العلم الشرعي وفضله وآثار أهله على الناس وعمل أهله بِه وبركته عليهم
الخطبة الأولى:ــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمه البيان، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، أعلمَ الخلق بالله ودينه وشرعه، وأنصحَهم للناس وأنفعَهم، وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات، ومَن تبعهم إلى يوم الحشر والجزاء.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فإنَّ مِن أعظم العبادات، وأجل الطاعات، وأفضل القربات التي يَجدر بالمسلم أنْ يكون في عداد أهلها، والمكثرين مِنها، وتلازمه ويستمر عليها إلى ساعة انقضاء أجله وختام حياته الدنيا: طلبَ العلم، طلبَ علم الشريعة، العلم المبنيِّ على قال الله، وقال رسوله، وقال الصحابة، والتفقهَ فيه، ودراستَه وتذاكُرَه، وقد صحَّ عن الإمام الزهر ي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( مَا عُبِدَ اللَّهُ بِمِثْلِ الْفِقْهِ ))، وأعظم مِن هذا القول، وأطيبُ لِقلب المؤمن، وأشحذُ لنفسه، وأرفع لهمَّته، قول نبينا صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( مَنْ يُرْدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِهُ فِي الدِّين ))، وصحَّ عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( حَظٌّ مِنْ عِلْمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَظٍّ مِنْ عِبَادَةٍ ))، وصحَّ عن الإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ )).
ولمَّا أدرَك السَّلف الماضون، والملأُ الأولون، والرَّجال الأقدمون هذا الفضل للعلم، وهذه المنزلة، وعِظم الأجْر والثواب فيه، سمِعتَ وقرأتَ عن كثرة العلماء، وتَزايُد وتضاعُف أعداد طلاب العلم في كل بلد، ومِن كل شَعب وقبيلة، ومِن عربٍ وعجَم، وباديةٍ وحاضرة، وذكورٍ وإناث، ومُسِنِّن وكُهولٍ وشباب وصغار.
ولمَّا ضَعُف هذا الإدراك عندنا، ومِن أهل زماننا، وفي عامة بيئاتنا، رأيت الرَّجل يُحصِّل على أعلى الشهادات العلمية في أمور الدنيا، ويَتبوأ رفيع المراتب، ويَسود على الناس، ويُشار إليه بالبنان، ويُتعجَّب ويُعجَب بما وصل إليه، إلا أنَّه في باب العلم بالدين والشريعة مِن أضعف الناس، يَرجع فيه إلى طالب علمٍ شرعيٍّ صغير فيسأله في عقيدته، وفي أحكام عبادته، وفي أحكام معاملاته، مع أنَّ الله تعالى لم يخلقه الله إلا لأجل عبادته، كما قال ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }، ولا تُعرف عبادته سبحانه على الوجه المقبول الذي يَحصل بِه الإجزاء والصِّحة، ويُنال بِه الثواب الكثير إلا عن طريق طلب العلم الشرعي، والتفقه فيه، ودراسته، ومطلوب مِنه ومِن كل أحد مسلم أنْ يتعلم مِن العلم ما يُقيم بِه ما يجب عليه من أمور دينه.
يا طالب القُرب مِن ربِّه وجزيل ثوابه وعظيم تنعيمه ــ سدَّدك الله وقوَّاك ــ:
لئِن كنت تريد الرِّفعة في الدنيا والآخرة، فلا يَصرفنك صارف عن طلب العلم، إذ قال ربُّك سبحانه: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }،{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( وإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ )).
وإنْ رُمْت خشية الله في السِّر والعلانية، ورِقَّة القلب وطمأنينته، فلازم العلم واطلبه، فقد قال الله سبحانه: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }، ولمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس علمًا، وأجلَّهم فقهًا، كان بهذه المثابة التي أخبر بِها نفسه الشريفة، إذ صحَّ عنه أنَّه قال: (( وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي ))، وثبت عن سفيان الثوري ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( إِنَّمَا يُتَعَلَّمُ الْعِلْمُ لِيُتَّقَى اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُتَّقَى اللَّهُ ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ بِهِ )).
وإنْ كنت تريد الجنَّة فطلب العلم مِن أوسع وأسعد أبوابها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ )).
وإنْ كان الناس يَرثون عن أسلافهم الدراهم والدنانير فينبسطون ويتوسَّعون مِن الدنيا، فطالب العلم يَرث أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، ويُسعِد قلبه في الدنيا سعادة لا مثيل لها، ويتوسع بسبب العلم في الجِنان ويَترقَّى، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال عن ميراثه وميراث الأنبياء قبله: (( إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ))، فيا لله ما أعظمه مِن مُورِّث، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجلَّه مِن إرثٍ وهو قال الله قال رسوله قال الصحابة،، وما أسْعَد وارثه، وهو طالب العلم.
أيُّها الناس:
كيف لا يكون العلم الشرعي وأهله بهذا الفضل العظيم، وهذه المنزلة الرفيعة العالية، وفيه: حفظ دين الله وشريعته عن تحريف وتلبيس المُضللِّين، وإبطال زيادة وتجاوز المبتدعين، ومعرفة الحق مِن الباطل، والتوحيد مِن الشِّرك، والسُّنة مِن البدعة، والطاعة مِن المعصية، وأهل السُّنة مِن أهل البدعة.
كيف لا يكون كذلك وفيه: حفظ دين العبد وسلامته مِن الوقوع فيما حرَّم الله تعالى في جميع الأبواب، في باب التوحيد والشِّرك، وباب السُّنة والبدعة، وباب العبادات مع الله، وباب المعاملات مع الخلق.
كيف لا يكون كذلك وفيه: درء الفتن المُضعفةِ للدين والإيمان، والمشوِّشةِ على القلب والذِّهن مِن الوصول إلى الحق، والجَالبةِ للقتل والاقتتال، وإهلاكِ الحرْث والنِّسل، وإحلالِ الخوف والتشريد، وحصولِ الجوع والفقر وضعف الاقتصاد.
فالعلم الشرعي نورٌ يَسير بِه العبد إلى ربَّه في عقيدته وعبادته وأخلاقه ومعاملاته على صراط مستقيم، { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا }.
ونحن والله رجالًا ونساءً عربًا وعَجَمًا، وفي كل أرض وبلاد، محتاجون حاجة شديدة إلى طلب العلم الشرعي ودراسته، محتاجون إليه في معرفة عقيدتنا وتوحيدنا وأصول ديننا وعباداتنا مِن صلاة وصيام وحج وزكاة وغيرها، محتاجون إليه في معرفة ما أُحِلَّ لنا وما حرِّم علينا، محتاجون إليه في معرفة أحكام معاملاتنا وعقودنا ومناكحاتنا، محتاجون إليه في معرفة تعاملنا مع ولاة أمْرنا وحكامنا، وما يحدث في بلادنا وما حولها مِن فتن، محتاجون إليه في معرفة تعاملنا مع أعدائنا في الحرب والسِّلم ووقت القوة والضَّعف، محتاجون إليه في معرفة أهل البدع والأهواء وأحزابهم وتنظيماتهم ورجالاتهم حتى لا نكون مِنهم ولا معهم.
يا طلاب العلم ــ زادكم الله فقهًا في دينه وشرعه ــ:
إنَّنا نعيش في زمان قد قلَّ فيه العلماء الراسخون الأثبات، وكثُر فيه الجهل بأحكام الشريعة، وانتشر حتى عمَّ المُدن والقُرى والبوادي، وزُهِد في أهله ومجالسه ودروسه وكتبه، حتى إنَّك لتَرى الرَّجل قد درس في جامعات ومعاهد تُدرِّس العلم الشرعي، وحضرَ حِلَق العلماء وطلاب العلم الأقوياء سِنين عديدة، ثم تسأله أو تُذاكِره أو يُستفتَى وإذا بِه ضعيف العلم، قليل الفقه، قد نَسِي ما درس، وذهب عنه ما كان قد حفظ، فأصبح أشبَه بالعوام، وهذا يؤكِّد لنا ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ ))، فكيف إذا جمعنا معه ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )).
فالجِدّ الجِدَّ في طلب العلم وتحصيله، والتشمِيرَ التشمِيرَ إلى حفظه ومُذاكرته، أقبِلوا عليه بهمَّةٍ عالية، ورغبةٍ كبيرة، واسألوا ربَّكم الإعانة والقبول، فالناس في حاجة شديدة إليكم، أكثر مِن حاجتهم إلى البارعين مِن الأطباء والمهندسين والمُخترِعين والفنيِّين والحِرفيِّين، بل أشدّ مِن حاجتهم إلى الطعام والشراب، فالطعام والشراب إذا تُركا أو فُقِدا فُقِدت معهما حياة الدنيا الفانية القصيرة، أمَّا العلم إذا تُرِك ولم يُعمل بِه فُقِدت وذَهبت بسببه الحياة الحقيقية، حياة النعيم والسُّرور الأبدي في الدَّار الآخِرة، والناس محتاجون إليكم في إصلاح أغلى شيء حصل لهم، وأثمن شيء دخلوا فيه، إلا وهو الإسلام، ألا وهو دينهم، ألا وهو عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، محتاجون إليكم في ما يُصلح دنياهم، ويَزيد في أمْنِهم وقوتهم وائتلافِهم، إلا وهو عملهم بشرع ربِّهم الصحيح، ولا يَصلون إليه عن طريقكم، ومحتاجون إليكم فيما يُصلح آخِرتهم، ويجعلهم مِن أهل الجنَّة المُنعَّمِين الخالدين فيها أبدًا، ولا يحصل لهم إلا عن طريق تعليمكم لهم دينهم، ودعوتكم لهم إلى الاستمساك بالتوحيد والسُّنة، وتبيينهما لهم، ودفع الشِّرك والبدع عنهم، وعن أهليهم، وعن بلدانهم بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ.
وسبحان ربِّك ربِّ العِزِّة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسَلين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:ــــــــــــــــ
الحمد لله العالم بالبواطن والظواهر، المُطلِع على جليل الأمور ودقيقها، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه، الراجي أنْ يكون أخشانا لله، وأعلمَنا بِما يَتقِي، وعلى آله وأصحابه الرُّكع السجود، ومَن تبعه على الحق والهدى إلى يوم الحشر والتناد.
أمَّا بعد فيا طالب العلم ــ جعلك الله مِن العاملين بالعلم الذي تتعلمه ــ:
إنَّ مِن بركة العلم بالسُّنة، والبصيرة بسبيل السَّلف الصالح وسلوكه، أنْ يُرى أثر ذلك وثمرته على صاحبه، فتراه في عبادته ومعاملته، وتَشهده في علمه وتعلُّمه وتعليمه، وتُبصره في سَمته وهديه، وتلحظه في وقاره وسكينته، وتلمسه في خُلقه وأدبه، ويَبِين لك في مَدخَله ومَخرَجة، ووقت حِلِّه وترحاله، ومع القريب والبعيد، والموافق والمخالف، والعدو البغيض، وقد ثبت عن الإمام سفيان الثوري ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( زَيِّنُوا الْعِلْمَ بِأَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَزَيَّنُوا بِالْعِلْمِ ))، وثبت عن تلميذ الصحابة أبي قِلابة ــ رحمه الله ــ أنَّه قال لأحد تلامذته: (( إِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لَهُ عِبَادَةً، وَلَا يَكُنْ إِنَّمَا هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ )).
ويا لله ما أشنعَ عدمَ العمل بالعلم، وما أعظم خطره على العالم والمتعلم وأشدَّه، وما أقبح أثرَه وعاقبته، فقد أنكره الله ــ عزَّ وجلَّ ــ على فاعليه أشدَّ الإنكار، وأبانَ أنَّه يُسبِّب مَقته الشديد، فقال سبحانه في سورة الصَّف: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }، فينبغي للعالم والمتعلم، ينبغي للآمر بالخير أنْ يكون أوَّلَ الناس مبادرة إليه، وللناهي عن الشَّر أنْ يكون أبعدَ الناس عنه، فقد قال الله تعالى في أوائل سورة البقرة مُنكرًا على حملة العلم والشريعة: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }، وثبت عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ، مَا غَرَّكَ بِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ، مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ يَا ابْنَ آدَمَ، مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ ))، وقال الإمام عبد الرحمن بن مَهديٍّ ــ رحمه الله ــ: سمعت سفيان الثوري يقول: (( مَا بَلَغَنِي عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيْثٌ قَطُّ، إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ، وَلَوْ مَرَّةً )).
أيُّها الناس:
اتقوا الله ربَّكم حقَّ التقوى، فإنَّ تقوى الله خير لِباسٍ لكم وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضا ربِّ العباد، وإنَّ مِن أعظم خصال التقوى، وأجلِّ صفات أهل الإيمان، وأحسن خِلال المسلم، ودلائلِ جميل الدِّيانة، وشواهد صلاح الباطن، وعلامات وفور العقل وصحته: الحرصَ الشديد على التفقه في الدين، فأكثروا مِن تحصيل مسائله، وشمِّروا في طلبه حفظًا وقراءة ومُذاكرة، وخذوه عن أهله الراسخين الأكابر مِن أهل السُّنة السائرين على منهج السَّلف الصالح، تُفلحوا وتفوزوا وتَسعَدوا في دنياكم هذه، وإذا لقيتم ربَّكم ومولاكم يوم يُبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، ويصير الناس إلى جنَّة أو نار.
وإنَّ العبد ليَحضُر للواعظ المُبهِر عددًا كثيرًا، وزمنًا طويلًا، فيسمعَ وعظه وتذكِيره فيتأثَّر بِه ساعة، فإذا عافَس الأزواج والأولاد والأموال ضَعُف ونَسي ما قد سمع، وإنَّه ليَحضُر قليلًا للعالم الرَّاسخ أو طالب العلم القوي السائر على طريقة السَّلف الصالح ومنهجهم، فيأخذَ عنه حكم مسألة أو مسائل عِدةَّ فيظل يعمل بِما عَرف عن طريقه مِن واجبٍ أو سُّنة طيلة حياته، فتأتيه الحسنات الكثيرة، والأجور الكبيرة، فينتفع بذلك في الآخرة أعظم النفع.
وإنَّ العبد ليسمع الواعظ البليغ يَحض على الجهاد، ويُعدِّد الكوارث التي تحلُّ بالأمَّة، فيتفاعل مع قِيله، ويتحمَّس له، ورُبَّما سمع مِن أقوامٍ أنَّ جهادًا حصل في أرض كذا فيذهب إليه، لكنه يأتي إلى العالم الرَّاسخ أو طالب العلم القوي فيُبيِّنَ له أنَّ هذا ليس بجهاد شرعي، يُراد بِه أنْ تكون كلمة الله هي العليا، بل فتنةٌ قامت بين مسلمين، أو تصارعٌ نَشب لأجل الدنيا والوصول إلى الحكم، وأنَّ بعض الأحزاب القائمة عليه ليست على سبيل المؤمنين، بل مِن الخوارج المُكفِّرين للمسلمين بالذُّنوب، ويُبيِّن له أنَّ الجهاد في الشريعة مَنوطٌ بولاة الأمر، ويكون تحت رايتهم، ولا يَعقده دعاة أو شباب أو أحزاب وجماعات مِن عند أنفسهم، فينتفعَ بعلم العالم وطالب العلم الذي أخذَه عنهم أعظم النفع، فيلقى ربَّه ولم تتلطَّخ يده بدم نفسٍ مسلمة أو نفسِ مُعاهَد أو مستأمِن، يَلقى الله وهو لم يتسبَّب في زيادة الاقتتال والقتل والخوف والجوع والتدمير والتتشريد والكوارث في بلاد المسلمين، يَلقى الله ولم يكن مِن أسباب زيادة تسلُّط الأعداء على المسلمين وبلادهم، يَلقى الله وهو لم يَنقض بيعة وليِّ أمره وحاكمه، ولا خرج مع قوم بدون إذنه، ولا إذن أمِّه وأبيه، يَلقى الله ولم يكن مِن معاول تشويه دين الإسلام، وتشويه صورة المسلمين، وإبعادِ الناس عن الدخول فيما أوجبه الله عليهم وهو الدخول في الإسلام.
هذا وأسأل الكريم أنْ يُعيننا على الاستمرار على الإكثار مِن طاعته إلى حين الوفاة، وأنْ يقينا شرَّ أنفسنا وشرَّ أعدائنا وشرَّ الشيطان، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأجدادنا وسائر الأهل والعيال، اللهم احقن دماءِ المسلمين في كل مكان، وأعذهم مِن القتل والاقتتال، وأزل عنهم الخوف والجوعَ والدمار، اللهم اجعل بلدان المسلمين آمنة مِن الشُّرور والفتن والمهالك، اللهم وفِّق ولاة أمورِ المسلمين لكل ما يرضيك، واجعلهم عاملين بشريعتك، معظِّمين لها ومدافعين وناصرين، وأزل بهم الشِّرك والبدع والآثام والظلم والعدوان والبَغْي، اللهم ارزقنا توبة صادقة، وحسنات مُتزايدة، وقلوبًا تخشع، وإقبالًا على الطاعة، وبُعدًا عن المعاصي، وترْكًا لأماكنها وأهلها وقنواتها، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم،