نصيحة الخلق: فضلها، وفقهها، وآدابها، ومحاذيرها
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي له ما في السموات والأرض، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، المُكْرَمُ بالشفاعة العُظمى، اللهم صلِّ وسلِّم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعَهم على التوحيد والسُّنة إلى أنْ تقوم الساعة.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فإنَّ مِن أرفع الطاعات درجةً، وأكثرِ القُرُبَات أجْرًا، وأشدِّ العبادات إصلاحًا للمجتَمعات، نصيحةَ المسلمِ لأخيه المسلم، حتى إنَّ بعضَ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا يُبايعونه على ذلك، فصحَّ عن جَريرٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ))، بل إنَّ عمادَ أمْرِ الدِّين إنَّما يقوم على النَّصيحة، لِما صحَّ عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» ))، والنَّصيحة مِن حقوق المسلمين المُتأكِّدة على بعض، لاسِيَّما إذا طُلِبَت، لِمَا صحَّ عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ )) ثُمَّ ذَكَر مِنها: (( وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ ))، وبِبذلِ النَّصيحةِ تَقَرُّبًا إلى الخالق نَبُلَ مِن نَبُل مِن الناس، وارتفعوا في المكانة، وباتوا يُذكرون بالخير والجميل على مَرِّ العصور، حتى قال الحسنُ البصْرِيُّ ــ رحمه الله ــ في شأن الناصحين: «مازالَ للهِ نُصَحَاءَ يَنصحونَ للهِ عِبادَه، ويَنصحونَ لِعبادِ اللهِ في حقِّ الله، ويَعملون لله فى الأَرض بالنَّصيحة، أُولئكَ خُلفاءُ اللهِ في الأَرْض»، وصحَّ: (( إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ شِئْتُمْ لَأُقْسِمَنَّ لَكُمْ بِاللَّهِ: أَنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالنَّصِيحَةِ» ))، وثبَت عن الفُضيلِ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: «لَمْ يُدْرِكْ عِنْدَنَا مَنْ أَدْرَكَ بِكَثْرَةِ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ، وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ، وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ»، وقيل للإمام ابن المُبارك ــ رحمه الله ــ: «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “النُّصْحُ لِلَّهِ”»، وثبت عن ابنِ عُيينةَ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: «عَلَيْكَ بِالنُّصْحِ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ, فَلَنْ تَلْقَاهُ بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْهُ»، وصحَّ أنَّ بَكرِ المُزَنِيَّ ــ رحمه الله ــ قال في شأن الصِّديق ــ رضي الله عنه ــ: (( إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَفْضُلِ النَّاسَ بِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ صَلاَةً وَصَوْمًا، إِنَّمَا فَضَلَهُمْ بِشَيْءٍ كَانَ فِي قَلْبِهِ ))، وقال ابن عُلَيَّة ــ رحمه الله ــ مُعلِّقًا على قول بَكرٍ هذا: «والذي كانَ في قلبِه الحُبًّ للهِ، والنصيحةَ في خلقه».
أيُّها المسلمون:
إنَّ نصيحةَ المسلمِ لأخيه المسلمِ بالكلام أو الكتابة إذا رَأى مِنه خطأً أو تقصيرًا أو تَعدِّيًا أو ظُلمًا أو ضلالًا أو انحرافًا في عقيدته أو عبادته أو بيعِه أو مِهنتِه أو أخلاقه أو صُحبتِه أو عِشرتِه لأهله أو منهجِه أو فقهِه وعِلمِه، لتَدُلُّ على حُسْنِ السَّريرة، وبُعدِ القلبِ عن أمراض الغِلِّ والحِقد والحسَد، ومحبَّةِ الخير للناس، وقوَّةِ الإيمان، وطِيبِ النَّفس، وجميل التربية، وعظيمِ الشَّفقة، وشديدِ الرحمة، حيث أحبَّ لأخيه مِن الخير ما أحبَّ لنفسه، فأرشده إليه بالنصيحة، ورغَّبَه فيه، وكَرِه له مِن الشَّر ما كَرِه لنفسه، فحذَّرَه مِنه، ورهَّبَه عنه، وأبانَ له وجْه الحق، وقد صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ))، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا أنَّه قال: (( الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ )).
أيُّها الناصحونَ والمنصوحون:
إنَّ الناس لَطِباعٌ مختلفة مع النَّصيحة والناصحين، فمِنهم: مَن إذا نصحتَه هجَركَ وقطَعَ صُحبَتَه لك، ورُبَّما زاد فعابَك، وقلَّلَ مِن قدْرك، بل قد يَبحثُ عن عيوبٍ لك ليُفشيَها، أو يَستعينُ على عَيبِكَ بمَن يُبغضُك، وصاحب هذا الحال مِن أسوأِ القومِ نفسًا، وأخسِّهم طبعًا، وأردَاهم قلبًا، وأكثرِهم غِلَّا وحقدًا وحسَدًا، وأشنعِهم كِبرًا، حيث قابل إحسان الناصح بالإساءة والضَّرر، ومِنهم: مَن إذا نصحتَه ظنَّك تُقلِّل مِن شأنه، وتستنقِصُه، وتَرى نفسكَ أفضلَ مِنه، فصار يتلمَّس أخطاءَك حين يُخالِطُك، بل قد يُفتِّش عنها، لتكونوا سواءً، ثُمَّ يَرميكَ بها إذا سنَحت له فُرصة، وصاحب هذا الحالِ مريضُ نفسٍ، وخيرٌ له أنْ يَهتمَّ لعلاجها، حتى لا يَستفحِل مرضه، ومِنهم: مَن إذا نصحتَه، تغيَّر حاله معَك، فخفَّ تبسُّمه لك، وقلَّ احتفاؤُه بِك، وقَصُرَ اختلاطُه معَك، ورأيت تَمَعُّر وجهه إذا نظر إليك، مع أنَّ الناصح مُحِسنٌ للمنصوح، حتى ولو أخطأ في النصيحة أو أُسلوبِها، فكيف إذا أصاب وترفَّق، وقد قال الله سبحانه مُذكِّرًا أهلَ الفضلِ والنُّبل: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }، ومِنهم: مَن إذا نصحتَه شكَر لك، وأحسَن في استقباله لك، ولم تَرَ انتفاعَه بالنُّصح، وتبدَّلَ حاله، ومِنهم: مَن إذا نصحتَه شكَر لك، وأحبَّ نُصحَك، ورأيت سُرورَه بِك، وانتفاعَه بنُصيحَتِك، وشهدتَ تَبَدُّل حاله إلى الحق والأكمل، بل قد يزيد فيدعو لك بظَهر الغيب، ويُثني عليك بالخير، فيا تُرى يا ــ عباد الله ــ مِن أيِّ الأصناف نحن؟
أيُّها المنصوحون:
إنْ حصلَ ونَصحَ لأحدكم إنسانٌ، وكان نُصْحُه موافقًا للحق، والخطأُ مِنكم كان ظاهرًا، فإيَّاكم أنْ تَزيغوا ويُوغِرَ الشيطانُ وساوسَه في صدوركم، فتُقابلوا ذلك بالرَّد والنُّكران، وسُوءِ الفعلِ والقول مع النَّصيحة والناصح، وتَمَعُّرِ الوجْهِ أو صَفَاقتِه، فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال مُرَهِّبًا: (( «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» ))، و”بَطَرُ الحق”، هو: ردُّه ودَفْعُه وإنكاره، و”غَمْطُ الناس” هو: احتقارهم.
وبعضُ النُّفوسِ قد تَرُدُّ الحقَّ الذي نُصِحت بِه بطريقة أُخْرى، وتَعَذُّرٍ فاسد، ألا وهو عدمُ حُسنِ أُسْلوبِ الناصح، وفظاظةُ كلماتِ نُصحِه، وغِلظتُه وتَعنيفُه، وهذا رَدٌّ للحق، والحقُّ إذا تَبيَّن فلا يجوز ردُّه بسب سُوءِ أُسلوب صاحبه، وشِدَّةِ كلماته، بل يجب قبولُه وتعظيمُه، وأيضًا فإنَّ مصلحةَ المنصوحِ إنَّما هي في قبول الحق الذي نُصِح به، والعاقلُ النَّبيل يأخذ ما فيه نفعه، ويَدَعُ غيرَه، بل ويُودِّبُ نفسَه لتكون عظيمةً، وحتى لا تطيشَ، بأنَّ الناصحَ ولو أساء في أُسلوبه، فإنَّما أرادَ الخيرَ لها وتَزيينَها، لا ذَمَّها وشَيْنَها.
أيُّها الناصحُ لِغيره:
إنَّ مِمَّا يتأكَّد في حقِّك أنْ تكون رفيقًا في النُّصح، مُتجنِّبًا التعنيف والقسوة في كلماتك، ولَفَتَاتِ وجهِك، حتى ينتفعَ الناس بنُصحِك، ويَعظُمَ أجْرُك، ولئلا تَتسبَّبَ في ردِّ ضعيف الإيمان لِما نُصِحَ بِه مِن حق، وجاءَه مِن هُدى، أو تَحَجُّجِ مُبطِلٍ بأُسلوبك، لإضعاف انتشارِ نصيحتِك الحَقَّة، فالرِّفقُ وتجنُّبُ العُنف واللطفُ يُجمِّل النَّصيحة، ويزيد في أجْرها ونفعِها، لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ))، وصَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا أنًّه قال: (( إِنَّ اللهَ يُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ ))، وقد قال الله في وصف نبيِّه صلى الله عليه وسلم: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }.
أيُّها الناصحُ لِغيره:
إذا كانت النصيحة تتعلَّقُ بفردٍ حصلَ مِنه خطأٌ يَتعلقُ بخاصَّة نفسه، فلتُجلِّلها بالنًّصح في السِّر، فيما بينكما، كتابةً أو مشافهة، ولا تُعلنها على رؤوس الأشهاد، لأنَّ نصيحةَ السِّرِ أدْعَى للقبول، وأكثرُ في النفع، وأبعدُ عن التشويش على النَّصيحة والناصح، وبِها يَحصل المقصود، إذ النَّصيحةُ ثقليةٌ على أكثر القلوب، لاسيَّما إذا كان فيها ذِكرُ عيبِ المنصوح، فتكون أكثرَ إيحاشًا لِصدرِه، فكيف إذا زِيد معَها سُوءُ الطريقة، وفضاضةُ اللفظ، وكحالةُ الوجْه، فقد تُغضب المنصوحَ أكثر، ويَستأسِدُ عليه الشيطان، والناصحُ ليس له غرضٌ في إشاعة عُيوب مَن يَنصح له، وإنَّما غرضُه إزالةُ المفسدة التي وقع فيها، وهي تَزول بالسِّر أكثرَ وأسرعَ مِن العلن، وقد قال الحافظُ ابنُ رجبٍ ــ رحمه الله ــ: «وكان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ وعظوهُ سِرًّا، حتى قال بعضُهم: “مَن وعظَ أخاهُ فيما بينَه وبينَه فهي نصيحة، ومَن وعظَه على رؤوس الناس فإنَّما وبَّخَه”»، وصحَّ عن سليمانَ التَّيمِيِّ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: «مَا أَغْضَبْتُ رَجُلًا فَقَبِلَ مِنْكَ».
أيُّها الناصحُ لِغيره:
إنَّ أولى الناس بنُصحِكَ ورِفقِكَ ولُطْفِكَ أقرَبَ الناس إليك، وهُم أهلُ بيتِك، وأقارِبُك، ورِفاقُك، وجُيرانُك، وطلابُك، وعُمَّالُك، وزُملائُك في العمل، فاتقِّ اللهَ فيهم، وتعاهدهُم بالنُّصح، ورحمتِه ورِفقِه وشفقتِه وأدَبِه، واعلم أنَّ النَّصيحة ليس مِن شرطِها أنْ يَقبلَ المنصوحُ منكَ، فيعملَ ويَترُكَ بناء على ما نصَحت، حيث قال الله تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ }، ولا تَذهبْ نفسُكَ حسَرَاتٍ إنْ لم يُستجَب لك، ولا تتقطَّع غضبًا وبُغضًا، لا على نفسك، ولا على المنصوح، ولو أسمعَكَ ما تَكْره، فقد قال الله مُسَلِّيًا لكَ، ومُهدِّدًا لَه: { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }، وثبت أنَّه قِيلَ للإمامِ أحمدَ بنِ حنبل ــ رحمه الله ــ: «إِذَا أَمَرْتُهُ بِالْمَعْرُوفِ فَلَمْ يَنْتَهِ أَدَعُهُ لَا أَقُولُ لَهُ شَيْئًا؟ فَقَالَ: دَعْهُ، إِنْ رَدَدْتَ عَلَيْهِ ذَهَبَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَصِرْتَ تَنْتَصِرُ لِنَفْسِكَ، فَتَخْرُج إِلَى الْإِثْمِ، فَإِذَا أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ وَإِلَّا فَدَعْهُ»، وثبت أنَّه قِيلَ لَه أيضًا: «كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ؟ فَقَالَ: “يَأْمُرُ بِالرِّفْقِ وَالْخُضُوعِ، فَإِنْ أَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَهُ لَا يَغْضَبُ، فَيَكُون يُرِيدُ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ»، وإيَّاك أنْ يَصرفَكَ جفاءُ المنصوحين، وأذَى الجاهلين مِنهم، عن الاستمرار في عبادة الله بالنَّصيحة للخلق، فأجْرُك على الله لا عليهم، وأنت بالنصيحة تَسعَى في دَفع العقوبات عن البلاد والعباد، لأنَّك مِن المُصلِحين، حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ ))، وقال الله سبحانه: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }، واحْذَر أنْ تُظهِرَ السُّوءَ وتُشيعَه في قالَب النُّصح للأُمَّة أو السُّلطان أو مَن حولَك، ولكَ مآرب أُخْرَى، فالله لا يَخفى عليه قصْدُك، وذاكَ مِن سَبيل المنافقين، حيث قال الله في شأنهم: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــ
الحمد لله الذي زيَّن مِن شاء بالأخلاق الكريمة، والشِّيم الرَّضية، وصلى الله وسلم على النَّبيِّ محمدٍ أفضلِ البشريةِ مقامًا في الدنيا والآخِرة، وعلى الصَّحبِ لَه والآلِ والأتباعِ مِن الحاضِرة والبادية.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فإنَّ نصيحةَ حاكمِ الناسِ إذا حصلَ مِنه خطأ أو تقصير أو محرَّم ليست كنصيحة باقي الناس، بل يجب أنْ تكون في السِّر لا العلن، وفيما بينهما، وبالمكاتبات السِّرية معَه، وقد حَكَم بهذه الطريقة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ نَصِيحَةٌ لِذِي سُلْطَانٍ فَلَا يُكَلِّمُهُ بِهَا عَلَانِيَةً، وَلْيَأْخُذْ بِيَدِهِ، وَلْيُخْلِ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا قَبِلَهَا، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ ))، وعلى هذا الطريق في نصيحة السلطان سار الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ، فصحَّ أنَّه قيل لأُسامةَ ــ رضي الله عنه ــ: (( أَلاَ تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فَقَالَ: أَتُرَوْنَ أَنِّى لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَهُ))، وثبت عن ابنِ جُمْهَانٍ أنَّه قال: (( لَقِيتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى ــ رضي الله عنه ــ فَقُلْتُ له: إِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ، وَيَفْعَلُ بِهِمْ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ وَإِلَّا فَدَعْهُ ))، وثبت أنَّه قيل لابن عباسٍ ــ رضي الله عنهما ــ: (( آمُرُ إِمَامِي بِالْمَعْرُوفِ؟ فَقَالَ: َإِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ فَاعِلًا فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَلَا تَغْتَبْ إِمَامَك ))، وإنَّما جعَلَت الشريعةُ نُصحَ الحاكمِ بهذه الطريقة تقليلًا للشرِّ عن الأمَّة، وتكثيرًا للمصالح، وإبعادًا للفتن، وتخفيفًا لمفاسدها، وحِفظًا للبلاد ووحدَتِها وائتلافِها، لأنَّ إعلان ذلك يُهيِّجُ رعيَّته عليه، ويَفتحُ الباب للأحزاب التي تَطلبُ الحُكم لتؤلِّبَ الناس ضِدَّه، فتشتعلَ المظاهرات، ثم تتوسع إلى حمْل السلاح والثورات، وبعدَها يَتدخَّل الأعداء في البلاد، وكلُّ عَدُوٍّ يَدعَم طائفة، فيكثُرَ القتلُ والاقتتال، وتتقسَّم البلاد وتُدمَّر، ويَضعف الاقتصاد، ويتشرَّد الناس في الأرض.
أيُّها المسلمون:
إنَّ الرَّد على ما يُنشَر على الملأ في الكُتب أو الأشرطة أو المقالات أو أجهزة الإعلام أو برامج التواصل أو الإنترنت مِن أخطاءٍ وضلالاتٍس وانحرافاتٍ وقولٍ على الله وشريعته بغير علم مِن قِبَل أهل البدع والأهواء، وأصحاب الجهالات، وأهلِ الأغراضِ والمقاصد السَّيئة، وأشباهِهم، يَنبغي أنْ يكون في العلَن، ولا يُناسبه الإسرار، لأنَّ خطرَ ذلك قد تعدَّاهُم إلى مجتمعاتهم، وعُمومِ الناس، وجَنَوا بِه على العِباد، وعلى شريعة الله، وأصبحَ حفظُ شريعةِ الله وصيانتُها عن ضلالاتهم، وحمايةُ الناس والمجتمعات أهَمَّ مِن أشخاصِهم وذواتِهم، ولئلا يَقتديَ بِهم ضِعافُ الدين، وحُدثَاءُ الأسنان، ومِن قصُّرَت عقولهم، وهذا مِن أعظم النُّصح للأُمَّة، والرَّحمة بهؤلاء، حتى لا يَلقَوا ربَّهم بأوزار مِن تبعَهم، حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ ))، وقال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ: “ومِثلُ أئمةِ البدعِ مِن أهل المقالاتِ المخالِفةِ للكتاب والسُّنة أو العباداتِ المُخالِفة للكتاب والسُّنة، فإنَّ بيانَ حالِهم، وتحذيرَ الأُمَّة مِنهم واجبٌ باتفاق المسلمين، حتى قِيل لأحمدَ بنِ حنبل: الرَّجلُ يصومُ ويُصلِّي ويَعتكفُ أحبُّ إليكَ أو يتكلمُ في أهل البدع؟ فقال: إذا قامَ وصلَّى واعتكَفَ فإنَّما هو لنفسه، وإذا تكلَّم في أهل البدع فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل”.اهـ
هذا وأسأل الله ــ تبارك اسمه ــ أنْ يُوفِّقَنا فنكونَ مِن الناصحين، ومِن العاملينَ بالنصيحة، والمتواصينَ على النُّصح، اللهم اجعلنا مِمَّن أحييتَهم وسَتُميتَهم على التوحيد والسُّنة، اللهم ارفع عن المسلمين ما نَزلَ بِهم مِن ضُرٍّ وبلاء، وقتلٍ واقتتال، ووسِّع عليهم في الأمْن والرِّزق والعافية، وأصلح الولاةَ ونُوابَهم وجُندَهم، وارْحَم موتانا، وأكرِمْهُم برضوانِكَ والجنَّة، إنَّك سميعُ الدعاء، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.