أحكام الغناء وآلات المعازف وغناء الصوفية وإيقاعات الشَّيلات والزَّامل
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الغنيِّ الحميد، المُبدِيءِ المُعِيد، الفعَّالِ لِمَا يُريد، القادرِ على تَنفيذ ما قدَّرَه وأرادَه، الحكيمِ في كل شيءٍ قضاهُ وأجْرَاه، وهو على كل شيءٍ شهيد، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وخيرُ البَشَرِ خُلُقًا وطاعة، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه سَادةِ هذه الأُمَّة، وسَلِّم تسليمًا يَتزايد إلى أنْ تقوم السَّاعة.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فاتقوا الله تعالى تَقوى مَن خافَ وحَذِرَ واستقام، فإنَّ تقواهُ ــ جلَّ وعزَّ ــ أربحُ تجارة، وأحسنُ بِضاعة، واحذروا معصيتَه فقد خابَ عبدٌ فرَّطَ في أمْرِ ربِّه وأضاعَه، وعليكم بما كان عليه السُّلفُ الصالح والجماعة، فخُذوا بهديهم، وما كانوا عليه في المُعتقَد والعمل والسَّمْت والطاعة، واحْذَروا الخروجَ عن سبيلِهم فإنَّه مَهلَكةٌ وضَلالة، فقد قال ربُّكم ــ تبارك اسْمُه ــ زاجِرًا ومُتوعِّدًا: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }.
أيُّها الناس:
لقد كثُرت في هذه الأزمنةِ المَفاهيمُ المَغلوطَة، وتتابعت المعلوماتُ المَنكوسَة، وتوسَّعَ القولُ على الله وفي دِينه وشَرْعِه بغير علم، وانتشرت الفتاوى الباطلة، وأُبْرِزَت الآراءُ الكاسِدة، وبُهرِجَت الأقوالُ الشَّاذة، وتَوارَدَت الشُّبَهُ الخطَّافَة، تَبُثُّها قنواتٌ فضائية، وتُذكِيها إذاعاتٌ مسموعة، وتُنمِّيها مواقعُ إنترنيت، وتُشِيعُها تَغريداتُ تويتر، وتُقوِّيها جرائدٌ ومجلَّات، وتُرحِّبُ بها جوَّلاتُ فُلانةٍ وفُلان، وهذا والله نَذيرُ شَرٍّ لا فلاح، ومِعوَلُ فسادٍ لا إصلاح، وبابُ فتنةٍ لا خَير، وسبيلُ شيطانٍ لا قُرآن، ولا يَسلَم مِن أضْرارِه وتَبِعَاتِه إلا قليل.
وإنَّ مِن هذهِ المفاهيمِ المُنحرفةِ المَكذوبةِ المُفسِدة: “الزَّعْمَّ بأنَّ استماعَ آلاتِ المَعازفِ والمُوسِيقى مُختلَفٌ فيه بين الفُقهاء، فبعضُهم يُحرِّمُه، وبعضُهم يُبِيحُه”، وهذا زَعْمٌ باطل، وتدليسٌ ظاهر، وكذِبٌ مَفضُوح، وافتراءٌ صريحٌ على العِلم والعلماء، فإنَّ العلماءَ ــ رحمهم الله ــ مُتفِقونَ على حُرْمَة استماعِ المُوسيقى، لا خِلاف بينَهم في ذلك، وقد وقَفْتُ على قريبٍ مِن ثلاثينَ فقيهًا مِن شَتَّى العصورِ والمذاهب والبُلدان واللُّغات قد نقلوا جميعًا اتفاقَ العلماءِ وإجماعَ الفُقهاء على التحريم.
ومِمَّن نقلَه: شيخُ الحَرَمِ المَكيِّ في زمانه الإمامُ أبو بكرٍ الآجُرِّي، وشيخُ الشافعيةِ القاضي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَري، وعالِمُ أهلِ الشَّام وقاضيها ابنُ أبي عَصْرُون التَّمِيمي، وفقيهُ أهلِ المغربِ أبو بكرٍ الطَّرْطُوشِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ المالكي، وإمامُ الحنابلةِ مُوَفَّقُ الدِّين ابنُ قُدامَةَ المَقدِسِي، والفقيهُ ابنُ بدرانَّ الدَّشْتِيُّ الكُردِيُّ الحَنفي، وإمامُ الشَّامِ ابنُ تيميَّةَ الحَّرَّاني، ومُفتِي البلادِ السُّعوديةِ العلامةُ ابنُ بازٍ، ومُحَدِّثُ هذا العصرِ العلامةُ الألبانيُّ ــ رحمهم الله تعالى ــ.
بل قال الحافظ ابنُ رجَبٍ الحنبليُّ البَغداديُّ ــ رحمه الله ــ: “وأمَّا استماعُ آلاتِ المَلاهِي المُطْرِبَة المُتلقَّاةُ مِن وضْعِ الأعاجِم، فمُحرَّمٌ مُجمَعٌ على تحريمه، ولا يُعلَم عن أحدٍ مِنهم الرُّخصَةُ في شيءٍ مِن ذلك، ومَن نَقل الرُّخصَّةَ فيه عن إمامٍ يُعتَدُّ بِهِ فقد كذَبَ وافتَرَى”.اهـ
وكيفَ يَختلِفُ الفقهاءُ في تحريمِ استماع المُوسيقى والضَّربِ على آلاتِها وقد أخرج الإمام البخاريُّ في “صحيحه” عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ ))، وهو حديثٌ صحيحٌ، صحَّحَهُ عشراتُ الأئمَّةِ والمُحدِّثين.
وقد دَلَّ هذا الحديثُ النَّبوي على تحريم المُوسيقى مِن ثلاثة أوجُه:
الوجْهُ الأوَّل: مِن قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (( يَسْتَحِلُّونَ ))، لأنَّ الاستحلالَ لا يكون إلا لِشيءٍ قد حُرِّم.
والوجْهُ الثاني: مِن قَرْنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم استحلالَ المعازفِ باستحلال الخَمرِ والفُروجِ والحَرير، وهذهِ أُمُورٌ تحريمُها ثابتٌ بنَصِّ القرآنِ، والسُّنة النَّبوية، واتفاقِ العلماء.
والوجْهُ الثالث: أنَّ هذا الحديث قد جاء في سِياق الذَّمِ والقَدْحِ والعَيبِ لِهؤلاءِ الأقوامِ على هذا الاستحلال.
وأخرَجَ الإمام أحمد وأبو داود بإسناده صحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْكُوبَةُ ))، والكُوبَةُ هي: الطَّبْل، فإذا حُرِّمَ الطَّبْلُ مع كونِه مِن أقلِّ آلاتِ المَعازِفِ إطْرَابًا، فغيرُه تحريمُه أولى وأوكَد.
ومِن هذهِ المَفاهيمِ المُنحرِفةِ المكذوبةِ المُفسِدةِ أيضًا: “الزَّعْمُ بأنَّ الغناءَ المشهورَ المعروفَ بين الناس في أيِّامِنا هذه والأيِّامِ التي قبلَها، والذي يُهيِّجُ الطِّبَاعَ، ويُثيرُ الهَوى، ويَدعو إلى الفُسوق والرَّذيلة، بِذِكْرِ النساءِ والحُبِّ والعِشقِ والغَرامِ وأوصَافِ النساءِ والقُبَلِ والعِناقِ مُختلَفٌ في حُكمه بين العلماء ــ رحمهم الله ــ، فبعضُهم يُحرِّمُه، وبعضُهم يُبِيحُه”، وهذا أيضًا كسابقه زَعْمٌ باطل، وغِشُّ وخِداعٌ وتَغريرٌ بالناس، وتَدليسٌ وكذِبٌ على العِلم والفقهاء، فإنِّهم مُتفِقون على تحريم هذا النَّوعِ مِن الغناء، لا خِلاف بينهم في تحريمه، وقد نَقلَ اتفاقهم على تحرِيمِه كثيرٌ مِن الفقهاء، وإذا صَحِبَتْهُ آلاتٌ موسيقيةٌ كان التحريمُ أشَدَّ وأغلَظ.
وقد قال فقيهُ بلادِ الأَندلُسِ ومُحدِّثُها أبو العباس القُرطِبيُّ المالكي ــ رحمه الله ــ، وغيره مِن العلماء: “الغناءُ المُعتادُ عند المُشتهرِين بِه، الذي يُحرِّكُ النُّفوسَ، ويَبعثُها على الهَوى والغَزَلِ والمُجُون، الذي يُحرِّكُ الساكِنَ، ويَبعثُ الكامِن، وهذا النوعُ إذا كان في شِعْرٍ يُشَبَّبُ فيه بِذكرِ النساء، ووصْفِ محاسِنِهنَّ، وذِكِر المُحرَّمات، لا يُختلَفُ في تحريمه، لأنَّه اللَّهوُ واللَّعبُ المَذمومُ بالاتفاق”.اهـ
وكيف يَختلِفُ في حُكمِهِ العلماءُ، والله تعالى يقول عن أهل هذا الغناء: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }، وقد صحَّ أنَّ ابنَ مسعودٍ ــ رضي الله عنه ــ كان يُقْسِمُ بِالله على أنَّ الغناءَ هو المُرَادُ بَلَهْوِ الحديثِ الذي يُضِلُّ عن سَبيل الله في هذه الآية، فيقول: (( هُوَ وَاللهِ الغِنَاءُ )).
ووجْهُ الاستدلالِ مِن هذه الآية على تحريم الغناء: أنَّ اللهَ قد سَمَّى الغِناءَ لَهْوًا، وجعَلَه مِن اللَّهوِ المُضِلِّ عن سَبيله، ولا يكونُ هذا الوصْفُ إلا في حقِّ شيءٍ مُحرَّمٍ شديدِ التحريم.
وأمَّا إذا كان الغناءُ بصوت المرأةِ فسماعُه مِنها أشدُّ تحريمًا، وأعظم خطيئةً، وأكثر وِزْرًا، باتفاق أهل العلم.
وقد قال فقيهُ بلادِ المغربِ أبو بكرٍ الطَّرْطُوشِيُّ المالكي ــ رحمه الله ــ: “وأمَّا سماعُه مِن المرأة فكُله مُجْمَعٌ على تحريمه”.اهـ
وكيف لا يَتفِقُ العلماءُ على تحريمه، وقد نَهَى اللهُ النساءَ وزَجَرَهُنَّ، فقال سبحانه: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً }.
ووجْهُ الاستدلالِ مِن هذهِ الآيةِ على تحريم غِناءِ المرأة أيضًا: أنَّ الله نَهَى وحرَّم على النساء أنْ يَخضَعْنَ ويَلِنَّ في كلامِهنَّ إذا خاطَبْنَ الرِّجالَ الأجانِبَ حتى لا يَطمَعَ فيِهنَّ مريضُ القلب، ضعيفُ الإيمان، وأمَرَ أنْ يكونَ كلامُهُنَّ معَهم معروفًا، أي: ليس بغليظٍ ولا جَافٍّ ولا لَيِّنٍ خاضِعٍ رَقيقٍ، يَدفعُ الشَّرَّ عنها، ويُبْعِدُ مَيَلانَ القلوبِ والشهواتِ والأنظار إليها، ولا ريبَ عندَ كلِّ عاقلٍ سَليمِ الطَّبْعِ أنَّ غناءَ المرأةِ مِن أشدِّ قولِها الخاضِع اللّيِّنِ الرَّقيق الذي يُطمِعُ الناسَ فيها، ويُغرِيِهم بها، ويَفْتِنُهم ويُحرِّكُ شهواتِهم، وليس مِن القولِ بالمعروف، فيكون المَنْعُ مِن غنائها، وتحريمُه أشدُّ وأظْهَرُ وأبيَن.
فكيفَ لو أدْرَكَ علماؤنا الماضونَ غناءَ هذه الأيَّامِ، غناءَ الفيديو كليب، وما فيه مِن الكلامِ المَاجِنِ الهابِط، والتَّعَرِّي الفاحِشِ الفاجِر، والمِكياجِ الفاتِنِ المُثِير، والقُبَلِ في الشِّفاةِ والأعناق، وتَحاضُنِ الصُّدورِ والأجساد بين الرّجال والنساء، والرَّقصِّ والتمايُلِ والتَّغَنُّج، حتى أصبحَ جسَدُ المرأةِ هو بضاعةُ ودِعايةُ ترويجِ الأغنيةِ والحَفْل.
أيُّها الناس:
إنَّ ما يُذْكَرُ عن بعض العلماءِ على قِلَّتِهِ مِن الترخيصِ في الغناء، لا يَخرُجُ عن هذه الأحوال:
الحال الأوَّل: أنْ يكونَ غيرَ صحيحِ عنهم، بل كذِبٌ، وهذا هو الأكثر.
والحال الثاني: أنْ يكونَ المرادُ بِه الشِّعرَ والحِداءَ والرَّجَز، حيثُ كانت العربُ إذا سافرَ أحدُهُم، أو جماعةٌ مِنهم، أو كانوا في عَملٍ شَاقٍّ مُجْهِد، سَلَّوا أنفسَهم لِيَذهبَ ما بِهم مِن مَلَلٍ أو نَومٍ أو تَعَبٍ بشيء مِن الشِّعر الطَّيِّبِ الحسَن، يُردِّدونَه بصوتٍ عالٍ مُجَمَّلٍ مُحَسَّنٍ، ولا يَسيرُنَ في تَحسينه على قوانين الغناءِ والمُغَنِّينَ ومدارِسِهم، وهذا النّوعُ تُسَمِّيهِ العربُ غناءً، وهو جائز شرعًا.
وقد قال إمامُ أهلِ الغَربِ ابنُ عبدِ البَرِّ الأندلُسِيُّ المالكي ــ رحمه الله ــ: “وهذا البابُ مِن الغناء قد أجازَهُ العلماءُ، وورَدَت الآثارُ عن السَّلف بإجازتِه، وهو يُسمَّى غناءَ الرُّكْبَان، وغناءَّ النَّصَب، والحِداء، هذهْ الأوْجُه مِن الغناء لا خِلاف في جوازها بين العلماء.اهـ
وقال إمامُ أهلِ التفسير ابنُ جَريرٍ الطّبَريُّ ــ رحمه الله ــ: “وإنَّما تُسَمِّيهِ العربُ “النَّصَب”، لِنَصَبِ المُتَغَنِّي بِهِ بصوته، وهو الإنشادُ لَه بصوتٍ رَفيع”.اهـ
والحال الثالث: أنْ يكونَ النَّقلُ عنهم غيرَ صريحٍ، بل مُحتمِلًا لأمورِ عدَّة، ولا يجوز أنْ يُنْسَبَ قولٌ إلى عالمٍ بكلامٍ كهذا.
والحال الرابع: أنْ يكونَ مَن نُسِبَت إليهِ الإباحةُ ليسَ مِن العلماء، ولا في عِدادِ الفقهاء، كالقصَّاصٌ أو المؤرِّخين، وأشباهِهم.
أفَيَجُوزُ شَرْعًا بعد هذا أنْ يَقولَ بعضُ دُعاةِ ورُموزِ الأحزابِ المُتَسَمِّيةِ بالإسلامية، أو بعضُ مُفتِي القنواتِ الفضائية، أو بعضُ مَشيَخةِ الطُّرقِ الصوفية ــ في عصرنا هذا ــ إذا سُئِلَ عن حُكم الغناء: “لقد اختلَفَ فيه العلماء”، أو يقولَ: “الغناءُ حسَنُه حسَنٌ، وقبيحُه قبيح”، أو يقولَ: “إذا كان لا يُلْهِي ولا يُشغِل فلا بأس”، أو يقولَ: “إذا لم تكن المُوسيقى فيه صَاخِبَة فلا حرَج”؟، وهُم أيضًا والناسُ معَهم يَعلمونَ أنَّ الغناءَ المسؤولَ عنه، والمُسْتَفْتَى عن حُكمِه، والمشهورَ المعروفَ بين الناس، هو الغناءُ الذي كلامُه مِن النوعِ المُحرَّمِ الذي يَدعو إلى الفِسْق والرَّذيلة، وتُصاحِبُه آلاتُ المُوسيقى، وتُغنِّيه النساء، أو يُغنِّيه الرِّجالُ ومعَهم النساءُ باللباسِ العَاري والقُبَلِ والعِناقِ والرَّقص، ويَسْحقُ الفضيلةَ والطُّهرَ والعِفَّةَ والحياء، ناهيكَ عمَّا يُهدَرُ في تجهيزهِ مِن أموالٍ طائلة، وما يَحصلُ فيه مِن اختلاطٍ شَنيعٍ مَشِينٍ، في الحُضور، ومع المُلَحِّنينَ والشُّعراءَ، والموسيقيينَ والمُخْرِجِين، والمُوصوِّرين والمُعِدِّين،، ومع فِرَقِ العَزْفِ والرَّقص، والمُدرِّبين والمُدرِّبات، ولقد كان بعضُ المُغنِّينَ أصْدقَ مِن هؤلاء، حيث قال بِما معناهُ عندما أُخْبِرَ عن الغناءِ، وأنَّ بعضَهم أبَاحَه: “دَعْكَ مِنهم، فلا نَشُكُّ أنَّه حَرام، ونَتمنَّى أنْ لا نموتَ عليه، وأنْ يتوبَ الله علينا مِنه”، وسُبحانَ اللهِ عددَ خلْقِه، ورِضَا نفْسِه، وزِنَةَ عرْشِه، ومِدِادَ كلماتِه.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــ
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على نبيِّنا محمدٍ الأمين، وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فإنَّ مِن المَفاهِيم المُنحرِفةِ المُضِلَّةِ المُفْسِدة: الزَّعْمَّ بإباحةِ أو استحبابِ الغناء الذي يَفعلُه الصوفيةُ في المساجدِ أو الموالدِ أو الحَضَرَاتِ أو الزَّوايَا والخَلَوَات، ورُبَّما رَقَصُوا معَه، وأخَذُوا يَدورونَ بأبدانهم كالمجانين، ويَتمايلون كالسُّفهاء، ويَضرِبونَ معَه بالدفوفِ أو الطَّبول، وقد يُنقَلُ عبرَ بعضِ القنواتِ الفضائيةِ أو الإذاعات، ويَعُجُّ بِهِ اليُوتيوب، ويُسمُّونَه بالتَواشِيحِ الدِّينيةِ، أو السَّماع، أو النَّشيد الدِّيني، أو التَّغبِير، ويَتقرَّبُونَ بِهِ إلا الله، ويَرجونَ الأجْرَ في قولِه ونَشرِه وسماعِه، ويَدعونَ إلى الإسلام بِزَعمِهم عن طريقه، مع أنَّه مُحرَّمٌ باتفاق الفقهاء، وأوَّلُ مَن أحْدَثَه هُمُ الزَّنادِقة.
حيث قال فقيهُ ومُحدِّثُ المالكيةِ أبو العباسِ القُرطُبِيُّ ــ رحمه الله ــ: “وأمَّا ما ابتدعَهُ الصوفيةُ في ذلك، فمِن قَبيلِ ما لا يُختلَف في تحريمه، لكنَّ النفوسَ الشهوانية غلَبَت على كثيرٍ مِمَّن يُنْسَب إلى الخير، حتى لقد ظهرَت مِن كثيرٍ مِنهم فْعلاتُ المجانينِ والصِّبيان، حتى رَقَصوا بحركاتٍ مُتطابقةٍ، وتقطيعاتْ مُتلاحِقة، وانْتَهَى التَّواقُحُ بقومٍ مِنهم إلى أنْ جعلوهامِن بابِ القُرَبِ وصالحِ الأعمال، وأنَّ ذلكَ يُثمِرُ سَنِيَّ الأحوال، وهذا على التحقيق مِن آثارِ الزَّندقة، وقولِ أهلِ المُخَرِّفَة، والله المستعان”.اهـ.
وكان العلماءُ قديمًا يُسمُّونَ هذا النوع مِن الغناء بالتَّغبِير، فصحَّ عن الإمام الشافعي القُرَشي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: “تَركتُ بالعراق شيئًا يُقال له: التَّغْبِير، أحدَثَهُ الزَّنادقة، يَصدُّون بِهِ الناسَ عن القرآن”، وقال الإمام أحمد بن حنبل ــ رحمه الله ــ حين سُئِل عنه: “بِدْعَة”.اهـ
ويَزدادُ هذا النوعِ حُرمَةً وقُبْحُا وإثْمًا إذا صاحبَه ضَرْبٌ بالدُّفوفِ أو الطُّبُول أو غيرِهما مِن آلاتِ المَعازِف، لأنَّ آلاتَ المعازِفِ مُحرُّمَة باتفاق العلماء، أو كان في بيوتِ اللهِ المساجد، لأنَّ المساجدَ إنَّما بُنِيَتْ لِعبادةِ اللهِ بما جاء في كتابه القرآن، وسُنَّة نَبيِّه صلى الله عليه وسلم.
فوا عَجَبًا للصوفية حيثُما كانوا! أكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه وأهلُ القُرونِ الأولى يَدْعونَ الناسَ إلى الله وإلى طاعته بمثلِ هذا الغناء؟ أكانوا يُتوِّبُونَ العُصاةَ والمُذنِبين بهذه الطريقة؟ أنَشَروا الإسلام وفتَحوا الأقاليم، وهَدوا أهلَهَا إلى ربِّهم بهذا الغناء؟ لا واللهِ ما فعَلُوه ولا عرَفُوه، وإنَّما أخرجُوهُم مِن الشِّركِ إلى الإسلام، ومِن الضَّلالِ إلى الهُدى، ومِن الذُّنوبِ إلى الطاعاتِ بقالَ اللهُ في كتابه، وقالَ رسولُه صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِه، بالعلمِ والفقهِ في الدِّين.
أيُّها الناس:
لا يَزال شَرُّ أهلِ الباطلِ يَتتابعُ على أسمَاعِنا وبُيوتِنا وأبنائِنا وبناتِنا، فأحدَثوا لَنَا في هذا العصر مُوسِيقىً جديدة، تَكثُرُ مع الإنشادِ والزَّاملِ، وهي المُوسيقى الحادثة بالإيقاعاتِ أو المُؤثِّراتِ الصَّوتية عن طريق الأجهزةِ الإلكترونية، التي تُؤدي نفسَ ما تُؤديه آلات المُوسيقى مِن صوتٍ طَرَب، وهذه الإيقاعاتُ والمؤثِّراتُ لا إشكالَ في أنَّها مُحرَّمةٌ أيضًا، وأنَّها تُلحَقُ عندَ أهلِ العلمِ باُلكتابِ والسُّنةِ في التحريم بالمُوسيقى، لأنَّ الشريعةَ لم تُحرِّم آلات الموسيقى والعَزْفِ لكونها مُجرَّد آلة، أو لأجْل مادة تصنيعها، بل حرَّمَتها لِمَا يَحْدُثُ عنها مِن طَرَب، وهذه الإيقاعاتُ والمؤثِّراتُ يَحصُل بِها ومِنها نفسُ الطَّرَبِ المُوسيقي، فتأخُذ نفسَ حُكْمِ المُوسيقى وآلاتِها، والحُكْم يَدورُ عند الفقهاء مع عِلَّتِه وجودًا وعدمًا.
هذا وأسألُ اللهَ تعالى: أنْ يُباعِدَ بينَنا وبينَ ما حرَّمَه علينا، وأنْ يُجنِّبَنا القولَ عليه وفي دِينه وشرعه بغير علم، اللهم أعنَّا على ذِكرِك، وشُكرِك، وحُسن عبادتِك، اللهم وفِّق للخيرِ والفضيلة جميعَ أهلينا، اللهم سَدِّد ولاتَنا ونُوَّابَهم وجُندَهم، وأصلح بِهم دِينَ ودنيا عِبادِك، اللهم إنَّا نسألُك عِيشةً تقيَّة، ومِيتةً سَويَّة، ومَرَدًّا غيرَ مُخْزٍ، اللهم ارفع الضُّرَ عن المُتضرِّرين مِن المسلمين في كل بلاد، إنَّك سميع الدُّعاء، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.