مواضع قول صلوا في بيوتكم من الأذان وأن الحيعلة لا تحذف وتستبدل بالصلاة في الرحال
مواضع قول: “صلوا في بيوتكم” مِن الأذان، وأن الحَيعلة لا تُحذف وتُستبدَل “بصلوا في الرِّحال“
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصْطَفى.
وبعد:
فقد جاء في الأحاديث قول:
«صلوا في بيوتكم» أو «صلوا في رحالكم» أو «ألا صلوا في الرِّحال» في ثلاثة مواضع مِن الأذان:
الموضع الأوَّل:
في آخِر الأذان بعد نهاية آخِر جُملة مِنه.
وذلك لِمَا جاء في حديث ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ عند الإمام مسلم في “صحيحه” (٦٧٩):
(( فَقَالَ فِي آخِرِ نِدَائِهِ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ )).
وفي لفظ عند الإمام البخاري في “صحيحه” (632):
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: «أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أَوِ المَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ )).
وقال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (2/ 113):
«قوله: (( ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ )) صريحٌ في أنَّ القول المذكور كان بعد فراغ الأذان».اهـ
وهذا أشهر المواضع، وقد ذَكره الفقهاء مِن أهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، وغيرهم.
وإلى تفضيل هذا الموضع على غيره ذهب عديد مِن العلماء، مِنهم: الإمام الشافعي ــ رحمه الله ـ، لأنَّ الأذان فيه باقٍ بتمامه، وترتيبه.
الموضع الثاني:
بعد قول: «حيَّ على الفلاح» الثانية.
حيث جاء عند عبد الرزاق في “مصنَّفه” (١٩٢٥)، وابن أبي شَيبة في “مسنده” (٩70)، وأحمد (٢3١٦٧)، والنسائي (653)، واللفظ له، وغيرهم، عن عمرو بن أوس ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( أَنْبَأَنَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُنَادِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ــ يَعْنِي: فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ فِي السَّفَرِ ــ يَقُولُ: «حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» )).
وصحَّحه: الألباني، والوادعي، وغيرهم.
ونصَّ على هذا الموضع الشافعية، والظاهرية، وغيرهم.
الموضع الثالث:
بعد قول: «أشهد أنَّ محمدًا رسول الله».
فإذا قال المؤذن: «أشهد أنَّ محمدًا رسول الله»، قال بعد ذلك: «صلوا في رحالكم»، ثم يقول: “حيَّ على الصلاة”، ويُتِمَّ بقيَّة أذانه.
وذلك لِمَا أخرجه البخاري (668)، ومسلم (٦٩٩)، مِن طُرق، عن عبد الحميد صاحب الزِّيادي، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس ــ رضي الله عنه ــ:
(( أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ “أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ”، فَلاَ تَقُلْ: “حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ”، قُلْ: “صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ” )).
وقد فَهِم قليلٌ مِن مُتأخِّري فقهاء الشافعية والحنابلة أنَّ كلام ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ هذا:
يَدُلُّ على أنَّ الحَيعَلة تُحذَف وتُستبدَل بقول: «صلوا في بيوتكم».
والحَيعَلة مُركَّبة مِن: “حيَّ على الصلاة، وحيَّ على الفلاح”.
وقال الفقيه ابن المُلقِّن الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التوضيح لشرح الجامع الصَّحيح” (6/ 348):
«ظاهر حديث ابن عباس أنَّه يقولهما بدَل الحيعلتين، وبه قال بعض المُتأخِّرين».اهـ
وبوَّب الإمام ابن خُزيمة ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” (3/ 180 ــ رقم:1865)، على حديث ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ هذا، فقال:
«باب أمْر الإمام المؤذن بحذْف: “حيَّ على الصلاة” والأمْر بالصلاة في البيوت بدَله».
وهل التبويبات على الأحاديث تدُلُّ على اختيار المُبَوِّب الفِقهِي؟ أمْ يُراد بها تبيين دَلالة اللفظ المذكور فقط؟.
هذه مسألة مَحَل نظرٍ واختلاف.
إلا أنَّ المشهور عن العلماء، لاسيَّما الأوائل مِنهم ــ رحمهم الله ــ، هو:
عدم حذْف الحَيعَلة، واستبدالها بقول: «صلوا في بيوتكم».
وقد حُمِلَ قول ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ: (( فَلاَ تَقُلْ: “حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ”، قُلْ: “صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ” ))، على:
أنَّ المؤذن لا يقول: “حيَّ على الصلاة”، بعد: “أشهد أنَّ محمدًا رسول الله”، بل يقول بعد الشهادتين: “صلوا في بيوتكم”، ثُمَّ يقول بعد ذلك: “حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح”.
1 ــ حيث قال الحافظ ابن رجب الحنبلي البغدادي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (٥/ ٣٩٣-٣٩٤)، عن هذا الحَذْف والاستبدال:
«وهذا غريب جدًا، إلا أنْ يُحمَل على أنَّه أمَرَه بتقديم هذه الكلمات على الحيعلتين».اهـ
ــــ وقال أيضًا:
«والذي فهِمَه البخاري: أنَّ هذه الكلمة قالها بعد الحيعلتين، أو قبلهما، …
وكذا فهِمَه الشافعي، ..، وكذا قال عامَّة أصحابه.
وأمَّا إبدال الحيعلتين بقوله: “ألا صلوا في الرِّحال”، فإنَّه أغرب وأغرب».اهـ
2 ــ وقال الفقيه السهارنفوري الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بَذْل المجهود في حلِّ سُنن أبي داود” (5/ 53-54)، عن قول “صلوا في بيوتكم” في الأذان:
«قلت: والذي عند هذا العبد الضعيف أنَّ حديث ابن عمر صريح في أنَّ هذا الكلام يُنادى بها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ مِن الأذان عند العُذر، كما تَدُل عليه الرِّوايات.
وأمَّا حديث ابن عباس، فليس بصريح في هذا الباب، وإنَّما فيه أنَّ ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ قال بدَلَّ “حيَّ على الصلاة”: بـ”صلوا في بيوتكم”، ثم قال: (( فعَل ذا مَن هو خير مِنِّي )).
وقوله: (( فعَل ذا مَن هو خير مِنِّي ))، لا يَقتضي أنْ تكون المُماثلة والاتحاد في جميع الأمور، ولعلَّه يُمكن أنْ تكون المُماثَلة في النداء بهذا القول.
وأمَّا إدخاله في أثناء الأذان بدَل الحيعلتين، فلعلَّه يكون ناشئًا مِن رأيه ــ رضي الله عنه ــ، فعلَى هذا لا يُستَدل بذلك على إدخاله في أثناء الأذان.
كيف وقد أجمعوا على أنَّ في الأذان يُنادى بها.
واختلفوا في إدخال هذه الكلمة في الأذان، هل يُدخَل في أثنائه، أو يُنادى بها بعده.
ولم يَقل أحدٌ مِنهم: “أنْ يَترُك الحيعلتين، ويُدخل بها في أثنائه بدَلهما”».اهـ
3 ــ وقال الفقيه ابن حزْم الظاهري ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُحلَّى” (2/ 195 ــ مسألة رقم:333):
«فإنْ كان برْدٌ شديد أو مطرُ رَشٍّ فصاعدًا، فيجب أنْ يزيد المؤذن في أذانه بعد “حىَّ على الفلاح” أو بعد ذلك: “ألا صلوا في الرَّحال”.
وهذا الحُكم واحد في الحضَر والسَّفر، وهو قول أصحابنا».اهـ
4 ــ وقال الفقيه أبو المحاسن الرُّياني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بَحر المذهب في فروع المذهب الشافعي” (1/ 410):
«إذا كانت الليلة باردة أو ذات ريح وظُلمة.
قال الشافعي ــ رحمه الله ــ: يُستحب أنْ يَأمُر المؤذن يقول إذا فرَغ مِن أذانه: “ألا صلوا في رحالكم”، فإنْ قال في أثناء الأذان بعد قوله: “حيَّ على الفلاح”، فلا بأس، فقد أمَر ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ بذلك».اهـ
5 ــ وقال الفقيه أبو الوليد الباجِي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُنتقَى شرح الموطَّأ” (1/ 193):
«ويَحْتَمِلُ أنْ يكون قول المؤذن: (( أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ))، بعد كمال الأذان، وهو الأولى، لأنَّ الأذان مُتَّصِلٌ لا يجوز أنْ يَتَخَلَّلَه ما ليس مِنه، لأنَّه عَلَمٌ على الوقت، ودعاءٌ إلى الصلاة، وإنَّما يكون ذلك باتصاله، ولو تَفرَّق وتَخَلَّلَه كلامٌ آخَر، لَمَا وقع بِه الإعلام، لأنَّ مِثل ألفاظه تَتكَرَّر في كلام الناس في جميع الأوقات، وقد ورَد مُفَسَّرًا في هذا الحديث».اهـ
6 ــ وقال الفقيه نصير الدِّين السَّامري الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُستوعب” (1/ 154):
«ولا بأس أنْ يؤذن في يوم المطر، ويعقبه ذلك بقوله: “ألا صلوا في رحالكم”، فيكون الأذان للإعلام بدخول الوقت».اهـ
قلت:
وقد عللَّ بعض المتأخِّرين ممَن قالوا باستبدال الحَيعلة “بالصلاة في بيوتكم”، نظرًا للمعنى، فقال:
«إنَّ “حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ” دعوةٌ لشهود الجماعة، و “صَلُّوا فِي بيوتكم” أمرٌ بالصلاة في البيوت.
فلا يَحسُن أنْ يَدعو للشهود ثم يَأمُر بعدم الشهود».اهـ
وقد أجاب الحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (2/ 113)، عن هذا الكلام، فقال:
«ويُمكن الجمْع بينهما، ولا يَلزم مَنه ما ذُكر، بأنْ يكون معنى “الصلاة في الرِّحال”: رُخصَةٌ لِمَن أراد أنْ يَترخَّص.
ومعنى “هلُموا إلى الصلاة”: نَدْبٌ لِمَن أراد أنْ يَستكمل الفضيلة، ولو تحمَّل المشقة.
ويُؤيد ذلك حديث جابر عند “مسلم”، قال: (( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفر فمُطِرنا، فقال: لِيُصل مَن شاء مِنكم في رَحْلِه ))».اهـ
وقال أيضًا (2/ 98)، عقب كلامٍ للفقيه النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ:
«وكلامه يدُل على أنَّها تُزاد مُطلقًا، إمَّا في أثنائه، وإمَّا بعده، لا أنَّها بدَل مِن “حيَّ على الصلاة”.
وقد تقدَّم عن ابن خُزيمة ما يُخالفه.
وقد ورَد الجمْع بينهما في حديث آخَر، أخرجه عبد الرزاق، وغيره، بإسناد صحيح، عن نُعيم ابن النَّحام قال: (( أذَّن مؤذن النَّبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة، فتمنَّيت لو قال: ومَن قعَد فلا حرَج، فلما قال: “الصلاة خير مِن النوم”، قالها ))».اهـ
وأيضًا:
فقد اختُلِف على عبد الله بن الحارث ــ رحمه الله ــ في ألفاظ أثَر ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ، مِمَّا جعله مُشكلًا.
1 ــ فأخرجه البخاري (668)، ومسلم (٦٩٩)، مِن طُرق، عن عبد الحميد صاحب الزِّيادي، عن عبد الله بن الحارث، بلفظ:
(( أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ “أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ”، فَلاَ تَقُلْ: “حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ”، قُلْ: “صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ” )).
2 ــ وأخرجه البخاري (616)، أيضًا مِن طريق أيوب، وعبد الحميد صاحب الزِّيادي، وعاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث، بلفظ:
(( فَلَمَّا بَلَغَ المُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ «الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ» )).
3 ــ وأخرجه عبد الرزاق في “مصنَّفه” (1923)، مِن طريق عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن الحارث، بلفظ:
(( أَمَرَ مُنَادِيَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ فَقَالَ: إِذَا بَلَغْتَ “حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ”، فَقُلْ: «أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» )).
وإسناده ثابت.
4 ــ وأخرجه السَّراج في “مسنده” (1463)، مِن طريق أيوب، عن عبد الله بن الحارث، بلفظ:
(( إِذَا بَلَغْتَ الْفَلاحَ فَأمْسك ثمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ )).
5 ــ وقال أبو نُعيم في “مُستخرَجه على صحيح مسلم” (1568):
«حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا أحمد بن محمد بن يعقوب، ثنا عباس الدُّوريّ، ثنا سعيد بن عامر، عن شُعبة، عن عاصم، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن ابن عباس:
(( أَمَرَ مُؤَذِّنَهُ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إِذَا بَلَغَ: “قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ”، قَالَ: “صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ”، قَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي )).
رواه مُسلم، عن عَبْدِ بن حُميد، عن سعيد بن عامر».اهـ
وجاء في كتاب “بَحر المذهب في فروع المذهب الشافعي” (1/ 410):
«قال الشافعي ــ رحمه الله ــ: يُستحب أنْ يَأمر المؤذن يقول إذا فرَغ مِن أذانه: “ألا صلوا في رحالكم”، فإنْ قال في أثناء الأذان بعد قوله: “حيَّ على الفلاح”، فلا بأس، فقد أمَر ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ بذلك».اهـ
ففهِم الإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ مِن حديث ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ عدم حذف الحيعلتين.
وقد تقدَّم أيضًا أنَّه فهْم الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ.
وقال الحافظ ابن عبد البَر المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التمهيد” (13/ 274):
«كما رُوِيَ عن ابن عباس أنَّه أَمَرَ مُؤذِّنه في يوم المطر أنْ يقول بعد قوله “حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ”: “أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ”».اهـ
وأيضًا:
فحديث ابن عمر، وحديث الرَّجل مِن ثَقيف، وحديث نُعيم بن النَّحَّام، وغيرها، وبعض ألفاظ حديث ابن عباس ــ رضي الله عنهم ــ، تَدُلُّ على بقاء:
«حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح» عند المُناداة في الأذان بقول: «ألا صلوا في بيوتكم» أو «صلوا في رحالكم».
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.