النذر وشيء من أحكامه
الخطبة الأولى:ــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله العليِّ العظيم القادر، هو الأولُ والآخِر والباطن والظاهر، عالمُ الغيب والشهادة المطَّلِعُ على السرائر والضمائر، خلَق فقدَّر، ودبَّر فيسَّر، فكلُ عبدٍ إلى ما قَدَّره عليه وقضاه صائر، أحمده سبحانه على خفيِّ لُطفِه الباهِر، وجزيل بِرِّه المتظاهِر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ولد ولا مُظاهِر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الطاهر، صاحبُ الآيات والمعجزات والبصائر، والمبعوثُ بالرحمة والرُّشد والبشائر، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه عظام المفاخِر، ومَن على سبيله إلى الله في جميع الأزمان سائر.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فاتقوا الله تعالى، واعملوا ليومٍ تنكشف فيه السرائر، وتَظهر فيه مُخبَّآتُ الصدور والضمائر، وتدور فيه على المجرمين الدوائر، وتحُصى فيه الصغائر والكبائر، ويُرفع فيه لواءُ الخِزي لكل ناكثٍ للعهد غادر، وتُنصَب فيه موازين الأعمال، وتُنشر الصحائف، فكلُّ عبدٍ إلى ما قدَّمه لنفسه صائر، فآخذٌ كتابه بيمنه، وآخذ كتابه بشماله، فيا خيبةَ الظالم والفاجر، ويا سعادة مَن استجاب لله ورسوله مِن ذوي الإيمان والبصائر، فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه أنفع الوسائل والذخائر، ولا تكونوا كالذين بدّلوا نعمة الله كفرًا، ولم يلتفتوا إلى ما أمامهم مِن الموارد والمصادر، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }.
أيُّها المسلمون:
أخرج الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” عن أمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ )).
وفي هذا الحديث تقسيم النذر إلى قسمين:
القسم الأوَّل: نذر الطاعة.
ونذر الطاعة هو: إلزامُ العبد نفسَه القيامَ بطاعة لله ــ عزَّ وجلَّ ــ مِن صلاةِ أو صيام أو صدقة أو حج أو عمرة أو تلاوةِ وحفظ شيءٍ من القرآن، أو غير ذلك من العبادات.
وهذا النذر قد يَفعله العبد من دون سبب، كأن يقولَ: لله عليَّ أن أصومَ الاثنين والخميس من كل أسبوع، أو نذرًا عليَّ أن أُصلِّيَ صلاة الضُّحى كل يوم، أو يقول: نذرت أن أتصدق في كل شهر بشيء من راتبي وأُجرَتي.
وقد يَفعل العبد النذر لِسبَب، كأن يُعلِّقَه على حصول شيء، مثل أن يقول: لله عليَّ إن شُفِي ولدي أن أعتمر في كل شهر، أو يقول: نذرًا عليَّ إن وجدت وظيفةً أن أتصدق براتب أوَّلِ خمسة أشهر أو يقول: إن ردَّ الله ابني سالماً فعليَّ ذبح ناقة للفقراء.
وهذا النذر إذا وقع من العبد، فيَجب عليه الوفاء به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (( مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ )).
وقد مدح الله ــ جلَّ وعلا ــ الموفِين بالنذر، وأثنى عليهم في سورة الإنسان، فقال سبحانه: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً }.
إلا أنه يُكره للعبد أن يَعقد هذا النذر، لِما أخرجه البخاري ومسلم ــ رحمهما الله ــ في “صحيحيهما” عن عبد الله بن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنه قال: (( نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئاً، وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ )).
إذِ النذرُ لا يَرُدُّ قضاءً قضاه الله تعالى على العبد، فلو كان الله قد أذِن لك بالشفاء شُفيت بدون نذر، وإذا لم يأذن لك بالشفاء فلن تُشفى ولو نذرت، وإذا كان الله قد كتب لك الحصولَ على وظيفة تتمنَّاها، فستحصل عليها ولو نذرت، وإن لم يأذن أن تحصل عليها فلن تحصل ولو نذرت.
وفي النذر أيضًا إلزامُ العبد نفسَه بما جعله الله في حِلٍّ منه وسَعة، وزيادةُ مشقةٍ على نفسه، وغالب مَن يَنذر يَندم، وبعد نذرِه يسأل العلماء عن طريق الخلاص مما نذر، لِثقل النذر ومشقته عليه، وكثيرٌ من الناس يَنذرون ولا يَفون، فالحذرَ الحذر أن نكون مِنهم، حتى لا يكون لَنا نَصيبٌ مِن قول ربِّنا سبحانه: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }.
وقولِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم الصحيح: (( خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، يَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ )).
القسم الثاني: نذر المعصية.
كمن يَنذر إن حصل له مطلوبه ومُبتغاه أن يذبح شاة للولي الفلاني، أو يَشُدَّ الرَّحْل سفَرًا إلى قبره، أو يطوف عليه، أو يَضرب بآلات المعازف، أو يصوم يوم العيد، أو يؤذي أحدًا من الناس بقول أو فعل، أو يُفسِد بين رجلٍ وامرأته، أو يُعطي أحد أولاده أكثر من الآخر، أو يقطع صِلته بأمه.
وهذا النذر يحرم الوفاء به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ )).
إلَّا أن من وقع منه هذا النذر، وهو نذر المعصية، فيجب عليه أن يُكفِّر عنه كفارة يمين، لِما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( النَّذْرُ نَذْرَانِ: فَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلَّهِ، وَفِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ، وَلَا وَفَاءَ فِيهِ، وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ )).
بارك الله لي ولك فيما سمعتم، وأستغفره لي ولكم، فاللهم اغفر لنا وارحمنا وتجاوز عن سيئاتنا إنك غفور رحيم.
الخطبة الثانية:ــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله ذي القوة المتين، الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله، فإيَّاه نَعبد، وإيَّاه نستعين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيِّدُ المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صلِّ وسلِّم على محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فمن نذر منكم نذرًا لا يُطيقه أو لا يستطيع القيامَ به لِعجزِه، أو نذر نذرًا لم يُسمِّه، كمن يقول: لله عليَّ نذرٌ، ولم يُحدد نوع هذا النذر، هل هو صدقة أو عُمرة أو غير ذلك، فعليه كفارة يمين، لِما ثبت عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنه قال: (( النَّذْرُ عَلَى أَرْبَعَةِ وَجُوهٍ: فَنَذْرٌ فِيمَا لَا يُطِيقُ، فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَنَذْرٌ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَنَذْرٌ لَمْ يُسَمِّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَنَذْرٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِهِ أَنْ يُوَفِّيَهُ )).
وإذا مات العبد وعليه نذرٌ من صيامٍ أو حج أو غيرهما، فقام به ولِيُّه عنه ووفاه أجزأه ذلك، وأحسَن الولِيُّ، لِما أخرجه البخاري ومسلم ــ رحمهما الله ــ في “صحيحيهما” عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ )).
وأخرج البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: (( أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ )).
أيُّها المسلمون:
إن النذر عبادة كسائر العبادات، لا يجوز أن تُصرف لغير الله تعالى، لقول الله ــ تبارك اسمه ــ: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }.
فمَن صرفها لغيره سبحانه فقد كفر بالله وأشرك، كمن ينَذرون لمخلوقين كالأنبياء، أو الأولياء والصالحين، أو الجِن، أو غيرهم.
هذا وأسأل الله الكريم الرحيم أن يَحقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم أعذهم من القتل والاقتتال، والفُرقة والاختلاف، وجنِّبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأزلْ عنهم الخوفَ والجوعَ والدمار، وعلِّق قلوبهم بالإسلام لا بالديمقراطية، وبالتوحيد لا بالشرك، وبالسنة لا بالبدعة، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لكل ما يُرضيك، واجعلهم عاملين بشريعتك، معظِّمينَ لها ومدافعين وناصرين، وأزِل بهمُ الشركَ والبدع والآثام والظلم والعدوان والبَغي، وانشر بهم التوحيد والسنة والرحمة والأُلفة، اللهم ارزقنا توبة صادقة، وحسنات متزايدة، وقلوبًا تخشع، وإقبالًا على الطاعة، وبُعدًا عن المعاصي، وتركًا لأماكنها وقنواتها ومنابرها وأهلها ودعاتها، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلُّا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.