الابتهاج في حُكم الأضحية للحُجَّاج
الحمدُ لله الذي بنعمته تَتِمُّ الصَّالحات، وصَلَّى اللَّه على محمدٍ النَّبيِّ المُختار، وعلى آله وصحابته الأبرار.
وبعد، يا مُحِب العلم ــ سدَّدك الله وأرشدك ــ:
فقد اختلف أهل العلم ــ رحمهم الله تعالى ــ في حُكم الأضحية للحاج على أقوال ثلاثة:
القول الأوَّل:
أنَّ الحاجَّ كغير الحاجِّ تُشرَع له الأضحية.
وقد نَسبَه العلامة محمد الأمين الشنقيطي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “أضواء البيان” (5/ 205 و 206):
إلى أكثر العلماء ــ رحمهم الله ــ.
فقال ــ رحمه الله ــ:
«وقد استثنى مالك وأصحابه الحاجَّ بِمِنىً، قالوا: لا تُسَنُّ له الأضحية.
وخالَفَهم جماهير أهل العلم.
نظرًا لِعموم أدلة الأمْر بالأضحية في الحاجِّ، وغيره، ولبعض النُّصوص المُصرِّحة بمشروعية الأضحية للحاجِّ بِمِنًى».اهـ
قلت:
ومشروعية الأضحية في حق المُقيم:
مشروعية استحباب عند أكثر العلماء، وهو المنقول الثابت عن أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعض أهل العلم إلى الوجوب.
وأمَّا المسافر:
فمشروعيتها في حقِّه مشروعية استحباب بالاتفاق.
حيث قال الفقيه أبو بكر الجصَّاص الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “شرح مختصر الطحاوي” (7/ 317):
«إلا أنَّ الفقهاء متفقون على أنَّها غير واجبة على المسافرين».اهـ
واحتُجَّ لمشروعية الأضحية في حق الحاج بأمور ثلاثة:
الأمْر الأوَّل:
عُموم النُّصوص الشرعية المُرغِّبَة في الأضحية، إذ لم تُفرِّق بين حاجٍّ وغيره.
1 ــ حيث قال الفقيه ابن حزم الظاهري ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُحلَّى بالآثار” (7/ 272 – مسألة رقم: 990):
«وقد حضَّ رسول الله ــ عليه السلام ــ على الأضحية، فلا يجوز أنْ يُمنَع الحاجُّ مِن الفضل والقُرْبَة إلى الله تعالى بغير نصٍّ في ذلك».اهـ
2 ــ وقال العلامة عبد العزيز ابن باز ــ رحمه الله ــ في إجابةً له على سؤالٍ في تسجيلٍ صوتيٍّ له:
« وظاهر الأحاديث الصَّحيحة أنَّها سُنَّة للحُجَّاج، وغيرهم».اهـ
الأمْر الثاني:
حديث أمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ:
(( فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ )).
[ أخرجه البخاري (5548) واللفظ له، ومسلم (1211). ]
وقالوا: فيه التصريح بلفظ الأضحية في الحجِّ.
وأُجِيبَ عن هذا الاستدلال:
بأنَّه لا يَستقيم، وليس في محلِّه، لأنَّ المُراد بالأضحية في هذا الحديث: هَدْيُ نُسُك الحج.
لأنَّ أكثر الرُّواة لم يقولوا: (( ضَحَّى ))، بل قالوا: (( نَحَرَ ))، كما عند البخاري في “صحيحه” (1709).
أو (( ذَبَحَ ))، كما عند مسلم في “صحيحه” (1211).
وبعضهم قال: (( أَهْدَى ))، كما عند مسلم في “صحيحه” (1211).
1 ــ وقد قال الإمام ابن قيِّم الجَوزيَّة ــ رحمه الله ــ في كتابه “زاد المعاد في هَدي خير العِباد” (2/ 237):
«وأمَّا قول عائشة: (( ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالبَقَر )) فهو: هَدي أُطْلِقَ عليه اسم الأضحية، وأنَّهن كنَّ مُتمتِّعات وعليهنَّ الهَدي، فالبقر الذي نحَرَه عنْهُنَّ هو الهَدي الذي يَلزَمُهنَّ».اهـ
2 ــ وقال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (3/ 551):
«وقد رواه المُصنِّف في “الأضاحي”، ومسلم أيضًا، مِن طريق ابن عُيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، بلفظ: (( ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ )).
وأخرجه مسلم أيضًا، مِن طريق عبد العزيز الماجشون، عن عبد الرحمن، لكنْ بلفظ: (( أهْدَى )) بدَل: (( ضَحَّى)).
والظاهر: أنَّ التَّصرُّف مِن الرُّواة، لأنَّه ثبَت في الحديث ذِكر النَّحْر، فحمَلَه بعضهم على الأضحية، فإنَّ رواية أبي هريرة صريحة في أنَّ ذلك كان عمَّن اعتمر مِن نسائه، فقوِيَت رواية مَن رواه بلفظ: (( أهْدَى ))، وتبيَّن أنَّه هَدي التَّمتُع».اهـ
3 ــ وقال القاضي عياض المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “إكمال المعلم بفوائد مسلم” (4/ 245):
“وأمَّا قوله في الرِّواية الأُخْرَى فى هذا الحديث: (( وَضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ)):
فليس المُراد بها الأضحية هنا، وإنَّما معناه: أهْدَى، بدليل الرِّوايات الأُخَر».اهـ
وكذلك قال جمْعٌ عديدٌ مِن أهل العلم بالحديث والفقه ــ رحمهم الله ــ.
الأمْر الثالث:
ثبوت الأضحية في الحجِّ عن صحابة ــ رضي الله عنهم ــ، وإقرارهم.
1 ــ حيث قال عبد الرزاق ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (8166):
عن محمد بن مُسلم، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قال:
(( كَانَتْ تَذْبَحُ عَنْ نَفْسِهَا شَاةً بِمِنًى، وَلَا تَذْبَحُ عَنَّا )).
وإسناده حسن.
ــــ وقال ابن أبي شَيبة ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (14193):
حدثنا وكيع، عن أفلَح، عن القاسم، عن عائشة:
(( أَنَّهَا كَانَتْ تَحُجُّ فَلَا تُضَحِّي عَنْ بَنِي أَخِيهَا )).
وإسناده حسن.
2 ــ وأخرج البيهقي في “السُّنن الكبرى” (19197)، بإسناد صحيح، عن تَميم بن حُوَيصٍ المِصرِيَّ أنَّه قال:
(( اشتَرَيتُ شاةً بمِنًى أُضحيَّةً فضلَّت، فسأَلتُ ابنَ عباسٍ ــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – عن ذَلِكَ فقالَ: لا يَضُرُّكَ )).
وهذا القول هو الأظهر.
لِعموم النُّصوص المُرغِّبة في الأضحية، وآثار الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ الثابتة.
واختار هذا القول:
النَّووي، وابن باز، والألباني.
القول الثاني:
أنَّ الحاج لا يُسَن له أنْ يُضحِّي.
حيث قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “أضواء البيان” (5/ 205):
«وقد استثنى مالك وأصحابه الحاجَّ بمِنىً، قالوا: لا تُسَنُّ له الأضحية، لأنَّ ما يَذبحَه هَديٌ لا أضحية».اهـ
وفي قولٍ عند الحنفية:
لا تجب على الحاجِّ إنْ كان مسافرًا، وبعضهم قال: أو مُحْرِمًا.
حيث جاء في كتاب “الجوهرة النيرة على مختصر القدوري” (2/ 186-187)، مِن كتب الحنفية:
«ولا تجب على الحاجِّ المسافر، فأمَّا أهل مكة، فإنَّها تجب عليهم وإنْ حَجُّوا.
وفي “الْخُجَنْدِيِّ”: لا تجب على الحاجِّ إذا كان مُحْرِمًا، وإنْ كان مِن أهل مكة».اهـ
قلت:
وقد نُقِل تَرْك الأضحية في الحجِّ عن جمْعٍ مِن التابعين.
فأخرج ابن أبي شَيبة ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (14192)، بإسناد صحيح عن إبراهيم النَّخعي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( كَانَ أَصْحَابُنَا يَحُجُّونَ وَمَعَهُمُ الْأَوْرَاقُ وَالذَّهَبُ فَمَا يَذْبَحُونَ شَيْئًا، وَكَانُوا يَتْرُكُونَ مَخَافَةَ أَنْ يَشْغَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ )).
وفي لفظٍ لعبد الرزاق ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (8143)، بإسناد صحيح أيضًا:
(( كَانُوا يَحُجُّونَ وَمَعَهُمُ الْأَوْرَاقُ فَلَا يُضَحُّونَ )).
وهذا التَّرْك مِن أصحاب إبراهيم النَّخعي التابعي ــ رحمهم الله ــ لا يَدُلُّ على أنَّ الحاجَّ لا تُستحَبُّ له الأضحية.
لأنَّه قد بيَّن سبب تَرْكِهم، وأنَّه ليس لأجْل عدم المشروعية، فقال:
(( وَكَانُوا يَتْرُكُونَ مَخَافَةَ أَنْ يَشْغَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ )).
ومِمَّن نُقِل عنه تَرْك الأضحية في الحجِّ مِن التابعين:
نافع بن جُبير، والأسود، وعبد الرحمن بن يزيد، وعلْقَمة، وسالم، والشَّعبي، ومجاهد، وأبي الأحوص.
واختاره هذا القول:
ابن تيمية، وابن قيِّم الجوزية، ومحمد الأمين الشنقيطي، وابن عثيمين.
وقال الإمام ابن قيِّم الجوزية ــ رحمه الله ــ في كتابه “زاد المعاد في هَدي خير العِباد” (2/ 237)، رادًّا على ابن حزم الظاهري ــ رحمه الله ــ:
«ومذهبُه: أنَّ الحاج شُرِع له التضحية مع الهَدي.
والصَّحيح ــ إنْ شاء الله ــ الطريقة الأولى، وهَدي الحاجِّ له بمنزلة الأضحية للمقيم.
ولم يَقل أحدٌ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه جمعوا بين الهَدي والأضحية، بل كان هَديُهم هو أضاحيهم، فهو هَدي بمِنًى، وأضحية بغيرها».اهـ
قلت:
قد تقدَّم قريبًا:
ــــ ثبوت الأضحية في الحجِّ عن أمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ.
ــــ وثبوت الإقرار عليها عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ.
القول الثالث:
أنَّ الأضحية تَجب على المَكِّي وإنْ حجَّ، دون غيره.
وهو قولٌ عند الحنفية.
حيث جاء في كتاب “الجوهرة النيرة على مُختصر القدوري” (2/ 186-187)، مِن كتب الحنفية:
«ولا تجب على الحاجِّ المسافر، فأمَّا أهل مكة، فإنَّها تَجب عليهم وإنْ حَجُّوا.
وفي “الْخُجَنْدِيِّ”: لا تجب على الحاجِّ إذا كان مُحرِمًا، وإنْ كان مِن أهل مكة».اهـ
قلت:
ومذهب أبي حنيفة ــ رحمه الله ــ وجوب الأضحية على المُقيم.
وأهل مكة إنْ حجُّوا، فالمشاعر لا تُخرجُهم عن حدِّ الإقامة، لأنَّ مسافتها ليست مسافة سَفَر.
وهذا توجيه قولهم هذا.
وليس فيه أيضًا: أنَّ الأضحية لا تُستَحبُّ للحاجّ.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.