إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > البدع > خطبة مكتوبة بعنوان: ” مخالفات تحصل وقت الجنائز وعند الدفن وحين زيارة القبور وسُنن بدأت تضعف “.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” مخالفات تحصل وقت الجنائز وعند الدفن وحين زيارة القبور وسُنن بدأت تضعف “.

  • 9 سبتمبر 2018
  • 19٬447
  • إدارة الموقع

مخالفات تحصل وقت الجنائز وعند الدفن وحين زيارة القبور وسُنن بدأت تضعف

 

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــ

الحمد الله الذي أسكن عباده هذه الدار، وجعلها لهم منزلةَ سفرٍ مِن الأسفار، وجعل الدار الآخرة هي دارَ القرار، وجعل القبر إمَّا روضة مِن رياض الجنة أو حُفرة مِن حُفر النار، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله النبي المختار، والرسول المبعوث بالتبشير والإنذار، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه صلاة تتجدَّد بركاتها بالعشيِّ والإبكار.

أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:

فقد قال ربكم ــ جلَّ وعزَّ ــ: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }.

وهذه الآية فيها تعزيةٌ لجميع الناس، فإنَّه لا يبقى أحدٌ على وجه الأرض حتى يموت.

وبعد الموت أُكْرِمَ ابنُ آدم، فأوجبت الشريعة دفن بدَنه في قبر تحت التُّراب، فقال سبحانه مُمتنًّا: { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ }.

أي: جعله بعد أنْ أماته ذا قبر يُوارَى فيه، سَترًا عليه، وإكرامًا له، واحترامًا، ولم يَجعله مما يُلقَى على وجْهِ الأرض تأكله السِّباع والطير، ويتأذى الناس بريح تعفُّنه، لأنَّ البشر لو كانوا إذا ماتوا كسائر الميتات جُثَثًا تُرمى في الزِّبال، لكان في ذلك إهانة عظيمة للميت، ولأهل الميت.

وجاء بإسنادٍ حسَّنه جماعة مِن المُحدِّثين أنَّ: (( عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ــ رضي الله عنه ــ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» )).

ولمَّا كان ما بعد القبر أيسر على العبد المؤمن النَّاجي، فإنَّه يقول حين يَجد بعض النَّعيم في قبره: (( رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ )).

بخلاف العبد الفاجِر فإنَّه يقول: (( رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ )).

لأنَّه يعلم أنَّ ما يَجده مِن عذاب في قبره أهون مِمَّا سيجده في النار، كما صحَّ ذلك في حديث البراء بن عازب ــ رضي الله  عنه ــ.

فأسرعوا ــ يا عباد الله ــ في تجهيز ودفن موتاكم، عملًا بالسُّنَّة النَّبوية، وخيرًا لهم أو لكم، فإنَّ بعض الناس يؤخِّرون ذلك لأجل انتظار مجيء بعض القرابة أو غيرهم أو حتى يُصلَّى على ميِّتهم بعد صلاة الجمعة لكثرة العدد.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه أمَر فقال: (( أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ )).

وكان الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ يُسرعون بدفن موتاهم، مع أنَّهم لو أخَّروها لصلَّى عليها ودعا لميتهم فيها وبعد الدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حيث صحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي، قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ )).

وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ )).

أيُّها المسلمون:

إنَّ الأجر في اتِّباع الجنازة والصلاة عليها والبقاء معها حتى يُفرَغ مِن دفنها لعظيم جدًا، ولكنَّ شرط حصوله قد يتخلَّف عن بعض الناس، لأنَّهم يفعلون ذلك حياء أو مُجاملة أو سُمعة حتى لا يتكلَّم عليهم معارفهم أو يكونَ لهم صِيت بأنَّهم مع الناس أو مع أهل الميت في أفراحهم وأحزانهم، والشريعة شرطت أنْ يحصلَ ذلك عن إيمان واحتساب، إيمانًا وتصديقًا بمشروعيته وفضله، واحتسابًا للأجر والثواب مِن الله على فِعله، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ )).

أيُّها المسلمون:

إنَّ مِن أجَلِّ مقاصد اتِّباع الجنائز هو تليين القلب حتى يتذكَّر الآخرة، فيقلِعَ عن الذنوب، ويتوبَ إلى بارِئه، ويُكثِرَ الأعمال الصالحة، حيث ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( اتَّبِعُوا الجَنَائِز تُذكِركُم الآخِرة)).

ولكن ــ وللأسف الشديد ــ قد أصبح هذا المقصد الجليل يَضعف كثيرًا، ويُساهِم أيضًا في إضعافه كثرةُ الكلام واللَّغط ورفع الأصوات بالذِّكر أو أمور الدَّفن وغيرها مِن قِبَل المُشيِّعين للجنازة، أو مِمَّن يتولون دفن الميت، أو مَن على شَفير القبر، أو مِن عُمَّال المقبرة، أو مِن جميعهم، حيث أشغلوا مَن في المقبرة، وشوَّشُوا عليهم.

وقد كان حال السلف الصالح، وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خِلاف هذا الحال، فصحَّ عن قيس بن عُبَاد ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ )).

وكانوا ــ رحمهم الله ــ إذا شهدوا جنازة لم يَعرفوا أهل الميت لِيُعَزوهم، لأنَّ الحُزن قد عمَّ جميع الحاضرين، فصح عن الأعمش ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( إِنْ كُنَّا لَنَشْهَدُ الْجِنَازَةَ فَمَا نَدْرِي مَنْ نُعَزِّي مِنْ حُزْنِ الْقَوْمِ )).

وقال ثابت البُناني التابعي ــ رحمه الله ــ: (( لَقَدْ كُنَّا نَتْبَعُ الْجِنَازَةَ فَمَا نَرَى حَوْلَ السَّرِيرِ إِلَّا مُتَقَنِّعًا بَاكِيًا، أَوْ مُتَفَكِّرًا، كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمِ الطَّيْرُ )).

وصحَّ عن أبي قِلابة التابعي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( كانوا يُعظِّمُون الموت بالسَّكِينة )).

وصحَّ عن إبراهيم النَّخعي التابعي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( كَانَتْ تَكُونُ فِيهِمُ الْجِنَازَةُ فَيُظلُونَ الأَيَّامَ مَحْزُونِينَ، يُعْرَفُ ذَلِكَ فِيهِمْ )).

وقال بعض فقهاء المالكية ــ رحمهم الله ــ:

السُّنَّة في اتِّبَاع الجنائز الصَّمت والتَّفَكر والاعتبار، وأَنَّ ذلك فِعلُ السَّلف، واتِّبَاعهم سُنَّة، ومُخالفتهم بدعة.اهـ

وقال فقيه الشافعية أبو زكريا النَّووي ــ رحمه الله ــ عن الحال الذي ينبغي أنْ يكون عليه مَن يَتْبَعِ الجنازة:

يُستحب له الفِكرُ فيما يلقاه الميت، وما يكون مصيره، وحاصل ما كان فيه، وأنَّ هذا آخِرُ الدنيا ومصير أهلها، واعلم أنَّ الصواب المختار ما كان عليه السلف ــ رضي الله عنهم ــ: مِن السكوت في حال السَّير مع الجنازة، فلا يُرفع صوتًا بقراءة، ولا ذِكرٍ، ولا غيرِ ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنَّه أسكن لخاطره، وأجمع لِفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترَّنَّ بكثرة مَن يُخالفه.اهـ

أيُّها المسلمون:

إنَّ حُرمة الميِّت كحُرمة الحيِّ، فلا يجوز أنْ يَفعل أحدٌ ما فيه إهانة له، كالمشي على قبره أو الدَّوس عليه بالنِّعال والأحذية، كما يَحصل مِن بعض مَن يمشون بين القبور بنِعالِهم، وقد ثبت عن بَشير بن الخَصَاصِيَة ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( حَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظْرَةٌ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ فَنَادَاهُ: “يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ”، فَنَظَرَ فَلَمَّا عَرَفَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَرَمَى بِهِمَا )).

وقد كرِه جماعة عديدة مِن الفقهاء المشيَ بين القبور بالأحذية إلا مِن حاجة كحَرٍّ أو شوك، ونحو ذلك، عملًا بهذا الحديث النَّبوي.

أيُّها المسلمون:

لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة على القبور، سواء كانت قبور أنبياء أو صالحين أو آباء أو زعماء أو جنود أو غيرهم، وقد خالف نهيه هذا كثير مِن المسلمين اليوم أو أكثرهم، فوضعوا على قبور الموتى رُخامًا أو حجارة أو ألواحًا كتبوا عليها اسم الميت، وزمَن وفاته، أو سورة كالفاتحة، أو آيات قرآنية، أو أدعية، أو شيئًا مِن أفعال الميت وصفاته، أو أنَّه شهيد في معركة كذا، وقد صحَّ عن جابر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ، أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ، أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ )).

ومَن أراد معرفة قبر ميِّتِه ليزورَه، فله أنْ يَضع حجرًا يتعرَّف به عليه، لِمَا ثبت عن المُطَّلِب أنَّه قال: (( لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ:«أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي» )).

أيُّها المسلمون:

إنَّ مِن السُّنَن التي هجرها أكثر الناس، حتى أهل الميِّت، ولم يَعُد يفعلها إلا القِلَّة، وفيها مصلحة كبيرة للميت: الوقوفَ على قبر الميِّت للدعاء له بعد تمام دفنه، ويكون الدعاء سِرًّا، يدعو كلُّ شخصٍ لوحده، حيث انشغلوا عن ذلك بالتعزية والمُعزِّين في المقبرة، بسبب عادات عوام الناس وجُهالِهم التي طغت عليهم.

وقد ثبت عن عثمان بن عفَّان ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ، وَقَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ” )).

وصحَّ عن ابن جُريج ٍأنَّ ابن أبي مُليكة ــ رحمه الله ـ قال: (( رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ قَبْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، قَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فقال ابن جُريج: أَسَمِعْتَ مِنْ قَوْلِهِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا )).

وتُستحَبُّ إطالة هذا الدعاء، لِمَا صحَّ عن عمروِ بن العاص ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي )).

بارك الله لي ولكم فيما سمعتم، ووعظنا بالموت قبل أنْ يَحِلَّ بِنا، إنَّ ربي سميع مجيب.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــ

الحمد لله المولى الحميد، والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بالوعد والوعيد، وعلى آله وصحبه المُكْرَمِين بالتأييد، صلاة دائمة على التأبيد.

أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:

فاتقوا الله تعالى بالعمل بما جاء في شريعته في باب الجنائز، وأحكام القبور والمقابر، ولا تكونوا سببًا أو عونًا على مخالفتها بإحداث البِدع أو فرض عاداتكم، فقد قال ربكم ــ جلَّ وعلا ــ زاجرًا ومُرهِّبًا: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.

واعلموا أنَّ زيارة القبور كان منهيًّا عنها، ثُمَّ أُذِنَ بزيارتها لسببين عظيمين:

أحدهما: تَذَكُّر الزائر لها الموتَ والآخِرة، وأنَّ حاله سيكون كحال أهلها، فيتركَ أهله وماله وخِلَّانه، وهذا السبب يدفعه للاستعداد للآخرة، بالتوبة مِن الذنوب، والإكثار مِن الطاعات، والقيام بالواجبات، وترْكِ المحرمات، والتَّقلُّل مِن الدنيا، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ )).

والثاني: نَفْع الميت بالدعاء له بالمغفرة والرَّحمة، لا أنْ يُدعى مع الله بطلب العون والمدَد والشفاعة وغيرِ ذلك مِنه، فقد صحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى على المقابر قال: (( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ لَنَا وَلَكُمْ )).

وصحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا زار مقبرة البقيع يقول: (( اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ )).

فمَن زار القبور لأجل هذين السَّببين فقد أقام السُّنَّة النَّبوية، وعمِل بها، وسار على هَدي خير البريَّة صلى الله عليه وسلم، وأصحابهِ ــ رضي الله عنهم ــ، ومَن زارها للطواف حولها أو دعاء أهلها بتفريج الكرب ودفع الشرور وطلب الشفاعة مِنهم أو لأجل الذَّبح والنَّذر لأهلها أو العكوف عليها والاعتكاف عندها أو الطواف حولها أو قراءة القرآن أو الفواتح أو ذِكر الله أو الدُّعاء للنفس والأهل أو لأجل التَّمسح والتَّبرك بها وبالمقبورين فيها فقد خالف السُّنَّة النَّبوية، وضادَّ الشريعة المحمدية، وسار على سَنن اليهود والنصارى، ومَن تابعهم في أفعالهم مِن الشيعة الرافضة وغلاة الصوفية.

هذا، وأسأل الله أنْ يجعلنا مِن التائبين المستغفرين، وأنْ يُكرمنا فنكونَ مِن الموحِّدين السُّنِّيين المتَّبِعين، اللهم ارفع الضُّر عن المتضررين مِن المسلمين في كل أرض، وارزقهم إيمانًا متزايدًا، وصبرًا وثباتًا، وثقة بك، وتوكلًّا عليك، وجنِّبنا وإيَّاهُم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأعذنا وإيَّاهُم مِن دعاة الفتن والمفتونين، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى مراضيك، وما فيه الخير للعباد في دينهم ودنياهم، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، وارزقهم النَّعيم في قبورهم والسرور، إنَّك سميع الدعاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.