وباء كورونا وغيره مِن الأوبئة لا تدخل في أحاديث فضل وباء الطاعون عند أكثر العلماء
الحمد لله كاشف الشِّدات، ودافع البليَّات، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد المُنيب الأوَّاب، وعلى آله وأصحابه المُستغفرين ربَّهم بالأسحار.
وبعد:
فلقد كثُر هذه الأيَّام، أيَّام وباء كورونا، كتابة وإرسال الأحاديث النَّبوية الواردة في فضل الطاعون عبْر المواقع المختلفة في شبكة الإنترنت، وفي أجهزة التواصل الاجتماعي كتويتر، ووتس آب، وفيس بوك، وأنستغرام، وتلغرام، ويوتيوب، وغيرها.
وصاحَبَ ذلك أمران:
الأوَّل: اعتقاد أنَّ وباء كورونا داخل في الطاعون، وما ورَد في فضله مِن أحاديث نبويَّة، وذَكره العلماء حوله مِن أحكام، لا يفترقان في شيء.
والثاني: خروج مقالات ورسائل لِحاقدين مِن بَنِي جلدتنا، وأسيادِهم مِن أهل الكفر، تطعن في شريعة الإسلام، وملائكة الرحمن الذين على أنقاب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنَّهم لم يستطيعوا حمايتها مِن وباء كورونا، وتشوَّش ذِهن البعض بسبب ما كتبوه وأرسلوه.
فأحببت أنْ أنفع نفسي، وإخواني طلبة علم الشريعة، وعموم الناس، بهذه الكتابة، حتى لا نقع في الخطأ أو خلاف الرَّاجح، أو نُشدِّدَ على أنفسنا، وعلى غيرنا في أحكام لَنا فيه سَعة.
والله تعالى مِن وراء القصد.
ثم أقول مستعينًا بالله ــ جلَّ وعزَّ ــ:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ الطاعون وباء خاص، لا تدخل فيه باقي الأوبئة المُعدية.
وإذا لم تَدخل، فالفضل الوارد فيه يَخصُّه وحدَه.
حيث قال الفقيه ابن حَجَر الهَيتمي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “الفتاوى الفقهية الكبرى” (4/ 11):
«وعِبارته: “الوباء غير الطاعونِ، والطّاعون أَخَصُّ مِن الوباء …”.
ومَا أشار إليه مِن الفرْق بين الوباء والطاعون هو ما عليه الأكثرون، خلافًا لبعض المالكية، حيث زعَم أنَّه هو».اهـ
ويَدُلُّ على قول أكثر أهل العلم عِدَّة أمور:
الأمْر الأوَّل:
أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد بيَّن لأُمَّته ما هو الطاعون، فخرَج بهذا التبيين كل وباء ليس على صفته.
حيث أخرج الإمام أحمد (26182 و 25118)، وأبو يَعلَى (4408)، عن أُمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْإِبِلِ، الْمُقِيمُ فِيهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ» )).
وأخرجه ابن الأعرابي في “مُعجمه” (2456)، مِن طريق آخَر، عن عائشة، بلفظ:
(( غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ تَخْرُجُ بَيْنَ الْآبَاطِ وَالْمَرَاقِّ )).
وقد صحَّح الحديث:
ابن خُزيمة، وأبو العباس البوصيري، والسيوطي، والألباني، وغيرهم.
وحسَّن إسناده أو جوَّده:
المُنذري، وأبو الفضل العراقي، وابن حَجَر العسقلاني، وأبو بكر الهيثمي، وابن حَجَر الهيتمي، وغيرهم.
وقال الحافظ ابن عبد البَر المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستذكار” (8/ 315-316):
«وقد جاء تفسير الطاعون في حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إِنَّ فَنَاءَ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، قَالَتْ: أَمَا الطَّعْنُ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، تَخْرُجُ فِي الْمَرَاقِ وَالْآبَاطِ، مَنْ مَاتَ مِنْهُ مَاتَ شَهِيدًا» ))».اهـ
وقال ــ رحمه الله ــ أيضًا (26/ 71)، عن غُدَّة الطاعون:
«وقد تَخرج في الأيدي، والأصابع، وحيث شاء الله مِن البَدن».اهـ
وقال الإمام ابن قيِّم الجوزية ــ رحمه الله ــ في كتابه “زاد المعاد في هَدي خير العباد” (4/ 35-36):
«ولمَّا كان الطاعون يَكثُر في الوباء، وفي البلاد الوبيئة، عُبِّر عنه بالوباء، كما قال الخليل: “الوباء: الطاعون”، وقيل: هو كل مرض يَعُم.
والتحقيق:
أنَّ بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصًا، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، وكذلك الأمراض العامة أعَم مِن الطاعون فإنَّه واحد مِنها:
والطواعين: خُرَّاجات وقُروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المُتقدِّم ذِكرها».اهـ
وقال الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “شرح صحيح مسلم” (ذ4/ 204):
« وأمَّا الطاعون، فهو:
قُروح تَخرج فى الجسد، فتكون فى المرافق، أو الآباط، أو الأيدى، أو الأصابع، وسائر البَدن، ويكون معه ورَم وألم شديد، وتخرج تلك القُروح مع لَهِيب ويَسوَد ما حواليه أو يَخضَر أو يَحمَر حُمرة بنفسجية، كدُرَّة، ويحصل معه خفقان القلب والقَيء.
وأمَّا الوباء، فقال الخليل، وغيره: هو الطاعون، وقال هو كل مرض عام.
والصَّحيح الذى قاله المُحققون…
قالوا: وكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا.
والوباء الذى وقع فى الشام فى زمَن عمر كان طاعونًا، وهو طاعون عمواس، وهي قرية معروفة بالشام».اهـ
الأمْر الثاني:
أنَّ وباء كورونا وغيره مِن الأوبئة قد دخلت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف الطاعون، فإنَّه لا يدخلها، لأنَّها مَحميَّة عنه.
حيث أخرج البخاري (1880 و 7133 و 5731)، ومسلم (1379)، عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّالُ )).
وقال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بَذْل الماعون في فضل الطاعون” (ص:104)، عن المدينة النَّبوية:
«وقد وقع فيها الوباء بالموت الكثير في زمَن عمر ــ رضي الله عنه ــ، ففي “صحيح البخاري” (2643)، مِن طريق أبي الأسود الدُّؤلِي، قال: (( أَتَيْتُ المَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ، وِالنَّاسُ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ … ))، فذَكر حديثًا.
والذَّريع: الكثير السريع.
وأمَّا الطاعون، فلم يُنقل قَطُّ أنَّه وقع بها، مِن الزَّمان النَّبوي إلى زماننا هذا، ولله الحمد».اهـ
وقرَّر أيضًا مثله عدد مِن أهل العلم، مِمَّن جاءوا بعده، وبعد الألف مِن الهجرة النَّبوية.
وقال الفقيه ابن حَجَر الهَيتمي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “الفتاوى الفقهية الكبرى” (4/ 21):
«وبِه يُعلم أنَّ الطاعون أخصُّ مِن الوباء مطلقًا، فكل طاعون وباء، ولا عكس.
وبِه صرَّح القاضي عياض، واستدلَّ له، وجزَم بِه آخرون.
واستدلَّ بعضهم بأنَّه صحَّ أنَّ المدينة لا يدخلها الطاعون، وصحَّ عن عائشة ــ رضى الله تعالى عنها ــ، أنَّها: (( أَوْبَى أَرْضِ اللَّهِ ))، وعن بلال، أنَّها: (( أَرْضُ الْوَبَاءِ )).
فَيَلْزَم أنَّ الطاعون غير الوباء، وإلا تعارض الحديثان، فقول ابن الرَّتِّيِّ أنَّه هو، غير صحيح، وإنَّما تُجوِّز عنه بِه، لكون كلٍّ مِنهما يَنشأ عنه كثرة الموت، ويُفارقه بخصوص سَببه، وهو كونه مِن طعن الجن، والوباء إنَّما هو لفساد الهواء الذي يَنشأ عنه عموم الأمراض».اهـ
وقال الفقيه أبو الحسنات اللكنوي الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التعليق المُمجَّد على موطأ محمد” (3/ 488-489)، عن الطاعون مع الوباء:
«بل هو أخَصُّ مِنه، بدليل أنَّه ورَد في الحديث أنَّ الطاعون لا يدخل المدينة».اهـ
وقال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (10/ 180-181):
« والحاصل أنَّ حقيقته:
ورَمٌ ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيُفسده.
وأنَّ غير ذلك مِن الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يُسمَّى طاعونًا بطريق المجاز، لاشتراكهما في عموم المرَض بِه، أو كثرة الموت.
والدليل على أنَّ الطاعون يُغاير الوباء:
ما سيأتي في رابع أحاديث الباب أنَّ الطاعون لا يدخل المدينة.
وقد سبق في حديث عائشة: (( قدِمنا المدينة وهي أوبَأ أرض الله ))، وفيه قول بلال: (( أخرجُونا إلى أرض الوباء ))، وما سَبق في “الجنائز” مِن حديث أبي الأسود: (( قدِمت المدينة في خلافة عمر وهُم يموتون موتًا ذريعًا ))، وما سَبق في حديث العُرَنيين في “الطهارة”: (( أنَّهم استوخَموا المدينة ))، وفي لفظ أنَّهم قالوا: (( إنَّها أرض وبِئَة ))، فكل ذلك يَدُل على أنَّ الوباء كان موجودًا بالمدينة.
وقد صرَّح الحديث الأوَّل بأنَّ الطاعون لا يدخلها.
فدَلَّ على أنَّ الوباء غير الطاعون، وأنَّ مَن أطلَق على كل وباء طاعونًا فبطريق المجاز».اهـ
وقال ــ رحمه الله ــ أيضًا (10/ 133):
«وقد أطلَق بعضهم على الطاعون أنَّه وباء، لأنَّه مِن أفراده، لكن ليس كل وباء طاعونًا».اهـ
الأمْر الثالث:
أنَّ سبب الطاعون وَخْز الجن، بطعنها في باطنة بَدَن ابن آدم.
حيث جاء مِن طُرق عن أبي موسى الأشعري ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ, فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: «وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ, فَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ» )).
أخرجه أحمد (19528 و 19743)، وأبو يعلى (7226)، والبزَّار (2986- 2989)، والطبراني في “المعجم الكبير” (1607 و 1636 و 1655)، والروياني (514 و 553)، والحاكم (158-159)، وغيرهم.
وصحَّحه:
ابن خُزيمة، والحاكم، والمُنذري، وشرف الدين الدمياطي، والذهبي، والسُّبكي، وابن حَجَر العسقلاني، والسيوطي، والمُناوي، وابن حَجَر الهيتمي، والألباني، ومحمد علي آدم الإثيوبي، وغيرهم.
وقال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بَذْل الماعون في فضل الطاعون” (ص:104-105):
«ويُفارق الطاعون الوباء بخصوص سَببه الذي لم يَرد في شيء مِن الأوباء نظيره، وهو كونه مِن طعن الجن.
وهو عندي لا يُخالف قول الأطباء: “مِن كونه يَنشأ عن مادة سُمِّية أو هيجان الدم أو انصبابه إلى عضو أو غير ذلك”، لأنَّه لا مانع أنَ ذلك يَحدُث عن الطعنة الباطنة، فيحدث مِنها المادة السُّمية، أو يَهيج بسببها الدم، أو ينصب.
فللأطباء إذ لم يتعرَّضوا لكونه مِن طعن الجن معذرة، لأنَّ ذلك أمْرٌ لا يُدرَك بالعقل، ولا بالتجرُبة، وإنَّما تلقيناه مِن خبَر الشارع، فتكلموا على ما نشأ مِن ذلك الطعن بقدر ما اقتضته قواعد علمهم».اهـ
وقال ــ رحمه الله ــ أيضًا في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (10/ 181):
«والذي يَفترِق بِه الطاعون مِن الوباء:
أصل الطاعون الذي لم يتعرَّض له الأطباء، ولا أكثر مَن تكلَّم في تعريف الطاعون، وهو كونه مِن طعن الجن، ولا يُخالف ذلك ما قال الأطباء مِن كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه، لأنَّه يجوز أن يكون ذلك يَحدُث عن الطعنة الباطنة، فتحدُث مِنها المادة السُّمية، ويَهيج الدم بسببها أو ينصب، وإنَّما لم يتعرَّض الأطباء لكونه مِن طعن الجن، لأنَّه أمْرٌ لا يُدرَك بالعقل، وإنَّما يُعرَف مِن الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم».اهـ
وقال ــ رحمه الله ــ أيضًا (10/ 182):
«وقوله: (( وَخْز ))، قال أهل اللغة: “هو الطعن إذا كان غير نافذ”، ووصف طعن الجن بأنَّه وخْز، لأنَّه يقع مِن الباطن إلى الظاهر، فيؤثر بالباطن أوَّلًا، ثم يُؤثر في الظاهر، وقد لا يَنفذ.
وهذا بخلاف طعن الإنس، فإنَّه يقع مِن الظاهر إلى الباطن، فيؤثر في الظاهر أوَّلًا، ثم يُؤثر في الباطن، وقد لا يَنفذ».اهـ
وقال القاضي عياض المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “إكمال المعلم بفوائد مسلم” (7/ 132):
«أصل الطاعون: القُروح الخارجة فى الجسد.
والوباء: عموم الأمراض.
فسميت طاعونًا لِشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا على ما ذكرناه، ويَدُل على ما أشرنا إليه قوله ــ عليه السلام ــ فى حديث أبى موسى: (( الطَّاعُونُ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ )).
ووباء الشام الذى وقع بِه، إنَّما كان طاعونًا وقُروحًا، وهو طاعون عمواس».اهـ
وقال الإمام ابن قيِّم الجوزية ــ رحمه الله ــ في كتابه “زاد المعاد في هَدي خير العباد” (4/ 34):
«هذه القُروح والأورام والجراحات هي آثار الطاعون وليست نفسه، ولكن الأطباء لمَّا لم تُدرك مِنه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون.
والطاعون يُعبَّر بِه عن ثلاثة أمور:
أحدها: هذا الأثر الظاهر، وهو الذي ذَكره الأطباء.
والثاني: الموت الحادث عنه، وهو المُراد بالحديث الصَّحيح في قوله: (( الطاعون شهادة لكل مسلم )).
والثالث: السبب الفاعل لهذا الداء، وقد ورَد في الحديث الصَّحيح: (( أنَّه بقيةُ رِجزٍ أُرسِلَ على بَنِي إسرائيل )) ، وورَد فيه: (( أنَّه وخْزُ الجن ))، وجاء: (( أنَّه دعوةُ نَبِيٍّ )).
وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها، كما ليس عندهم ما يَدُل عليها، والرُّسل تُخبر بالأمور الغائبة.
وهذه الآثار التي أدركوها مِن أمْر الطاعون ليس معهم ما يَنفي أنْ تكون بتوسط الأرواح، فإنَّ تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمْر لا يُنكره إلا مَن هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرُّفًا في أجسام بني آدم عند حُدوث الوباء، وفساد الهواء، كما يجعل لها تصرُّفًا عند بعض المواد الرديئة التي تُحدِث للنفوس هيئة رديئة، ولاسيَّما عند هيجان الدم، والمُرَّة السوداء، وعند هيجان المَنِي، فإنَّ الأرواح الشيطانية تتمكن مِن فعلها بصاحب هذه العوارِض ما لا تتمكن مِن غيره، ما لم يدفعها دافع أقوى مِن هذه الأسباب، مِن الذِّكر والدعاء والابتهال والتضرع والصدقة وقراءة القرآن، فإنَّه يَستنزِل بذلك مِن الأرواح المَلَكِيَّة ما يَقهَر هذه الأرواح الخبيثة، ويُبطل شرَّها، ويدفع تأثيرها».اهـ
الأمْر الرابع:
أنَّ الفِرار مِن أرض الوباء والدخول إليها جائز، والفِرار مِن أرض الطاعون مُحرَّم ما لم يكن لِشُغلٍ وغَرَض.
حيث قال الفقيه ابن حَجَر الهَيتمي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “الفتاوى الفقهية الكبرى” (4/ 11):
«وخَرَج بالفرار مِن محَل الطاعون:
الفِرار مِن أرض الوباء، فإنه جائز بالإجماع، كما قاله الجلال السيوطي.
وعِبارته: “الوباء غير الطاعون، والطاعون أخصُّ مِن الوباء، وقد اختص الطاعون بكونه شهادة ورحمة، وبتحريم الفِرار مِنه، والفِرار مِن الوباء، وغيره، كالحُمَّى، وسائر أسباب الهلاك، جائز بالإجماع».اهـ
وقال ــ رحمه الله ــ أيضًا (4/ 120):
«إذ الأرض الوَبِيَّة يجوز الدخول إليها بالإجماع، كما حكاه غير واحد، بخلاف أرض الطاعون، فإنَّه يَحرُم الدخول إليها عندنا».اهـ
وقال الفقيه شهاب الدين الرَّملي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “فتاويه” (4/ 232-233):
« الفِرار مِن الطاعون والدخول عليه حرام.
فقد قال ابن عبد البَر: “الطاعون موت شامل لا يَحِل لأحد أنْ يَفِرَّ مِن أرضٍ نَزَل فيها، وأنْ يَقدُم عليه إذا كان خارجًا عن الأرض التي نزَل بها”.
وقال التَّاج السُّبكِي، وغيره: “إنَّه مذهبنا، وعليه الأكثر”.
أي: حَملًا للنَّهي عنهما على حقيقته، وهي التحريم، ما لم يَصرِف عنها صارف».اهـ
قلت:
وقد أخرج البخاري (5729)، ومسلم (2219)، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال عن الطاعون: (( إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ )).
وقال القاضي عياض المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “إكمال المَعْلَم بفوائد مسلم” (7/ 132)، عند هذا الحديث، وأشباهه:
«في هذا الحديث مِن العلم:
منْع القدوم على بلاء الطاعون والوباء، وتحريم الخروج عنها فرارًا مِن ذلك.
وقد اختلف السَّلف فى هذا، فمِنهم: مَن أخذ بظاهر الحديث، وهُم الأكثر».اهـ
وقال الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “شرح صحيح مسلم” (14/ 205):
«وفي هذه الأحاديث:
منْع القدوم على بلد الطاعون، ومنْع الخروج مِنه فرارًا مِن ذلك، أمَّا الخروج لعارض فلا بأس بِه.
وهذا الذى ذكرناه هو مذهبنا، ومذهب الجمهور، قال القاضي: “هو قول الأكثرين”».اهـ
وقال الفقيه الزرقاني المالكي ــ رحمه الله ــ في “شرح الموطا” (4/ 379):
«والأكثر أنَّ النَّهي عن الفِرار مِنه للتحريم، وقيل: للتَّنزيه، ويجوز لِشُغل عَرَض غير الفِرار اتِّفاقًا، قاله التّاج السُّبكي».اهـ
وقال ــ رحمه الله ــ أيضًا (4/ 380):
«والجمهور أنَّه للتحريم، حتى قال ابن خُزيمة: “إنَّه مِن الكبائر التي يُعاقِب الله عليها إنْ لم يَعْف».اهـ
وقال الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “شرح صحيح مسلم” (14/ 207):
«واتفقوا على جواز الخروج بِشُغلٍ وغرَضٍ غير الفِرار، ودليله صريح الأحاديث».اهـ
وكتبه: عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.