إنما المؤمنون إخوة فأحبوا لهم ما تحبون لأنفسكم
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي أكرمَ المؤمنينَ بأُخُوَّةِ الإيمان، وجعلَ ميزانَ تفاضُلِهم عنده تَحيقيقَ تقواه، ومِن بَطَّأَ بِه عملُه مِنهم في قُرْبِه مِن مولاهُ لم يُسرِع به نَسَبُه ولا جاهُه ولا مالُه ولا ولدُه ولا عشيرتُه ولا قوَّتُه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي رحِمَ الله بِه العربَ والعَجمَ، وكانَ خيرَ قُدوَةٍ لَهم في التَّآخِي والتآلُفِ وصفاءِ النَّفسِ ومحبَّةِ عُمومِ الخيرِ وتَحصيلِه للمؤمنين، فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، وعلى آلِ بيته، وعلى أصحابهِ الذين يُؤثِرون على أنفسِهم إخوانَهم ولو كان بِهم خَصاصَة.
أمَّا بعدُ، فيا أهلَ الإسلامِ والسُّنَّة:
اتقوا اللهَ ــ جلَّ وعزَّ ــ في أنفسكم بأنْ تُشفِقوا عليها وتَرحموها، ولا تتسبَّبوا في توريطِها وإهلاكِها وظُلمِها والإساءَةِ إليها، بأنْ تُوقِعوها فيما حرَّمَ الله عليها مِن التَّعدِّي على أنفُسِ وأموالِ وأعراضِ إخوانِكم المسلمين مِن العشائرِ والقبائل والبُلدان والأجناس والألوان والجِنسيات الأُخْرى، فقد صحَّ عن نبيِّكم صلى الله عليه وسلم أنَّه زجَرَكم عن ذلك فقال: (( لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ )).
واعلموا أنَّ حقوقَهُم التي جَنيتُم عليها بغير حقٍّ، وأنفسَهُم التي تَعدَّيتُم عليها بدونِ وجْهٍ مُعتبرٍ دِينًا، وأعراضَهُم التي نِلْتُم مِنها بغير مُوجِبٍ شَرعيٍّ صحيح، لا يُسقِطُها كَثْرَةُ الصلاةِ والدعاء، ولا كَثْرَة الذِّكرِ والاستغفار وتلاوةِ القرآن، ولا كَثْرَة الحجِّ والعُمرة، ولا حُسْنُ التوحيد والعقيدة، ولا زيادةُ الصَّدقةِ والبِرِّ والإحسان، ولا قيامُ الليلِ، وصِيامُ النهار، ولا يُسقِطُها مُرورُ السِّنين، وكونها حصَلَت أو قاتَ الشبابِ والطَّيشِ وقبْلَ التوبةِ التَّدَيُّن، ولا رُجوعُكَ إلى بلدك، بل لا يُسقِطها إلا عَفوُهُم وتنازُلُهم ومُسامَحَتُهم، لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ )).
واعلموا أيضًا: أنَّه كلَّما بَعُدَتْ دِيارُهم عنكم أو قلَّت خُلطَتُكم لَهم كلَّما عَسُرَ عليكم رَدُّ مظالمِهم، وصَعُبَ عليكم طلبُ التَّحلُّلِ مِنهم، وتَعذَّرَ كسْبُ عَفوِهِم ومسامحتِهم، فإنْ لم يَعفوا عنكم ويُسامِحوكم فيا لِخَسارةٍ شديدةِ قد حلَّت بكم، ويا لِبُؤسِ كبير لَحِقَ بِكم، ويا لِفظاعَةِ ما وصلتُم إليه مِن حال، إذ لا نِهايةَ لذلك إلا القصَاصُ يوم العَرْضِ والجزاء، يوم يُبعثَرُ ما في القبور، ويُحصَّلُ ما في الصُّدور، يوم يُقتَصُّ حتى لِلشاة مِن أُختِها ذاتِ القُرون التي نطحَتها، لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ )).
أهلَ الإسلامِ والسُّنَّة:
اتقوا الله تعالى في إخوانكم المسلمين، سواء كانوا مِن أرضِكم وبلادِكم ومدينتِكم وقريتِكم أو لَيسوا مِنها، أو كانوا مِن قَرابتِكم وقبائِلكم وعشائِركم وأصحابِكم أو مِن البَعيدينَ عنكم نَسَبًا وصُحْبَة، أو كانوا مِن العرب أو مِن غيرِهم، أو كانوا مِمَّن يَعودُ عليكم بالمَغْنَمِ والنَّفعِ والمَكسَب والشُّهرة والثناء أو مِمَّن ليس وراءَه مصلحةٌ وفائدة.
وهل أنتم إلا مِنهم، وهُم إلا مِنكم، شِئتُم أمْ أبيتُم، قَضَى بذلك رَبُّ العالمين وحَكَم، فلا مُعَقِّبَ لِحُكمِه، ولا رَادَّ لقضائِه، فقال سبحانه في سورة الحقوق، سورةِ الحُجُرات: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، وأذاعَ هذا الحُكم، وزادَ في توضيحه، وقَوَّى مِن ثبوته، وبيَّن أُسُسَه رسولُه ومبعوثُه إليكم رحمةَ لَكم وللعالمِين معَكم، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه خطَب المسلمينَ في مَجْمَعٍ عظيم، وموسِمٍ جليل، ووقتٍ شريف، في وسَطِ أيَّامِ التشريق، في حَجَّة الوداع، قبْل موتْه بأشهرٍ قليلة، فقال صلى الله عليه وسلم: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟، قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟، قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ “، قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ، أَمْ لَا ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَلَّغْتُ، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ )).
هذا هو الإسلامُ ــ يا عِباد الله ــ، وهذا هو الدِّين، مَن قَبِلَهُ وانقادَ لَه وعملَ بِه فهو السَّعيدُ في قلْبه، السعيد في وقتِه، السعيد في سَفره وإقامتِه، السعيد في دُنياه، السعيد في قبْره، السعيد في آخِرَته، ومَن هجَرَهُ وقَلَاهُ أو ضَعُفَ في قلْبِه وقولِه وفِعلِه فلم يَظلِم ولم يُهِن ولم يُزْرِ ولم يُهلِك غير نفسِه، ولم يُسوِّد إلا صحيفة عملِه، وسيكون قلْبُه في ضِيقٍ لا راحة، وصَدرُه في حرَجٍ لا انشراح، وحياتُه مُكدَّرةَ لا سعيدة.
هذا هو الإيمانُ الذي رابطتُه أقوى الرَّوابط ِبينَكم، وآكدُ الأواصِرِ التي تَجمعُكم، وأشدُّ عُرَى تَوَحُّدِكُم وائتِلَافِكم، ووالله ما جَمَعَ الناسَ يومًا قوميةٌ ولا لُغةٌ ولا قَبيلة ولا بلد ولا لون ولا مال، إنَّما جمعَهم اللهُ وألَّفَ بين قلوبِهم على اختلاف عِرقِياتِهم ولُغاتِهم وبلدانِهم بهذا الإيمان، وهذا الدَّين، كما قال سبحانه مُمْتَنًّا: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
وبهذا الإيمانِ أُكْرِمتُم بعَد الذِّلة، واجتمعتُم بعد الفُرْقَة، وقَوِيتُم بعد الضَّعف، وأَمِنْتُم بعد الخوف، وشَبِعتُم بعد الجُوع، وبِه تَترقَّونَ في منازل التَّنعيم والنَّعيم، وبِه تَتفاضلونَ عند ربِّكم، وبِه تَتفاوتُ درجاتُكم في الآخِرة، فكونوا كما أرادَ اللهُ ورسولُه لَكم، ولا تكونوا كما أرادَ أهلُ الكفرِ والنِّفاقِ لَكم، كونوا على الوصْفِ الذي وصَف نبيُّكم صلى الله عليه وسلم، فقد صحَّ عنه أنَّه قال: (( تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى )).
ولْنَبْدَأ في هذا الطريق بإصلاح أنفُسِنا أوَّلًا، وغرْسِ هذهِ المبادئ الطَّيِّبَة في أهلينا، ومَن حولَنا، ومَن تَحتَ أيَدِينا وتعلِيمِنا، فالنَّفسُ هي رأسُ المال، وهي أهَمُّ، وباقِي الناسِ رِبْحٌ، والبعضُ في باب الصَّلاح والإصلاح لا يَنظرُ إلا إلى العلماءِ والدُّعاة، أو إلى الحُكَّامِ وذَوي السُّلطَة، أو إلى المُعلِّمين، أو إلى التُّجار، وأمَّا نفسُه وأهلُه فالعِنانُ لَهم مُطْلقٌ مُرسَل، يَفعلونَ ما أرادوا، وكيف شاءوا، ومتى اشتَهت أنفُسُهم.
هذا، والحمدُ لله المحمودِ على كلِّ حال، الكبيرِ المُتعال، الرِّاحِمِ الغَفَّار.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــ
الحمدُ لله الذي لا يَغيبُ عنه عَقْدُ قلْبٍ، ولا نُطْقُ لِسان، ولا عمل يَدٍ أو قَدَم، يَحلمُ على مَن عَصَى، ويَنتقِمُ بما لا يُحْصَى، وصَلَّى وسَلَّمَ على نبيِّه محمدٍ المُجْتبَى، المبعوثِ رحمةً وهُدى، وعلى آله وأصحابه وأتباعِه ما طلعَ نَجْمٌ وأشْرَقَ ضُحى.
أمَّا بعد، فيا أيُّها الخائفونَ مِن اللهِ القويِّ العزيز:
حاسبوا أنفسَكم قبْل أنْ تُحاسَبوا، وأحسِنوا إليها قبْل أنْ تتحسَّروا، وصُونُوها عن الظُّلم والبَغْيِ والعُدوانِ القولِيِّ أو الفِعلِيِّ على الآخَرِينَ حتى لا تُهانوا يومَ الحَشْر وتَندموا، وأبعِدوها عن مظالِم العِبادِ حتى لا تُخْزَى يومَ التَّنادِ وتُعذَّب، فإنَّ المُحاسبَة مُنجِية، وإنَّ العبدَ لا يَزالُ بخيرٍ ما كان لَه واعظٌ مِن نفسِه، وكانت المُحاسَبةُ مِن هِمَّتِه، وقد قال ربُّكم ــ جلَّ وعلا ــ آمرًا لَكم بذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
لِتَنْظُرَ كلُّ نفسٍ في حالها مع إخوانها المسلمين مِن كلِّ أرضٍ في أقوالِها، وفي أفعالِها، وفيما يَتعلَّقُ بِدَاخِلَةِ قُلوبِها، هل هي سائرةٌ معَهم بِمُقتضَى الدِّين والإيمان، بمُقتَضَى قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ))، وقولهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ ))، وقولهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ))، وقولهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ )).
فيا تُرَى يا عِبادَ الله ــ هل نحنُ داخلونَ في هذهِ الأحاديثِ النَّبويةِ، ومِن أهل العملِ بها، أمْ بَعيدونَ عنها، أو غافلون ساهون؟ هل عمِلنا مع بعضنا البَعض بمُقتَضَى الإيمانِ والأُخُوَّةِ فيه؟.
هل نُعامِلُ ونَتعامَلُ مع المسلمين مِن مَرضَى وعُمَّالٍ وجِيرانٍ ومارَّةٍ ومسئولينَ ومُسِنِّينَ ومُستضعَفِينَ وأُجَرَاءٍ ومُساهِمينَ ومُشترِينَ كما نُحِبُّ أنْ يُعاملونا ويتعاملوا بِه معنا؟
هل البائعُ مِنَّا إذا جاءَه مُشتَرٍ عاملَه بما يُحِبُّ أنْ يُعامَلَ بِه، فنصَحَ له فيما يَشتريه مِنه، ولم يَغْبِنه في السِّعر، أمْ أنَّه يُدلِّسُ عليه في الصِّناعة، ويَكذب في الوصْف والمدْح، وينظرُ في الرِّبح لا في الدَّارِ الآخِرة؟.
هل الطبيبُ مِنَّا إذا جاءَه مريضٌ مُتألِّمٌ نظرَ إليه بالمصلحة كنفسهِ أو أحَدِ مِن أهله عندَ النَّظر إلى العورات، وفي الفُحوصاتِ والتحاليل والأَشِعَّة والأدوية، وفي الحرص على الصِّحة، أمْ أنَّه يُراعِي عيادتَه أو المَشْفَى الذي يَعملُ فيه أو الشركةَ الدوائيةَ التي يَكتبُ دواءَها؟.
هل صاحبُ الحِرفَةِ والصَّنعةِ مِنَّا إذا جاءَه مَن يريد إصلاحَ شيءٍ في بيته أو مركبتهِ أو جهازه عاملَه بما يُحِبُّ أنْ يُعامَلَ بِه مِن جهة الإتقانِ وقِطَعِ الغَيارِ والسِّعر، أمْ أنَّه يَجمعُ له بينَ الغَبْنِ في السّعر، والغِشِ في القِطع، والرداءةِ في العمل، والتأخير في الموعد؟.
هل المزارعُ مِنَّا يَنظرُ لآخِرَتِه حينَ يَرُشُّ المبيدات الحشرية، ويَضعُ الأسمدةَ الكيماوية، فيَتقيَّد بالأوقات، ويَمشي على التعليماتِ الصِّحية في النوع والكمِّياتِ والوقت، حتى لا يَتسبَّب في دخول أمراضٍ مُفسِدةٍ لِصحَّة الناس أو قاتِلَة، أمْ أنَّ همَّه زيادةُ الإنتاجِ، وكثْرَةُ الرِّبح، وسُرعَةُ القَطْفِ والجَنْي؟.
هل العامِلُ مِنَّا في أيِّ قِطاعٍ خَدَمِيٍّ إذا جاء الناسُ إليه أو اتصلوا بِه لِمُراجعةٍ أو مُعاملةٍ راقبَ الله فِيهم، فراقبَه مِن جهة حُسنِ المعاملة وطِيبِ الوجْهِ والإقبالِ عليهم دونَ نظرٍ إلى لونٍ أو جِنسٍ أو منزلةٍ أو مصلحةٍ أو قَرَابة، وراقبَه أيضًا مَن جِهة حُسنِ القيامِ بما أُسْنِدَ إليه مِن عملٍ في الكمِّ، والكيفِ، والوقت، وراقبَه أيضًا مَن جِهة عدمِ الوقوعِ في الحرام، بظلمِ أحدٍ ومُماطلَتِه وتأخيره، أو أخذِ رَشوةٍ، أو تقصيرٍ في عملٍ ومواعيد، أو تلاعبٍ في وقت أو أوراق، أو إخلالٍ بأمانةٍ، أو تضييعٍ لِمُعامَلة، أو إخفاءٍ لِحقيقة، وحقٍّ قد ثبت؟.
أهلَ الإسلامِ والسُّنَّة:
إذا كان المسلم يُعامل إخوانَه المسلمينَ مِن أيِّ بلدٍ أو جِنسٍ أو لونٍ أو عشيرةٍ وِفْقَ الإيمانِ وأُخُوَّتِه فإنَّه لا يُمكِنُ أنْ يَغشَّهم، أو يَخونَهم، أو يَكذِبَ عليهم، أو يَعتديَ عليهم، كما أنَّه لا يُحِبُّ أن يُفعَلَ بِه مِثل ذلك، وإنَّما يُحِبُّ الرَّجل لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه إذا سَلِمَ قلبُه مِن الحسَد والغِلِّ والغِشِّ والحِقد والمَكْر والكُرهِ والبُغض، فإنَّ الحسد يَقتضِي أنْ يَكرَه الحاسِد أنْ يَفوقَه أحدٌ في خيرٍ، أو يُساويه فيه، لأنَّه يُحِبُّ أنْ يَمتازَ على الناس بفضائله، ويَنفردَ بها عنهم، والإيمانُ يَقتضِي خلافَ ذلك، وهو أن يَشْرَكَه المؤمنون كلُّهم فيما أعطاهُ الله مِن الخير، مِن غيرِ أنْ يَنقُصَ عليه مِنه شيء.
فاللهَ اللهَ ــ عِباد الله ــ في إخوانِكم المؤمنين، أحسَنوا إليهم بالقول والفِعل، تَقرُّبًا إلى ربِّكم، وتكثيرًا لأُجورِكم، ورِفعةً لدرجاتِكم، وقابلوهُم بالبِشْر وطَلاقَةِ الوجْه، ووسِّعُوا صُدوركم معهم، وسَعُوهُم بأخلاقِكم، وخُذوهُم بلِينِكم ولُطفِكم، وكونوا رحماءَ بِهم، لا أهلَ مَشقَّةٍ بِهم، وتعسيرٍ عليهم، فإنَّ الله يُحِبُّ الرَّحمة، ويُحِبُّ أهلَها، ويَكرَهُ الغِلظَة والتعسير، ويَرحمُ مِن عِباده الرُّحماء.
اللهم طهِّر قلوبنَا مِن الغِلِّ والحِقد والحسَد، وطهِّر ألسنَتا مِن قبائح الأقوال، وطهِّر جوارحَنا مِن الظُّلم والعُدوان، وطهِّر خصوماتنا مِن الفُجور، اللهم رُّدَ المسلمين إلى التوحيد والسُّنة، وجنِّبهم الشِّركَ والبدعة، وأدخلْهم في الطاعة والجماعة، وأعذهُم مِن الفتن ما ظهر مِنها وما بَطن، اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذاتَ بيننا، وألزِمْنا كلمةَ الحقِّ والعدل في الرِّضا والغضب، وفي ما لَنَا وعلينا، اللهم اجعلنا مِمَّن يَرحم المسلمين فترحَمه، واجعلنا مِمَّن يَرفِق بالمسلمين فترفِق بِه، ولا تجعلنا مِمَّن يَشُق على المسلمين فتَشْقُق عليه، اللهم مَن ظلمْناه أو أسأنا إليه أو أحْزَنَاه فاغفر لَنا وله، وارحمنا وارحمه، وسامحنا وسامحه، وأكثِر أجورنا وأجْرَه، واجعلنا وإيَّاه مِمَّن يَعفو ويَصفح، اللهم ارزقنا عفوَه وتحليلَه ومسامحتَه قبل أنْ تذهبَ آجالُنا، وتَحِلَّ علينا ساعةُ القَصَاص والنَّدم، ولا يُقبل حينها الاعتذارُ ولا التُّعذُر، إنَّك عَفُوٌّ كريم، راحِمٌ غفور، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.