إذا رأيت ابني أو ابنتي قد صاحبا من هيئة ظاهرهم كأهل الصلاح والاستقامة كيف أفعل
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد، يا ناصح – كثَّر الله أجرك ورفع قدرك -:
إن بعض الآباء والأمهات – سددهم الله – إذا رأوا ابنهم مع بعض من ظاهرهم الصَّلاح والاستقامة، وشاهدوا تغيُّر حاله من التكاسل والإهمال إلى شيء من الحرص على الصلاة والصيام والحج والعمرة والصدقة، وحفظ القرآن، وعَمَل الخير، أهملوا متابَعته وملاحظته، وقصَّروا في توجيهه وإرشاده، وتساهلوا معه في دخوله البيت، وفي خروجه منه، وفي تأخُّره، وفي سفره، وتهاونوا في معرفة ما يقرأ من كتب، ولمن يقرأ، وماذا يسمع من أشرطة وسيديهيات، وماذا يرى ويسمع من مقاطع صوتية عبر اليوتيوب، ولمن يستمع من الدعاة والوعاظ، وما يدخل إليه ويشارك فيه من مواقع في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وبما ذا يغرد في تويتر، ومن يتابع فيه، ولمن يعيد تغريدات، وماذا يكتب في صفحته في الفيس بوك، وما يطرح بصوته في سناب شات، وغيره.
وقُل مثل ذلك أو بعضه في البنت.
ولا ريب أن هذا من الخطأ والتقصير، والإهمال والتضييع، وتَرْك الحفظ والرِّعاية، والتهرب عن المسؤولية.
ويتضح هذا بإدراك هذه الأمور الأربعة الآتية، وتأملها بعمق وعقل وشفقة:
الأمر الأول:
إن الوالد والوالدة – سلمهما الله – هما أول وأكثر مَن يجب عليه وتلزمه رعاية الأبناء والبنات شرعًا وعقلًا وعُرفًأ، وهذه الرعاية لا يُسقطها ولا يزيلها ولا يُضعفها وجود صاحب أو صاحبة أو مُرَبٍّ أو مُرَبية من أهل الاستقامة والصلاح.
بل إن الله تعالى حين أمر بوقاية الأهل من النار أوجبه في حق المؤمن جهة نفسه وأهله من أبناء وبنات وغيرهم، فقال سبحانه:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل المسئولية العظمى وأوجبها في حق الوالد والوالدة، فقال:
(( كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ )).
رواه البخاري (2554)، ومسلم (1829).
الأمر الثاني:
إن الحافظ الجيد لأبنائه وبناته إذا وَجد من يُعينه على إصلاح أبنائه وبناته يَجدُّ ولا يتهاون، ويحرص ولا يتكاسل، ويُشجِّع ويتعاون ولا يركن، ويتابع ولا يتغافل.
حيث إن ابنه أو ابنته قد تغيَّرا إلى الأفضل والأجمل، وهو يريد لابنه أو ابنته كما تقتضيه عاطفة الأبوة وشفقتها أن يصلا إلى أعلى المقامات، وأحسن الأحوال، وأسلم التوجهات، ولا يريد أن يدخلا في دائرة الإفراط والتفريط، فيحصل لهما غلو وجنوح إلى أهله، فيضرا ويتضررا، أو يَضعُفا بعد حين وزمن، فيرجعا إلى ما كان عليه من قبل أو أسوأ.
الأمر الثالث:
إن بعض مَن صورة ظاهره كصورة أهل الصلاح والاستقامة في بعض أمور الدين ليس بصالح ولا مستقيم، فقد يكون مُتلطخًا ببعض الشركيات أو البدع والضلالات، والناس أو مَن حوله لا يدركون ذلك، ولا يتفطنون له.
أو يكون مُؤَثَّرًا عليه ببعض الأفكار المنافية للإسلام كالتكفير بغير حقٍّ؛ فينقلها إلى ابنك أو ابنتك، ثم يدخلها الابن أو البنت إلى بيتك، وقد يتأثَّر بها باقي إخوانهما أو أخواتهما أو بعضهم.
أو يكون له انتماء إلى جماعة منحرفة فيُدخل ابنك أو ابنتك معهم في الحزب والتنظيم والجماعة، فيكونا مِن أفرادها ودعاتها ورجالاتها، والناشرين لأفكارها، والمدافعين عن رموزها وأهدافها، والمجنِّدين غيرهم لها.
ألسنا نرى بعض الأبناء قد تأثَّروا بالتكفير وأهله ودعاته ففجروا أنفسَهم بين المسلمين، وفي مساجد المسلمين، وفي متاجر المسلمين، وفي مباني ومراكز ومعامل المسلمين، وبين الموظفين والعمال والمارَّة والنساء والصغار، وبين المستأمنين والمعاهدين، وفي أوطانهم وبين أهليهم، وفي بلدان دخلوا إليها بعهودٍ ومواثيق، ويزعمون أن أفعالهم هذه جهاد في سبيل، ويبشر بعضهم بعضاً بالجنة، والتمتع بنعيمها وحورها العين؟.
بلى والله نرى ذلك، ونعرفه، ونسمعه، وتاريخنا وواقعنا مليء وشاهد بذلك.
ألسنا نرى بعض من هيئته كهيئة أهل الصلاح والاستقامة يمارس الشركيات! فنراه ونسمعه يدعو الأولياء والصالحين، ويستغيث بهم، ويطلب منهم المَدَد وتفريج الكُرَب، فيقول: “فرج عني يا رسول الله”، “أغثني ياجيلاني”، “مدد يا بدوي”، “شيئًا لله يا رفاعي”؟.
بلى والله نرى ذلك، ونعرفه، ونسمعه، وتاريخنا وواقعنا مليء وشاهد بذلك.
ألسنا نرى بعض مَن هيئته كهيئة أهل الصلاح والاستقامة لا يؤمن بما جاء في القرآن والسُّنة الصحيحة وأجمع على القول به السلف الصالح من أهل القرون الأولى من أن الله – عز وجل – مستوٍ على عرشه في السماء، فيقول: “إنه في كل مكان”! أو “في قلوب عباد المؤمنين”؟!.
بلى الله نرى ذلك، ونعرفه، ونسمعه، وتاريخنا وواقعنا مليء وشاهد بذلك.
ألسنا نرى بعض من شكل ظاهره كظاهر أهل الصلاح والاستقامة يمارس البدع والضلالات في الأعياد والموالد والمآتم والقبور والأوراد والصلوات والحج وغيرها؟.
بلى والله نرى ذلك، ونعرفه، ونسمعه، وتاريخنا وواقعنا مليء وشاهد بذلك.
ألسنا نرى بعض مَن سمته وشكله كسمت وشكل أهل الصلاح والاستقامة ينتمي إلى أحزاب وجماعات وتنظيمات ومحاضن تَنسِب نفسها إلى الدِّين والإسلام، وقد عُرف قادتها وكبارها ودعاتها ورموزها، وعُرفت كتبها وأفكارها وسبلها وخططها وتعاليمها بمخالفة القرآن العظيم، ومخالفة السنة النبوية، ومخالفة ما كان عليه السلف الصالح في العقيدة والعمل والطريق والمنهج؟.
ويريدون بأحزابهم وجماعاتهم الدنيا لا الدين، والسلطة لا السَّنة واتباعها، وبالمنتمين إليهم أو المتعاطفين معهم أن يكونوا جسورًا لهم إلى كراسي الحكم، ومقاليد السلطة، والسيطرة على المجالس البلدية، وقبة البرلمان، والفوز في الانتخابات.
بلى والله نرى ذلك، ونعرفه، ونسمعه، وتاريخنا وواقعنا مليء وشاهد بذلك.
الأمر الرابع:
إنه لو تضرَّر الأبناء والبنات مِن قِبَل هؤلاء الأشخاص، وهذه التنظيمات، وهذه المحاضن، وهذه المراكز، وهذه الجماعات، وهذه الأحزاب، وهذه المذاهب، ففعلوا ما لا يجوز، وانتموا إلى ما لا يحلُّ، واعتقدوا ما يخالف الحقّ، وغلو وتشددوا، وفارقوا التوحيد إلى الشرك، والسُّنة إلى البدعة، والجماعة إلى الفرقة والشذوذ، والأهل إلى النظراء والأصحاب، فأول وأكثر مَن يُلام ويحاسب، ويُناط به التقصير، ويُلحق به التهاون، ويوصف بالتفريط، ويناله الضِّيق والكدر، ويصيبه الحزن والأسف، ويتوجَّع ويتألم ويتحسر، ويتفطر قلبه، هما الوالدان؛ لأنهما الأبوان، والمأموران بالحفظ والرعاية لا الناس.
ورحم الله تعالى الإمام المصلح الناصح ابن قيم الجوزية حيث قال في كتابه «تحفة المودود بأحكام المولود» (ص: 337 و 351-352):
” فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدَى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدِّين وسُننه، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كِباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: (( يا أبتِ إنك عققتني صغيراً، فعققتُك كبيراً، وأضعتني وليدًا، فأضعتُك شيخًا كبيراً )) “.
” وكم مِمَّن أشقَى ولده وفلذة كبده في الدُّنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته له على شهواته، ويزعُم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدُّنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيتَ عامَّته من قِبَل الآباء “.
” فما أفسد الأبناء مثل تغفُّل الآباء، وإهمالهم، واستسهالهم شرر النار بين الثياب “.انتهى.
وكتبه نصيحة:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.