شيء مِن فضائل وأحكام وتفسير سورة { قل هو الله أحد }
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمَه البيان، وأشهد أنْ لا إله إلا الله الملك الرحمن، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله إلى الإنس والجانّ، بالهُدى والرحمة حتى يفوزوا بالجِنان، اللهم صلِّ الله وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والعِرفان، وعنَّا معهم وجميع أهل الإيمان.
أمَّا بعد، فيا أهل الإيمان والقرآن:
إنَّ مِن أعظم ساعات المسلم هي تلك الساعات التي يقضيها مع كتاب ربِّه القرآن، فيتلو، ويتدبَّر، ويتعلَّم الأحكام، ويأخذ العِظة والعِبرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير المدارسة للقرآن، فكان يُدارِس نفسه، وكان يُدارِسه جبريل، وكان يُدارِس أصحابه، وفي خطبة هذا الجمعة سأتدارس معكم ــ بإذن الله ــ سورة مِن أعظم سور القرآن العزيز، ألا وهي سورة الإخلاص، حيث قال الله ــ جلَّ وعلا ــ: بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }، وسُمِّيت هذه السورة بسورة الإخلاص لأنَّ الله تعالى أخلصها لنفسه، فليس فيها إلا الكلامُ عن الله وحده وأسمائه وصفاته وكماله، ولأنَّها تُخلِّص مِن الشرك مَن قرأها معتقدًا وعاملًا بما دلَّت عليه، ويكون في عِداد عباد الله المخلِصين، وعلى قِلِّة آياتها، وقِصَر كلماتها، إلا أنَّها تُعدُّ مِن أفاضل سور القرآن الكريم، لكثرة ما ورَد في فضلها مِن أحاديث نبوية ثابتة صحيحة.
فمِن فضائلها: أنَّها صفة الرحمن ــ عزَّ وجل ــ، أُفرِدت في وصفه بالكمال المُطلق، وتنزيهه عن النقائص، حيث صحَّ: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِى صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «سَلُوهُ لأَىِّ شَىْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ»، فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» )).
ومِن فضائلها أيضًا: أنَّ حبَّها يُوجب دخول الجنة، لِما صحَّ عن أنس ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ» )).
ومِن فضائلها أيضًا: أنَّ قراءتها تَعْدِل قراءة ثلث القرآن في الأجر والثواب، لِما صحَّ: (( أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ» ))، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لأصحابه: (( «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟» قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: «{ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» ))، وصحَّ عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( «احْشُدُوا، فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } )).
ومِن فضائلها أيضًا: أنَّ الدعاء بها مستجاب، وفيها اسم الله الأعظم، لِما صحَّ عن بُريدة ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» ))، وثبت عن مِحْجَنَ بْنَ الْأَدْرَعِ ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ: “اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ» ثَلَاثَ مِرَارٍ )).
ومِن فضائلها أيضًا: أنَّها أحد أجزاء القرآن الثلاثة، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ اللهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ ))، إذ القرآن إمَّا توحيد، أو أحكام، أو قصَص، وسورة الإخلاص كلها توحيد لله، فقد تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها مِن الأذكار والأوراد التي يُستحب أنْ يقولها المسلم حين يُصبح وحين يُمسى ثلاث مرات فتكفيَه مِن الشر وتمنعه، لِمَا ثبت عن عبد الله بن خبيب ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (( قُلْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِى وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ ))، والمعوِّذتان هما: الفلق والناس.
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها مِن الأذكار والأوراد التي يُستحب أنْ يقولها المسلم ثلاث مرات حين يأوي بالليل إلى فراشه لِينام، لِمَا صحَّ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )).
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها مِن الأذكار والأوراد التي يُستحب أنْ يقولها المصلي بعد السلام مِن كل صلاة فريضة مرَّة واحدة فقط، لِمَا ثبت عن عقبة بن عامر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ))، والمعوِّذات هي: الإخلاص والفلق والناس.
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها رُقية للمريض، تُقرأ عليه حين تُصيبه الأمراض، أمراض الأبدان، وأمراض السِّحر والعَين والمسِّ والصَّرع، وغيرها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرض أو مرض أحد مِن أهله رَقَى نفسه ونفوسهم بالمعوذات، إذ صحَّ عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا ))، وصحَّ عنها أيضًا أنَّها قالت: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ ))، والمعوِّذات هي: الإخلاص والفلق والناس.
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها تُقرأ مع سورة الكافرون في السُّنة الراتبة القبلية لصلاة الفجر، لِما صحَّ عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }، وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } )).
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها تُقرأ مع سورة الكافرون في الركعتين خلف مقام إبراهيم بعد الطواف حول الكعبة، لِما صحَّ عن جابر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال في شأن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ــ عَلَيْهِ السَّلَام ــ فَقَرَأَ: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } )).
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها تُقرأ بعد سورة الفاتحة في آخِر ركعة مِن صلاة الوتر، لِما صحَّ عن أُبَيِّ بن كَعبٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى }، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِـ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: «سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» ثَلَاثًا )).
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها تُقرأ مع سورة الكافرون في السُّنة الراتبة البَعدية لصلاة المغرب، حيث جاء: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ))، وصحَّحه العلامة الألباني، وغيره.
نفعني الله وإيَّاكم بما سمعتم، وجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجِلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إنَّه سميع مجيب.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فيا أهل الإيمان والقرآن:
اتقوا الله ربَّكم حق تقواه، واخشوه خشية عظيمة، وتدبروا معاني آيات القرآن وسوره، فتدبُّرها مِن أعظم أسباب لِين القلوب، وذهاب قسوتها، وزيادة العلم والإيمان، وعظيم الأجر عند تلاوتها، ويَقْوَى التدبر بقراءة كتب أئمة أهل السُّنة والحديث الأثبات في تفسير القرآن، وإنَّ مِمَّا ذَكروه ــ رحمهم الله ــ في تفسير سورة الإخلاص:
أوَّلًا: أنَّ الأحد اسم مِن أسماء الله الحسنى، لا يُسمَّى بِه غيره مِن الأعيان، ولا تَسمَّى بِه أحد غير الله، ومعنى الأحد: أي الذي توحَّدَّ بجميع الكمالات، وتفرّد بكل كمال، ومجْدٍ، وجلالٍ، وجمال، وحمْدٍ، وحكمة، ورحمة، وحِلم، وعزَّة، وعظمة، وغيرها مِن صفاته، فليس له فيها مثيلٌ ولا نظير ولا شريك ولا شبيه، فيجب على العبيد توحيده، اعتقادًا، وقولًا، وعملًا، بأنْ يعترفوا بكماله المُطلق، وتفرُّده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة.
وثانيًا: أنَّ الصَّمد اسم مِن أسماء الله الحسنى، ومعنى الصمد: الكامل في جميع صفاته وأفعاله الذي تَصْمُدُ إليه الخلق أي: تقصِده في جميع حوائجها ومطالبها وأحوالها وضروراتها، لافتقارها إليه في حياتها ومعاشها ومعادها وجميع أمورها، إذ هو المستغني عن كل أحد، المحتاج إليه كل أحد.
وثالثًا: الرَّد على اليهود والنصارى والمشركين، حيث آذوا الرَّبَّ ــ جلَّ وعزَّ ــ وشتموه، فزعموا له الولد، إذ قالت اليهود عُزيرٌ ابن الله، وقالت النصارى عيسى ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( قَالَ اللَّهُ: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ: فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» ))، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ )).
وقد قال الله ــ تبارك وتقدَّس ــ عن هذا الأذى والشتم الكُبَّار، والإفك الغليظ الشنيع، وعن القائلين بِه في سورة مريم: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا }.
ورابعًا: أنَّ الله ــ جلَّ وعلا ــ لا كُفؤ له، أي: لا مساوي له ولا نظير ولا مثيل ولا شبيه، لا في أسمائه، ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، تبارك وتعالى وتقدَّس، كما قال سبحانه في سورة أخرى في وصف نفسه المعظَّمة: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }، فأثبت لنفسه في هذه الآية صفة السمع وصفة البصر، ونفى أنْ يُماثله أحد فيهما، ولا في غيرهما مِن الصفات.
هذا وأسأل الله أنْ يُعينني وإيَّاكم على حفظ القرآن، وتلاوته، وتدبُّره، وتعلُّم أحكامه، والعمل بِه، وأنْ يكفيَنا الشُّرور في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، وبالليل والنهار، وفي الحضَر والسَّفر، وأنْ يُطهِّر قلوبنا مِن الغِلِّ والحِقد والحسد والضَّغينة، وأنْ يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأنْ يَصرف عنّاَ سيّء الأخلاق والأعمال، لا يصرف عنَّا سيئها إلا هو، وأنْ يحيينا ويميتنا على التوحيد والسُّنة، وأنْ يُبعد الشرور والفتن عن بلادنا وأهلينا وولاتنا وجندنا، إنَّ ربي سميع الدعاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.