تزويد الأخلاء بأقوال الفقهاء في اشتراط إذن ولي الأمر لإقامة صلاة الاستسقاء
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
فهذا جمع لما وقفت عليه من أقوال الفقهاء – رحمهم الله تعالى – حول اشتراط إذن ولي الأمر في إقامة صلاة الاستسقاء من عدمه.
وأسأل الله النفع به لكاتبه وقارئه، إنه سميع الدعاء، عظيم الجود والعطاء.
وسوف يكون طرح هذا الجمع في خمس وقفات، تسهيلاً وتيسيراً لقارئه ومطالعه.
ثم أقول مستعيناً بالله تبارك وتعالى:
الوقفة الأولى / عن الاتفاق المنقول عن المذاهب الأربعة في عدم اشتراط إذن ولي الأمر.
قال العلامة أبو عبد الله ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “الفروع”(2/ 151) في باب “صلاة الكسوف”:
ولا يشترط لها إذن الإمام، ولا لاستسقاء ( و ) كصلاتها منفرداً، وعنه: بلى، وعنه: لاستسقاء، وعنه: لها لصلاة وخطبة، لا للخروج والدعاء.اهـ
والواو (و) تعني: موافقة الحنابلة للحنفية والمالكية والشافعية في حكم المسألة.
الوقفة الثانية / عن كلام الحنفية – رحمهم الله –.
أولاً: قال علاء الدين الكاساني الحنفي – رحمه الله – في كتابه “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع”(1/ 284):
وإذا خرجوا اشتغلوا بالدعاء، ولم يصلوا بجماعة إلا إذا أمر الإمام إنساناً أن يصلي بهم جماعة، لأن هذا دعاء فلا يشترط له حضور الإمام.
وإن خرجوا بغير إذنه جاز،لأنه دعاء، فلا يشترط له إذن الإمام.اهـ
ثانياً: قال محمد بن علي الدمشقي الحنفي المشهور بالحصكفي – رحمه الله – في كتابه “الدر المختار شرح تنوير الأبصار”(3/ 72 – مع “رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار” لابن عابدين):
والأولى خروج الإمام معهم، وإن خرجوا بإذنه أو بغير إذنه جاز.اهـ
ثالثاً: جاء في “الموسوعة الفقهية الكويتية”(3/ 316):
الرأي الثاني:
لا يستحب الاستسقاء بالصلاة إلا بخروج الإمام، أو رجل من قِبله.
وهو رأيٌ للحنابلة والحنفية.
فإذا خرجوا بغير إذن الإمام دعوا وانصرفوا بلا صلاة ولا خطبة.اهـ
تنبيه:
الاستسقاء له صور، ومن صوره:
الاستسقاء بصلاة.
وهذه الصورة ثابتة بالسنة الصحيحة، ودلت عليها عدة أحاديث.
وإلى مشروعيتها ذهب عامة أهل العلم إلا أبا حنيفة، فإنه قال: ليس في الاستسقاء صلاة، ولكن يخرج الإمام ويدعو.
وقد نسبه إليهم جمع من أهل العلم – رحمهم الله -، منهم:
الحافظ ابن المنذر النيسابوري في كتابه “الأوسط”(3/ 327)، والقاضي عياض المالكي في كتابه “إكمال المعلم بفوائد مسلم”(3/ 312)، والنووي الشافعي في “شرح صحيح مسلم”(6/ 439 – عند حديث رقم:894)، والحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري”(2/ 571 – عند حديث رقم:1005).
الوقفة الثالثة / عن كلام المالكية – رحمهم الله –.
أولاً: قال أبو الحسن علي بن محمد اللخمي المالكي – رحمه الله – في كتابه “التبصرة”(2/ 618):
الاستسقاء يكون لأربع:
والثاني: استسقاء القوم عند الحاجة إلى الشرب لشفاههم، أو لدوابهم ومواشيهم، كالقوم يكونون في سفر في صحراء، أو في سفينة، أو في حضر، وقد أخذوا زرعهم ثم احتاجوا لذلك.اهـ
ثانياً: جاء في كتاب “تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة”(2/ 538) لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن خليل التتائي المالكي – رحمه الله -:
ولا يختص الاستسقاء بأهل القرى والأمصار والصحاري، بل تشرع لأهل السفن عند حصول شيء مما تقدم.اهـ
ثالثاً: قال محمد بن عبد الله بن علي الخرشي المالكي – رحمه الله – في “حاشيته على مختصر خليل”(2/311):
ولا يختص الاستسقاء بمن كان في القرى والصحراء، بل يشرع ذلك لمن كان في السفينة أيضاً، عند حصول شيء مما مرَّ، بأن يكون في بحر ملح، أو عذب لا يصل إليه.اهـ
تنبيه:
لم أجد لعلماء المالكية – رحمهم الله – شيئاً صريحاً حول هذه المسألة، لكن هذا التوسع منهم في من يستسقي يُشعر بعدم اشتراط الإذن.
وقد تقدم قول العلامة أبو عبد الله ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “الفروع”(2/ 151):
ولا يشترط لها إذن الإمام ولا لاستسقاء ( و ) كصلاتها منفرداً، وعنه: بلى، وعنه: لاستسقاء، وعنه: لها لصلاة وخطبة، لا للخروج والدعاء.اهـ
والواو (و) تعني: موافقة الحنابلة للحنفية والمالكية والشافعية في حكم المسألة.
الوقفة الرابعة / عن كلام الشافعية – رحمهم الله –.
أولاً: قال الإمام الشافعي – رحمه الله – في كتابه “الأم”(1/ 410 أو 1/ 247 أو 1/ 282):
فإذا كان جدب أو قلة ماء في نهر أو عين أو بئر في حاضر أو باد من المسلمين لم أحب للإمام ان يتخلف عن أن يعمل عمل الاستسقاء،… وإن لم يفعل الامام لم أر للناس ترك الاستسقاء.اهـ
ثانياً: قال أبو زكريا النووي الشافعي – رحمه الله – في كتابه “المجموع شرح المهذب”(5/ 89):
قال الشافعي والأصحاب:
إذا ترك الإمام الاستسقاء لم يتركه الناس.
وقال الشافعي في “الأم”:
إذا كان جدب أو قلة ماء في نهر أو عين أو بئر في حاضر أو باد من المسلمين لم أحب للإمام التخلف عن الاستسقاء، فإن تخلف فقد أساء في تخلفه وتركه السنة، ولا قضاء عليه ولا كفارة.
وقال في “الأم” أيضاً:
إذا خلت الأمصار من الولاة قدموا أحدهم للجمعة والعيد والكسوف والاستسقاء، كما قدم الناس أبا بكر – رضي الله عنه – حين ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بين بني عمرو بن عوف، وقدموا عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك حين تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته، وكان ذلك في الصلاة المكتوبة، وهذان الحديثان في الصحيحين.
قال الشافعي:
فإذا جاز ذلك في المكتوبة فغيرها أولى.اهـ
الوقفة الخامسة / عن كلام الحنابلة – رحمهم الله –.
أولاً: قال الإمام ابن قدامة الحنبلي – رحمه الله – في كتابه”المغني”(3/ 346):
وهل من شرط هذه الصلاة إذن الإمام؟ على روايتين:
إحداهما: لا يستحب إلا بخروج الإمام، أو رجل من قبله.
قال أبو بكر: فإذا خرجوا بغير إذن الإمام دعوا وانصرفوا بلا صلاة ولا خطبة، نص عليه أحمد.
وعنه: أنهم يصلون لأنفسهم، ويخطب بهم أحدهم.
فعلى هذه الرواية يكون الاستسقاء مشروعاً في حق كل أحد، مقيم، ومسافر، وأهل القرى، والأعراب.
لأنها صلاة نافلة فأشبهت صلاة الكسوف.
ووجه الرواية الأولى:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها، وإنما فعلها على صفة، فلا يتعدى تلك الصفة، وهو أنه صلاها بأصحابه، وكذلك خلفاؤه، ومن بعدهم، فلا تشرع إلا في مثل تلك الصفة.اهـ
ثانياً: قال الإمام ابن قيم الجوزية الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “بدائع الفوائد”(4/ 1515-1516 – طبعة: دار عالم الفوائد، بتمويل: مؤسسة الراجحي):
اختلف قوله في خروج الناس للاستسقاء بغير إمام؟.
فعنه أحمد بن القاسم:
إن لم يخرج الإمام لا تخرجوا.
وعنه الميموني:
إن أخرجهم الإمام خرجوا، وإلا فيخرجون لأنفسهم يستسقون، ما بأس بذلك.
فإن قلنا:
يخرجون بغير إمام، فهل يصلون جماعة أو يستسقون وينصرفون؟.
فعنه الميموني:
يخرجون لأنفسهم يستسقون ما يعجبني يصلي بهم بعضهم.
وعنه حرب:
أنه قال في أهل قرية ليس فيها والٍ خرجوا يستسقون، يصلي بهم إمامهم جماعة؟.
قال: أرجو أن لا يضيق.اهـ
ثالثاً: قال علي بن سليمان المرداوي الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل”(2/ 322):
قوله: «وهل من شرطها إذن الإمام على روايتين».
وأطلقهما في “الهداية” و “عقود ابن البنا” و “المستوعب” و “مجمع البحرين” و “النظم” و “الرعاية” و “الشرح” وغيرهم.
إحداهما: لا يشترط.
وهي المذهب.
قال في “الفائق”: ولا يشترط إذن الإمام في أصح الروايتين، وقدمه في “الفروع” وابن تميم.
والرواية الثانية: يشترط.
جزم به في “الوجيز”.
وعنه: يشترط إذنه في الصلاة والخطبة دون الخروج لها والدعاء، نقلها البزراطي.
وقيل: وإن خرجوا بلا إذنه صلوا ودعوا بلا خطبة، اختاره أبو بكر.
تنبيه:
محل الخلاف في اشتراط إذن الإمام إذا صلوا جماعة، فأما إن صلوا فرادى فلا يشترط إذنه، بلا نزاع.اهـ
رابعاً: قال أبو إسحاق ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “المبدع في شرح المقنع”(2/ 191):
وهل من شرطها إذن الإمام؟.
على روايتين:
إحداهما: لا يشترط.
اختارها أبو بكر، وابن حامد، وقدمها في “الفروع”، وهي ظاهر كلام الأكثر.
لأنها نافلة أشبهت النوافل، فعليها يفعلها المسافر وأهل القرى، ويخطب بهم أحدهم.
والثانية: يشترط.
لفعله – عليه السلام – بأصحابه، وكذلك الخلفاء من بعده، وكالعيد، فعليها إن خرجوا بغير إذنه دعوا وانصرفوا بلا صلاة.
وفي ثالثة: يعتبر إذنه للصلاة والخطبة دون الخروج لها والدعاء.
وقال أبو بكر: إن خرجوا بغير إذن صلوا ودعوا من غير خطبة.اهـ
خامساً: قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله – في كتابه “تذكرة أولي الألباب في ذكر السؤال والجواب في الفقه”(8/ 621) تحت هذا التبويب: “أسئلة في الكسوف والاستسقاء وجوابها لعلي وأصحابه”:
سؤال: إذن الإمام هل يشترط في شيء من الصلوات أم لا؟.
جواب: لا يشترط إذن الإمام في شيء من الصلوات، بل تصح من دون إذنه، إلا إذا أقيمت الجمعة في أكثر من موضع من البلد لغير حاجة، فالتي باشرها أو أذن فيها هي الصحيحة.اهـ
سادساً: قال العلامة العثيمين – رحمه الله – في كتابه “الشرح الممتع على زاد المستقنع”(5/ 224):
قوله: «وليس من شرطها إذن الإمام».
أي: ليس من شرط إقامتها أن يأذن الإِمام بذلك، بل إذا قحط المطر وأجدبت الأرض خرج الناس وصلوا، ولو صلى كل بلد وحده لم يخرجوا عن السنة.
بل لو وجِد السبب، وقال الإمام: لا تصلوا، فإن في منعه إياهم نظراً؛ لأنه وجد السبب فلا ينبغي أن يمنعهم، ولكن حسب العُرف عندنا لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بإذن الإمام.
اللهم إلا أن يكون قوم من البادية بعيدون عن المدن ولا يتقيدون، فهنا ربما يقيمونها، وإن كان أهل البلد لم يقيموها.اهـ
تنبيهان:
الأول: بعض البلدان لا تقام صلاة الاستسقاء فيها إلا بأمر من ولي الأمر وإذن، أو جهات يُوكِل إليها أمر الدعوة لإقامتها والإذن.
فينبغي أن يراعي طالب العلم هذا الأمر عند تقريره لهذه المسألة، أو إفتائه فيها، لتوافر النصوص الشرعية والإجماع على وجوب طاعة ولي الأمر في غير معصية الله تعالى.
الثاني: بعض البلدان لا يتدخل ولي الأمر ولا الجهات الدينية الرسمية كوزارة الأوقاف والمفتي في إقامة الناس لصلاة الاستسقاء.
فهذه البلدان تتسع فيها المسألة وتخف أكثر من غيرها.
وجمعه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.