم:1811):
«وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه، ونهوا عن الجدال في الاعتقاد، لأنه يئول إلى الانسلاخ من الدين، ألا ترى مناظرة بِشْرٍ في قوله-جل وعز-: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } حين قال: هو بذاته في كل مكان, فقال له خصمه: هو في قلنسوتك، وفي حُشِّك، وفي جوف حمارك، تعالى الله عما يقول، حكى ذلك وكيعٌ – رحمه الله -، وأنا والله أكره أن أحكي كلامهم – قبَّحهم الله -، فعن هذا وشبهه نهى العلماء، وأما الفقه فلا يُوصل إليه ولا يُنال أبدًا دون تناظر فيه، وتفهم له».اهـ
سادساً – ما قاله الإمام شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني – رحمه الله –.
حيث قال في كتابه «اعتقاد السلف أصحاب الحديث» (ص:85-86 – طبعة: دار المنهاج، أو ص:113-115 -طبعة: مكتبة الغرباء، وتحقيق: بدر البدر):
«ويقتدون بالسلف الصالحين من أئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين والحق المبين، ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدِّين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدِّين، ولا يناظرونهم، ويرون صَون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرَّت بالآذان وقرَّت في القلوب ضرَّت، وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت، وفيه أنزل الله-عزَّ وجل-قوله: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ». اهـ
سابعاً – ما جاء عن الحافظ قوَّام السُّنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني – رحمه الله –.
حيث قال في كتابه «الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة» (1/ 100-101- طبعة: دار الراية، وتحقيق: محمد بن ربيع):
«قال علماء السلف: ما وجدنا أحدًا من المتكلمين في ماضي الأزمان إلى يومنا هذا رجع إلى قول خصمه، ولا انتقل عن مذهبه إلى مذهب مُناظِرِه؛ فدلَّ أنهم اشتغلوا بما تَرْكه خيرٌ من الاشتغال به، وقد ذمَّ السلف الجدال في الدِّين، ورَووا في ذلك أحاديث، وهم لا يذمُّون ما هو الصواب». اهـ
ثامناً – ما جاء عن الإمام أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري – رحمه الله –.
حيث قال في كتابه «شرح السنة» (ص:120-121- طبعة: دار السلف، وتحقيق: خالد الردادي، أو ص:124-127 – طبعة: مكتبة دار المنهاج، وتحقيق: الجميزي):
وإذا سألك أحد عن مسألة في هذا الكتاب، وهو مسترشد فكلمه، وأرشده، وإذا جاءك يناظرك، فاحذره، فإن فيالمناظرة: المراء، والجدال، والمغالبة، والخصومة، والغضب، وقد نهيت عن هذا جداً، بخرجان جميعا من طريق الحق، ولم يبلغنا عن أحد من فقهائنا، وعلمائنا أنه ناظر أو جادل أو خاصم، …، وكان ابن عمر يكره المناظرة، ومالك بن أنس، ومن فوقه، ومن دونه، إلى يومنا هذا.اهـ
وفي الختام أقول:
إن قال قائل:
قد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن تيمية – رحمهما الله تعالى – أنهما ناظرا أهل البدع والأهواء في زمنهما.
فيقال له:
إن هذه المناظرة لم تكن بطلب منهما، ولا عن شرح صدر، وإنما أجبرا عليها من قبل السلطان، وكانت بمحضره بحيث يضبطها ويحكمها، ويخاف المناظر من الكذب والتدليس.
وكلام الإمام أحمد – رحمه الله – كثير ومشهور في ترك مناظرة أهل البدع والأهواء، بل نُقل عنه أنه لم يناظر بعدها حتى مات، كما في كتاب «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة» (6/ 275، رقم:453 – تحقيق: يوسف الوابل).
وقد تقدم قول الإمام الآجري – رحمه الله -:
«فإن قال قائل: فإن اضَّطرني الأمر وقتًا من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الـحُجَّة عليهم ألا أناظرهم؟.
قيل له: الاضِّطرارُ إنما يكون مع إمامٍ له مذهبُ سوء، فيمتحن الناس، ويدعوهم إلى مذهبه، كفِعل مَن مضى في وقت أحمد بن حنبل، ثلاثةُ خلفاء امتَحنوا الناس، ودعَوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بُدًّا من الذبِّ عن الدِّين، وأرادوا بذلك معرفة العامَّـة الحقَّ من الباطل، فناظروهم ضرورةً لا اختيارًا، فأثبت الله تعالى الحقَّ مع أحمدَ بنَ حنبل، ومَن كان على طريقته، وأذلَّ الله العظيم المعتزلة وفضحهم، وعرفتِ العامَّـةُ أن الحقَّ ما كان عليه أحمد ومَن تابعه إلى يوم القيامة، وأرجو أن يعيذ اللهُ الكريم أهلَ العلم من أهل السنة والجماعة من محنةٍ تكونُ أبدا». اهـ
وإن قيل:
قد نُقل عن الإمام الشافعي – رحمه الله – أو غيره أنه ناظر فلان.
فيقال:
هذه في الغالب مناظرة في الفقه أو الحديث، وقد تقدم كلام الإمامين الآجري وابن عبد البر – رحمهما الله – في جواز المناظرة في الفقه.
وإن كانت في باب العقيدة فليست بمناظرة بالمعنى المعروف اليوم، والصورة المشاهدة لكل أحد، وغايتها أنه جلس معه في مجلس خاص أو مجلس فيه بعض أهل العلم فناقشه فيما هو عليه من باطل، وأقام عليه الحجج، وكشف ما حصل له من لبس، لعل الله يرده إلى الحق، وفاعل ذلك إمام راسخ جبل في العلم مشهود له بذلك من الجميع.
ثم لِيُتَأَمَّل قول الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – المتقدم في شأن أهل البدع والأهواء:
« فإنهم يُلَبِّسون عليك، وهُم لا يرجعون ».اهــ
وقول الإمام أبي القاسم الأصبهاني – رحمه الله -:
« قال علماء السلف: ما وجدنا أحدًا من المتكلمين في ماضي الأزمان إلى يومنا هذا رجع إلى قول خصمه، ولا انتقل عن مذهبه إلى مذهب مُناظِرِه؛ فدلَّ أنهم اشتغلوا بما تَرْكه خيرٌ من الاشتغال به».اهــ
وقول الإمام اللالكائي – رحمه الله -:
«فما جُني على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذلّ أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدًا ودردًا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقًا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلا، حتى كثرت بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة».اهــ
وجمعه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.