الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وجوبه، وفضله، وطرقه، وثمراته، وعواقب تركه، وشرور الإخلال بطريقته
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي جعل العِزّة والسعادة في لزوم شريعته، والعملِ بأحكام دينه، ورَحِم مَن شاء مِن عباده بالإسلام وهداهم إليه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، بيَّن لأمته ما حَلَّ وحَرُم ووجَب واسْتُحِبَّ وكُرِه بأجمل بيان وأوضحه، فلا يزيغ عنه إلا هالك خاسر، فصلى الله عليه، وعلى آل بيته وأصحابه، وإخوانه الآتين مِن بعده، وسلَّم وبارك حتى تقوم الساعة.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فإنَّ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المُنكر، أي: أمْرَ الناس ونُصحَهم بفعل ما أوجب الله عليهم، وترْكِ التفريط والتقصير فيما فُرِض، وعدمِ الإخلال بِه، ونَهيَهم عن الشركيات والبدع والمعاصي، ونُصحَهم باجتنابها، والبُعدِ عن أهلها ودعاتها وقنواتها وأماكنها ومواقعها، لمِن أهمِّ المُهمات، وأفضل القُربات، وأرفع الحسنات، وأكبر المُنجيات مِن العذاب والعقوبات، بل هو واجب عظيم، لأمر الله بِه، حيث قال سبحانه: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ َ}، ووجوبه ليس على الحاكم فحسْب، أو مَن يُوظِّفهم على الحُسْبة، بل على عموم المُكلَّفين ذكورًا وإناثًا بقدر استطاعتهم إذا رأوا المنكر، لِما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ))، فقوله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ )) مَن هذه هي الشرطية، وهي مِن صيغ العموم، فتعُم كلَّ مَن رأى المنكر، يجب عليه أنْ يُغيِّرَه بحسْب استطاعته، ولِعِظَم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يترتب عليه مِن المصالح العظيمة العامة والخاصة، ويَندفع بِه مِن الشرور والفساد عن العباد والبلاد، قدَّمه الله في بعض آيات القرآن على الإيمان، فقال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }، وقدَّم سبحانه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة, مع أنَّ الصلاة عمود الإسلام, وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين, لِعِظَم الحاجة إليه، وشدَّة الضرورة إلى القيام بِه, ولأنَّ بتحقيقه تصلح الأمُّة, ويَكثر فيها الخير، وتظهر فيها الفضائل، وتختفي مِنها الرذائل، وتُقام فيها الصلوات، ويُحافَظ عليها، فقال ــ تبارك وتقدَّس ــ: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }، وهو أيضًا مِن أعظم الفوارق بين أهل الإيمان وأهل النفاق، إذ قال ــ جلَّ وعلا ــ عن المؤمنين: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }، وقال عن المنافقين: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ }، ورسول الله صلى الله عليه وسلم موصوف بالقيام بِه حتى في التوراة والإنجيل، حيث قال ــ جلَّ وعزَّ ــ: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ }، والقيام بِه مِن وصايا الصالحين لأهليهم، إذ قال لقمان الحكيم لابنه: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ }.
أيُّها المسلمون:
إيَّاكم أنْ تتركوا الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، أو تتهاونوا فيه، أو تتغافلوا عنه، أو تُثبِّطوا مَن يقوم بِه، فإنَّكم إنْ فعلتم ذلك فتحتم باب الشِّر على أنفسكم، وعلى أهليكم، وعلى أمْنِكم، وعلى اقتصادكم، وعلى مجتمعكم وبلادكم، فحلَّت بِكم العقوبات، ووُلِّي عليكم شِراركم، ولم تُستجَب دعوات خياركم، فقد قال حذيفة ــ رضي الله عنه ــ: (( لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَحَاضُّنَّ عَلَى الْخَيْرِ، أَوْ لَيُسْحِتَنَّكُمُ اللهُ جَمِيعًا بِعَذَابٍ، أَوْ لَيُؤَمِّرَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ ))، وصحَّ عن أبي بكر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه خطب الناس فقال: (( أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرِ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِقَابٍ» ))، وتركُه أيضًا مِن أسباب حلول الَّلعنة بالناس، حيث قال الله تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }، فجعل سبحانه عدم نَهيِ بعضهم لبعضٍ عن فِعل المنكرات مِن أكبر عصيانهم واعتدائهم، ولُعِنوا على تركه.
أيُّها المسلمون:
إنَّ منزلة مَن يأمرون الناس بالمعروف وينهونهم عن المنكر عند ربِّهم ــ جلَّ وعزَّ ــ لعظيمة وعالية، فهُم المفلحون عند الله، إذ قال سبحانه: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }، وهُم مِن صالحي عباده ، إذ قال تعالى: { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ }، وهُم خير الناس، إذ قال ــ جلَّ وعلا ــ: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }، ووعدهم سبحانه بأنَّه سيرحمهم، فقال ــ تبارك وتقدَّس ــ: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ }.
أيُّها المسلمون:
إنَّ المحرمات والمنكرات تتفاوت في المرتبة، فبعضها أقبح وأغلظ وأشنع مِن بعض، والعقوبة عليها أشد، والضَّرر بها أكبر، وقد دلَّ القرآن والسُّنة والإجماع على أنَّ الشرك بالله كدعاء الأنبياء أو الأولياء والصالحين معه، والطوافِ بقبورهم، والذبحِ والنذرِ لهم، هو أخطرها على العباد والبلاد، وأعظمها إثمًا، وأقبحها آثارًا وعقوبة، ثم البدع في باب الاعتقاد، وباب الأقوال والأفعال، ثم المعاصي ككبائر الذنوب، وبعدها الصغائر، والموفق المسدَّد الذي سار على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ هو مَن أنكرَها جميعًا، واهتمَّ بإنكار أعظمها أكثر مِن غيره، وكان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بعلم وفقه، فينكر ما دلَّ نص الشرع الصحيح على أنَّه منكر، فلا يجعل المكروه بمنزلة المحرَّم، ولا المستحب بمنزلة الواجب، ولا الكبائر كالصغائر، ولا المعصية كالشرك، ويَرفِق بِمَن يُنكر عليهم في أقواله وأفعاله، فلا يكون فظًّا معهم ولا غليظًا، لأنَّ الرِّفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا انتُزِع مِن شيء إلا شانه، ومَن يُحرَم الرِّفق يُحرَم الخير، والله يُعطي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنف، وكل ذلك ممَّا صحَّت بِه السُّنة النبوية، ويكون حليمًا صبورًا على أذى مَن يأمرهم وينهاهم، لأنَّه يفعل ذلك ابتغاء وجه الله، وأجره على الله، وإنْ لم يحلم ويصبر كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح، وقد قال بعض السَّلف الصالح ــ رحمهم الله ــ: «يَنْبَغِي لِمَن أَمرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر أَنْ يكون: فقهيًا فِيمَا يَأْمر بِهِ، فَقِيهًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ، رَفِيقًا فِيمَا يَأْمر بِهِ، رَفِيقًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ، حَلِيمًا فِيمَا يَأْمر بِهِ، حَلِيمًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ».
وقد ذكر الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ أنَّه يغلط في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنك: “مَن يريد أنْ يأمر وينهى إمَّا بلسانه وإمَّا بيده مطلقًا، مِن غير فقه وحِلم وصبر، ونظر فيما يَصلح مِن ذلك وما لا يَصلح، وما يَقدر عليه وما لا يَقدر”.اهـ
وإذا سمعتم ــ يا عباد الله ــ مَن يقع في الشرك فيدعو غير الله كأن يقول: “مدد يا بدوي، أغثنا يا رسول الله”، فبيِّنوا له أنَّ هذا شرك مخرج عن الإسلام، ولا تسكتوا عنه، وإذا رأيتم مَن يَحلف بغير الله فيقول: “والنبي، أو بذمتي، أو بشرفي” فبينوا له أنَّ هذا محرَّم، وهو مِن الشرك، ولا تسكتوا عنه، وإذا رأيتم مَن يَغتاب أو يَنُم أو يَسُب فذكِّروه وعِظوه لِيَترُك ذلك، ولا تسكتوا عنه، وإذا رأيتم مَن يَسمع أو يُشاهد أو يَنشر أو يَفعل شيئًا مِن المحرمات أو يَحضر لها أو يجاهر بها فنبهوه وذكِروه وعِظوه، ولا تسكتوا عنه، وإذا رأيتم مَن يُخطأ في صلاته أو وضوئه أو حجِّه أو عمرته فأرشدوه وصحِّحوا له، ولا تسكتوا عنه، وإذا رأيتم مَن يتكلم عن الولاة في المجالس أو عبر برامج التواصل فانصحوا له، ولا تسكتوا عنه، وإذا رأيتم مَن يكذب أو يغش في بيعه وشرائه أو مِهنته، فعظوه ونبِّهوه، ولا تسكتوا عنه، وإذا رأيتم مَن يَظلم فخوِّفوه بالله، ولا تسكتوا عنه، وهكذا تفعلون كلما رأيتم مُنكرًا، وبقدر استطاعتكم، وبهذا تكون مِن الآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر المفلحين المرحومين الصالحين، والحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ
الحمد لله العزيز الحميد، والصلاة والسلام على رسوله محمد ذي النُّصح الشديد، وعلى آله وأصحابه على التأييد.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فإنَّ نصيحةَ وليِّ الأمر وحاكمِ الناس وأمرَه بالمعروف ونهيَه عن المنكر إذا حصل مِنه خطأ أو تقصير أو محرَّم ليست كباقي الناس، إذ تكون في السِّر لا العلن، وفيما بينهما، وبالمكاتبات السِّرية معه، وليس عبر الفضائيات، ولا الجرائد، ولا الخُطب، ولا المحاضرات، ولا مواقع الإنترنت، ولا برامج التواصل، ولا البيانات والخطابات المنشورة الموقعة مِن عموم الناس أو الأكاديميين أو الدعاة، فإنْ قبِل النصيحة وعمِل بها فالحمد لله، وجزاه الله خيرًا، وأحسن إلى نفسه ورعيته، وإنْ لم يَقبل أو يتجاوب فإثمه على نفسه، وهو مُضاعف، والناصح قد أدى الذي عليه، وقد قضى وحكم بهذه الطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ ))، وعلى هذا الطريق المُرضِي للرَّب سبحانه في نصيحة السلطان سار الصحابة وباقي سلف الأمَّة الصالح، فصحَّ أنَّه قيل لأسامة بن زيد ــ رضي الله عنه ــ: (( أَلاَ تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فَقَالَ: أَتُرَوْنَ أَنِّى لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَهُ))، وثبت عن سعيد بن جُمهان أنَّه قال: (( لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى ــ رضي الله عنه ــ فَقُلْتُ له: إِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ، وَيَفْعَلُ بِهِمْ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ وَإِلَّا فَدَعْهُ ))، وثبت أنَّ سعيد بن جبير قال لابن عباس ــ رضي الله عنه ــ: (( آمُرُ إِمَامِي بِالْمَعْرُوفِ؟ فَقَالَ: إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَقْتُلَكَ فَلَا، وَإِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ فَاعِلًا فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَلَا تَغْتَبْ إِمَامَك ))، فأمرَه ابن عباس أنْ يكون أمرُه بالمعروف للسلطان في السِّر، وأبان له أنَّ إعلانه يُعتبر غِيبة له، بل عدَّ العلماء مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ ومَن بعدهم: إعلان النكير على السلطان في الملأ مِن إذلاله وإهانته، وذلك محرَّم غليظ ومنكر، فثبت عن زياد بن كُسَيْبٍ أنَّه قال: (( كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ ــ رضي الله عنه ــ تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَقَالَ أَبُو بِلَالٍ: انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الفُسَّاقِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ ــ رضي الله عنه ــ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ» ))، وقد ثبت: (( أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ))، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم نصيحة السلطان عنده، وأمامه، وفي مَحضره، وبين الناصح وبينه، أفضلَ الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: (( عِنْدَ سُلْطَانٍ ))، وعامة ما يَذكره بعضهم مِن أحاديث وآثار وقصص حول الإنكار على الولاة علنًا لاتصح، وما ثبت مِنها ــ وهو قليل جدًّا ــ فأمام السلطان لا في غيبته، أو حرَفوه عن مساقه ومعناه الصحيح.
والشريعة الإسلامية حينما جعلت نُصح الحاكم بهذه الطريقة ليس لأجل شخصه أو ماله أو عشيرته، بل تقليلًا للشر عن الأمَّة، وتكثيرًا للمصالح، وإبعادًا للفتن، وتخفيفًا لمفاسدها، وحِفظًا للبلاد ووحدتها وائتلافها، لأنَّ إعلان ذلك يُهيِّج شَعبه عليه، ويُبغِّضُه إلى نفوسهم، ويَفتح الباب للأحزاب والجماعات لتؤلِّب الناس ضده، لاسيَّما أتباعَهم ومَن يُحسن الظن بِهم، وضِعافَ العقول، وحُدثاءَ الأسنان، حتى تشتعل المظاهرات، ثم تتوسعَ إلى حمل السلاح والثورات، ويتدخَّلَ الأعداء في البلاد، فيَحصُلَ القتل والاقتتال، وتتقسَّم البلاد وتُدمَّر، ويَضعف الاقتصاد، ويزيد الفقر والبطالة، ويتشرَّد الناس في الأرض.
أيُّها المسلمون:
إنَّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخطير جدًّا، فليس كل مَن أعلنه يُعتبر صادقًا فيه، ويُريد بِه الخير للناس، ويَبذله لوجه الله، فقد استغلَّته الخوارج على مدار التاريخ بدعم مِن أعداء الدين والمِلِّة، لإثارة المسلمين على حاكمهم، وخروجهم عليه بالسلاح، وإثارة الحروب والفتن في بلاد الإسلام، فكان مِن وصايا عبد الله بن سبأ اليهودي الرافضي المتظاهر بالإسلام زورًا، والتي حفظها لنا التاريخ أنَّه قال وكتب لأتباعه: «ابدؤوا بالطَّعن علي أمرائكم، وأظهِروا الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر تَستميلوا الناس»، فكان هذا الأفَّاك الأثيم يَنتقلُ في بُلدان المسلمين ليؤلِّبَهم على خليفة المسلمين وإمامهم عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه ــ بالطعن فيه بالباطل، ورميهِ بالتقصير زورًا، حتى يتفرَّقَ المسلمون، وتحصل بينهم الفتن، ويتقاتلوا، فطاف الحجاز والشام والعراق فذّمه العلماء، وعابوا طريقته، وأخرجه أهلها، وكلما دخل بلدًا نَفَوه مِنها، ثمَّ دخل مِصرًا، وكان قد استفاد مِمَّا جَرى عليه في البلدان الأخرى، فأظهر في مصر التنسك والزُّهدَ والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، وذَكرَ عيوب الأمراء في الملأ، ليستميل ويستعطِف قلوب الناس إليه، لأنَّ أكثر الناس يغترون بمَن رأوا ظاهره كذلك، ويظنون أنَّه شجاع، ويُريد وجه الله، ويتكلَّم بالحق، ولا يتفطنون لطريقته هل هي موافقة للشرع أمْ مخالفة، وإلى أهدافه ومقاصده، وما تؤول إليه طريقته مِن شرور، حتى تأثَّر بِه أقوام، وعملوا بوصيته، وتابعهم أقوام، وكاتبوا أهل الأمصار الأخرى بذلك، حتى تجمَّعت مِنهم طائفة، وتوجَّهوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاصروا خليفة المسلمين الخليفة الراشد المَهدي الذي هو مِن أهل الجنة عثمان ــ رضي الله عنه ــ صِهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحكوم له بالشهادة بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح، فقتلوه وهو صائم يقرأ القرآن، حتى تحادر دمه على المًصحف المُطهّر الشريف.
بل إنَّ مِن الأصول العقائدية الكُبرى عند طوائف مِن أهل البِدع أصلًا سمَّوه: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وفسَّروه بالخروج على الولاة وقِتالهم، كما ذَكر الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ، وغيره.
فانتبهوا ــ سلَّمكم الله وسدَّدكم ــ ولا تغتروا بمَن يُظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تعرِضوا طريقته على الشرع، وهل هي موافقة لنصوص القرآن والسُّنة النَّبوية الصحيحة، وما كان عليه السَّلف الصالح مِن الصحابة فمَن بعدهم أمْ لا، وقوموا أنتم بِه طاعةً لله ربكم، ووفق شريعته، ومُراعين فيه للمصالح والمفاسد، تَسعدوا وتُفلحوا وتُرحموا في الدنيا والآخرة.
هذا وأسأل الله أنْ يجعلنا مِن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ابتغاء وجهه، وأنْ نكون موافقين لشريعته في أمرنا ونهينا، اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، وأصلح ولاتنا ونوّابهم وجندهم، وأصلح لنا نساءنا وأبناءنا وبناتنا، وأعنَّا وإيَّاهم على ذكرك، وشكرك، وحُسن عبادتك، اللهم اكفنا وجميع المسلمين شر الفجَّار، ومكر الكفار، وفساد الخوارج، وأعذنا وإيَّاهُم مِن الفتن ما ظهر مِنها وما بطن، واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وموتانا وموتى المسلمين، إنَّك سميع مجيب، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.