تنبيه المتزوج إلى حرمة إيقاع الطلاق بالثلاث أو أكثر دفعة واحدة
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
فقد اختلف أهل العلم ــ رحمهم الله تعالى ــ في جمع الزوج الطَّلْقات الثلاث على امرأته في لفظ واحد كأن يقول: “أنت طالق بالثلاث” أو ” طالق ثلاثًا” على قولين:
القول الأوَّل: أنَّ الطلاق بالثلاث مُحرَّم.
وهو قول أكثر أهل العلم.
حيث قال الإمام ابن تيمية الحرَّاني ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (33/ 76):
وأمَّا جَمع الطلقات الثلاث ففيه قولان:
أحدهما: مُحرَّم أيضًا عند أكثر العلماء مِن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم.
وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، واختاره أكثر أصحابه.اهـ
وقال الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستذكار” (17/ 10):
الذي ذهب إليه مالك في أنَّ الطلاق الثلاث مجتمعات لا يقعن لِسُنَّة، وأنَّ ذلك مكروه مِن فِعل مَن فعَله، هكذا قول أكثر السلف.اهـ
واختاره:
ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن باز، وابن عثيمين.
وهذا القول هو الصواب، لأمور ثلاثة:
الأمر الأوَّل: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشديد على مَن أوقع الطلاق ثلاثًا، وجعْله ذلك تلاعبًا بكتاب الله.
حيث أخرج النسائي في “سُننه” ( 5564) مِن طريق مَخْرَمة بن بُكير، عن أبيه، عن محمود بن لَبِيد أنَّه قال:
(( أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانًا، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا أَقْتُلُهُ؟ )).
وهو حديث مُختَلف فيه.
فصححه:
ابن التركماني الحنفي، وصدِّيق حسن خان، وعبد الرحمن المُعلِّمي، والألباني.
وقال الإمام ابن قيم الجوزية ــ رحمه الله ــ:
إسناده على شرط مسلم.اهـ
وقال الحافظ ابن كثير الشافعي ــ رحمه الله ــ:
رواه النسائي بإسناده جيد قوي.اهـ
وقال العلامة عبد العزيز بن باز ــ رحمه الله ــ:
إسناده جيد.اهـ
وقال العلامة العثيمين ــ رحمه الله ــ:
أقل أحواله أنْ يكون حسنًا.اهـ
ونصَّ على ثبوته:
محمد الأمين الشنقيطي، وعبد الله الدويش.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (9/ 362):
أخرجه النسائي ورجاله ثقات.
لكن محمود بن لَبِيد ولِد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَثبت له مِنه سماع، وإنْ ذَكره بعضهم في الصحابة، فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في “مسنده” وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرَّح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه: “لا أعلم أحدًا رواه غير مَخرَمة بن بُكير ــ يعني: ابن الأشَجّ ــ عن أبيه.اهـ”، ورواية مَخْرَمة عن أبيه عند مسلم في عدِّة أحاديث، وقد قيل إنَّه لم يسمع مِن أبيه.اهـ
وقال الإمام ابن قيم الجوزية ــ رحمه الله ــ في كتابه “زاد المعاد في هدي خير العباد” (5/ 344-346) في رَدِّ كلام مَن ضعَّفه بما تقدَّم:
وإسناده على شرط مسلم.
فإنَّ ابن وهب قد رواه عن مَخْرَمة بن بُكير بن الأشَجّ، عن أبيه، قال: سمعت محمود بن لَبِيد، فذَكره.
ومَخْرَمة ثقة بلا شك، وقد احتج مسلم في “صحيحه” بحديثه عن أبيه.
والذين أعَلُّوه قالوا: لم يَسمع مِنه، وإنَّما هو كتاب.
والجواب عن هذا مِن وجهين:
أحدهما: أنَّ كتاب أبيه كان عنده محفوظًا مضبوطًا.
فلا فرْق في قيام الحُجَّة بالحديث بين ما حدَّثه بِه، أو رآه في كتابه، بل الأخذ عن النُّسخة أحوط إذا تيقَّن الراوي أنَّها نُسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقة الصحابة والسَّلف.
ولا يُحفظ في زمن مِن الأزمان المتقدمة أنَّ أحدًا مِن أهل العلم ردَّ الاحتجاج بالكتاب، وقال: “لم يُشافهني بِه الكاتب فلا أقبله”، بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل بِه إذا صح عنده أنَّه كتابه.
الجواب الثاني: أنَّ قول مَن قال: “لم يَسمع مِن أبيه” مُعارَض بقول مَن قال: “سمع مِنه”، ومعه زيادة علم وإثبات.اهـ
قلت:
ومحمود بن لَبِيد، قد قال عنه الإمام الترمذي ــ رحمه الله ــ في “سُننه” (2036):
محمود بن لَبِيد قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه وهو غلام صغير.اهـ
وقال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم ــ رحمه الله ــ في كتابه “الجرح والتعديل” (1329):
محمود بن لَبِيد، قال البخاري: “له صُحبة” فخَطَّ أبى عليه، وقال: “لا يُعرف له صُحبة”.اهـ
وقال الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستيعاب في معرفة الأصحاب” (2347):
قول البخاري أولى.اهـ
وقال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ كما في “جامع المسائل لابن تيمية” (1 / 312- طبعة: دار عالم الفوائد، وتمويل: مؤسسة الراجحي):
ففي هذا الحديث أنَّه ــ صلى الله عليه وسلم ــ غَضِبَ على مَن طلَّق ثلاثًا بكلمة واحدة، وجعَل هذا لعبًا بكتاب الله، وأنكر أنْ يُفعَل هذا وهو بينهم، حتى استأذنه رجلٌ في قتله.اهـ
وقال الفقيه أبو العباس القرطبي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُفهم لِما أشكل مِن تلخيص كتاب مسلم” (4/ 242):
مع أنَّ الطلاق ثلاثًا في كلمة واحدة محرَّم، بدليل ما رواه ابن عباس عن محمود بن لَبِيد ــ قال البخاري: له صحبة ــ قال:
(( أُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ )).
هذا يدُل على أنَّه محرَّم، ومُنكر.اهـ
الأمر الثاني: نصّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنَّ الطلاق بالثلاث معصية وإثْم.
ومِن هذا النُّصوص:
أولًا: ما أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنفه” (17800) عن علقمة ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةً فَقَالَ: بَانَتْ مِنْكَ بِثَلَاثٍ، وَسَائِرُهُنَّ مَعْصِيَةٌ )).
وإسناده صحيح.
وصححه:
بدر الدين العيني الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “نُخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار” (11/ 61).
وعبد الله هو ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ.
ثانيًا: ما أخرجه مسلم في ” صحيحه” (1471) عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال لرجل استفتاه أوقع الطلاق على امرأته ثلاثًا:
(( وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ )).
ثالثًا: ما أخرجه سعيد بن منصور في “سننه” (1064) واللفظ له، وابن أبي شيبة في “مصنفه” ( 17789) عن مالك بن الحارث ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنَّ عَمَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَأَكْثَرَ، فَقَالَ: عَصَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ، وَلَمْ تَتَّقِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَجْعَلَ لَكَ مَخْرَجًا )).
وإسناده صحيح.
وأخرجه أيضًا أبو داود في “سُننه” (2197)، وغيره، عن مجاهد عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ بنحوه.
وصححه:
ابن حجر العسقلاني الشافعي في “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (9/ 362)، وبدر الدين العيني الحنفي في “نُخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار” (11/ 58)، ومحمد الأمين الشنقيطي في “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن” (1 / 111 و 117)، والألباني في “إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل” (2055) و “صحيح أبي داود” (1907- الأصل).
وذَكره الحافظ ضياء الدين المقدسي الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه:
“الأحاديث المختارة أو المستخرج مِن الأحاديث المختارة مما لم يُخرِّجه البخاري ومسلم في صحيحيهما” (113-114-116).
ولفظ الإمام أبي داود ــ رحمه الله ــ:
(( كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ، فَيَرْكَبُ الْحُمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }، وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ } فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ )).
وقال الإمام ابن قيم الجوزية ــ رحمه الله ــ في كتابه “إغاثة اللهفان مِن مصايد الشيطان” (1 / 304) عقبه:
ففهِم ابن عباس مِن الآية أنَّ جمع الثلاث محرَّم.
وهذا فَهْم مَن دعا له النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (( أنْ يُفَقِّهَهُ اللهُ الدِّينِ، وَيُعَلّمَهُ التَّأْوِيلَ )).
وهو مِن أحسن الفُهوم كما تقرَّر.اهـ
وقال الفقيه أبو العباس القرطبي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُفهِم لِما أشكل مِن تلخيص كتاب مسلم” (4/ 242):
مع أنَّ الطلاق ثلاثًا في كلمة واحدة محرَّم، بدليل:
قول ابن عمر وابن عباس للمطلِّق ثلاثًا: (( بانت منك، وعصيت ربك )).اهـ
رابعًا: ما أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنفه” (17788) عن واقِع بن سَحْبَان ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( سُئِلَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ، قَالَ: أَثِمَ بِرَبِّهِ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ )).
وأخرجه أيضًا الدولابي في كتابه “الكنى والأسماء” (394)، والبيهقي في “السنن الكبرى” ( 14949) عن واقع بن سَحْبان، بنحوه.
وفي إسناده واقع بن سَحبان، وهو تابعي مُقِلٌّ مِن الحديث.
وقد روى عن أبي موسى الأشعري، وعمران بن حصين ــ رضي الله عنهما ــ.
و شهد مع أبي موسى الأشعري أيَّام عمر ــ رضي الله عنه ــ.
وروى عنه أئمة ثقات مِن التابعين، وهُم: قتادة السَّدوسي، وثابت البُناني، وحُميد الطويل.
وذكره الحافظ ابن حِبَّان ــ رحمه الله ــ في كتابه “الثقات” ( 5922).
ومثل هذا يُثَبِّت حديثه عديد مِن أهل العلم.
الأمر الثالث: ضرب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ لِمَن يُوقِع الطلاق ثلاثًا.
حيث أخرج ابن أبي شيبة في “مصنفه” (17790) عن أنس ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال:
(( كَانَ عُمَرُ إِذَا أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ أَوْجَعَهُ ضَرْبًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا )).
وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في “سننه” (1074) عن أنس، بنحوه.
وإسناده صحيح.
وصححه:
ابن حجر العسقلاني الشافعي في “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (9/ 362)، والصنعاني في “سُبل السلام شرح بلوغ المرام” (1008)، وبدر الدين العيني الحنفي في “نُخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار” (11/ 63)، ثم قال:
قوله: (( أوجع ظهره )) أي: ضربًا.
وإنَّما كان يفعل ذلك عمر ــ رضي الله عنه ــ لكون إيقاع الطلقات الثلاث دفعة واحدة بدعة تُخالف سُنَّة الطلاق.اهـ
القول الثاني: أنَّ الطلاق بالثلاث ليس بمحرَّم بل تركٌ للأفضل.
حيث قال الإمام ابن تيمية الحرَّاني ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (33/ 77):
والقول الثاني: أنَّ جمع الثلاث ليس بمحرَّم، بل هو تركٌ للأفضل.
وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، اختارها الخِرَقي.اهـ
وبه قال: أبو ثور، وداود، وابن حزم.
وأقوى مَا وقفت عليه مِن حُجج هذا القول:
ما ذَكره الإمام موفق الدين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المغني” (10/ 330-331)، حيث قال:
لأنَّ عُويمر العجلاني لمَّا لاعَن امرأتة قال: (( كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )) مُتَّفَق عليه.
ولم يُنقل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن عائشة: (( أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبِتَّ طَلَاقِي )) مُتَّفَق عليه.
وفي حديث فاطمة بنت قيس: (( أَنَّ زَوْجَهَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَات )).اهـ
ثُمَّ أجاب ــ رحمه الله ــ عن هذا الاستدلال، فقال بعد ذلك (10/ 333):
وأمَّا حديث المُتلاعِنين فغير لازم، لأنَّ الفُرقة لم تقع بالطلاق، فإنَّها وقعت بمجرد لعانهما، وعند الشافعي: بمجرد لعان الزوج، فلا حُجَّة فيه.
ثُمَّ إنَّ اللعان يُوجب تحريمًا مؤبدًا، فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح بالرضاع أو غيره.
ولأن َّجَمع الثلاث إنَّما حرِّم لِما يَعقبه مِن الندم، ويَحصل به مِن الضَّرر، ويَفوت عليه مِن حِلِّ نكاحها، ولا يَحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان.
وسائر الأحاديث لم يَقع فيها جَمع الثلاث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مُقِرًّا عليه، ولا حضَر المطلِّق عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك لِيُنكِر عليه.
على أنَّ حديث فاطمة قد جاء فيه أنَّه: (( أَرْسَلَ إلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ طَلَاقِهَا )).
وحديث امرأة رِفاعة جاء فيه أنَّه: (( طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ )) مُتَّفَق عليه.
فلم يكن في شيء مِن ذلك جَمع الثلاث.اهـ
ومِمَّا احتجوا بِه أيضًا:
ما ذَكره العلامة محمد بن علي الشوكاني ــ رحمه الله ــ عنهم وأجاب عنه في كتابه “نيل الأوطار مِن أحاديث سيِّد الأخيار شرح مُنتقى الأخبار” (6/ 275) حيث قال:
واستدلوا أيضًا:
بظواهر سائر الآيات القرآنية، نحو قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }، وقوله تعالى: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ }، وقوله تعالى: { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ }، وقوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ }.
ولم يُفرِّق في هذه الآيات بين إيقاع الواحدة والثنتين والثلاث.
وأُجِيب:
بأنَّ هذه عمومات مخصَّصة وإطلاقات مُقيَّدة بما ثبت مِن الأدلة الدَّالة على المنع مِن وقوع فوق الواحدة.اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.