خطبة لأوَّل جمعة تُفتح فيها المساجد بعد حظر وباء كورونا
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــ
الحمد لله كاشِفِ الشِّدَّات، وفارِجِ الكُربَات، ودافِعِ البليَّات، وهو حسْبُنا ونِعمَ الوكيل، ولا حولَ ولا قوَّة لَنَا إلا بِه، وأُصلِّي وأسلِّمُ على عبده ورسوله محمدٍ الأوَّهِ المُنيب، وعلى آله وصحابته الكِرام.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فإنَّ سلامةَ العِبادِ والبلاد مِن الشُّرورِ والكُروبِ والبأساءِ والضَّرَّاءِ تكون بتقوى الله تعالى، باتِّباع أوامِره، واجتنابِ نواهيه، والقيامِ بفرائضه، والإكثارِ مِن طاعته، والتوبةِ إليه واستغفارِه، والإقلاعِ عن معصيته، والأمرِ بالمعروف، والنَّهيِّ عن المُنكرِ بطُرقه الشَّرعيةِ الصَّحيحة السَّديدة، حيث قال سبحانه: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }، وقال ــ جلَّ وعزَّ ــ: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }، وقال ــ جلَّ وعلا ــ: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }.
أيُّها المسلمون:
إنَّ الجُرأةَ على فِعل المعاصِي، والإقدامَ على ارتكابِ الفواحشِ، والتفريطَ في ما أوجَب الله تعالى، لَتَتسبَّبُ في نُزولِ العقوباتِ الشديدةِ المُتنوعة، والتي مِنها الأمراضُ المُختلفة، والأوبِئةُ المُعدِية، والموتُ المُتكاثِر، حيث قال الله ــ تبارك اسْمُه ــ: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }، وثبَت: (( أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ ــ رضي الله عنه ــ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: مَا أُرَاهُ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ، وَتَلَا: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } ))، وجاء في حديثٍ صحَّحه العلامةُ الألبانيُّ ــ رحمه الله ــ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ))، وقال ابنِ عباسٍ ــ رضي الله عنه ـ: (( وَلَا فَشَتْ الْفَاحِشَة فِي قوم إِلَّا أَخذهم الله بِالْمَوْتِ ))، وصحَّحه العلامةُ الألباني.
وقال تعالى مُحذِّرًا لَنَا مِن الآثام ومُنبِّها: { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ }.
أيُّها المسلمون:
إنَّ الناظرَ إلى حالِ أقوامٍ كثيرةٍ مِن الناس اليومَ مع وباءِ كورونا لَيَرَى ضَعْفَ اللجوء إلى الله في كشفِه عن العِباد، ودفعِه عن البلاد، وهذا حالٌ مذمومٌ شرعًا، بل هو نذيرُ شَرٍّ، فقد يَتسبَّب في زياة هذا الوباء، وسُرعةِ انتشارِه، وتأخُّرِ اكتشاف علاجِه، حيث قال الله مُحرِّضًا لَنَا إلى التَّضرُّعِ إليه عندِ حصولِ البأساءِ والضَّراء، ومُرهِّبًا مِن تَرْكِه: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }، وقال ــ عزَّ شأنه ــ ذامًّا لِمَن زادَ بُعدُهم عن طاعته وزادَت ذُنوبُهم مع حُلولِ البأساءِ بِهم: { فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
أيُّها المسلمون:
لقد اتخذت الدَّولةُ ــ سدَّدها الله وزادها توفيقًا ــ مع الجهاتِ المَعْنيةِ بالشؤونِ الدِّينيَّةِ والمساجدِ عِدَّةَ أنظمةٍ وإجراءاتٍ تتعلقُ بالمساجد والمُصلِّينَ فيها، تُخفِّفُ مِن انتقالِ عَدوى هذا الوباءِ إليهم، وحِمايةً لِصحَّتِهم، وصِحَّةِ أهليهم إذا رجعوا إليهم، ودفعًا لانتشار هذا الوباء عن العِباد والبلاد، وحتى لا يَنحدِرَ اقتصادُ البلادِ بزيادةِ المُصابينَ بِه، فيَتضرَّرَ الناسُ كثيرًا، في أبدانهم، وأهليهم، وأرزاقهم.
فمِن هذهِ الإجراءاتِ: لبس الكِمَامَةِ مِن حين دخولِ المسجدِ إلى الخروج مِنه.
وقد نصَّ الفقهاءُ ــ رحمهم الله ــ مِن المذاهب الأربعة، وغيرها، على: أنَّ تغطيةَ الفَمِ والأنفِ في الصلاة مكروهةٌ، إلا إذا وُجِدَت حاجةٌ، فتزُول الكراهة، وتجوزُ التغطية، مِن غير حرَج.
ومِن الحاجاتِ: البَرْد، أو المرض، أو التأذي برائحةٍ كريهة، أو خشية العَدوى، أو العُطاس، أو حساسية الصَّدر، وأشباه ذلك.
مع العِلمِ بأنَّه لا يَصِحُّ حديثُ النَّهيِّ عن تغطية الفَمِ في الصلاة، وقد ضعَّفه أئمة الحديث، كأحمد بنِ حنبل، وابنِ المُنذرِ، والحازشميِّ، والإشبيليِّ، وابنِ بازٍ، ومُقبلٍ الوادعي، وغيرِهم، وإنَّما ثبَتت الكراهةُ عن بعض الصحابةِ والتابعين، وعلى الكراهةِ أيضًا الأئمةُ الأربعة، وغيرُهم.
ومِن هذهِ الإجراءاتِ أيضًا: المُباعَدة بين المُصلِّين، بِتَرْكِ فُرْجَةٍ ومسافةٍ في الصَّف بين كلِّ مُصَّلٍ والذي بجانِبه.
إذ سَدُّ الفُرَجِ مِن السُّننِ لا الوجبات عندَ عامةِ الفقهاء، وعلى رأسهم المذاهبُ الأربعةُ المشهورة، بل حَكَى بعضُ الفقهاءِ الإجماعَ على ذلك.
والإخلالُ بهذهِ السُّنة مكروهٌ عندهم، والكراهةُ عندَ الفقهاءِ تَزولُ وتَرتفعُ إذا وُجِدَت حاجةٌ، فيُصبِح الحُكمُ هو الجواز، ومِن أعظمِ الحاجاتِ خوفُ انتشارِ عَدوى وباء كورونا إلى المُصلِّين، فيَتضرَّرون مع أهليهم، وعُمومِ أهلِ البلاد، وتَتضرَّرُ البلادُ في اقتصادِها وأمِنِها وأطبائِها ومُستشفياتِها، وتَصِّحُ الصلاة عند الفقهاء لأجلِ ذلك مِن غير كراهة، ولا حرَج.
ومِن هذهِ الإجراءاتِ أيضًا: المُباعَدة بين الصُّفوف، بتَرْكِ مسافةٍ بين كُلِّ صَفٍّ والذي يليه.
والتَّقارُبُ بين الصفوفِ مِن السُّنن لا الواجبات عندَ المذاهبِ الأربعة، وغيرِها، وتَصِّحُ الصلاةُ مع تَباعُدِ الصُّفوفِ وعدمِ الحاجةِ ما دامَ المُصلُّونَ مع إمامِهم جميعًا في نفسِ المسجدِ باتفاق العلماء، ولكن مع الكراهة، كما نقله غير واحد مِن الفقهاء، وأمَّا إذا وُجِدَت حاجةٌ، كخشيةِ انتشارِ وباء كورونا بين المُصلِّينَ، فالصلاة صحيحةٌ مِن باب أولَى، ويَجوز هذا التباعُدُ ولا يُكرَه.
وَ { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــ
الحمدُ لله الذي لا إله إلا هُوَ، وإليهِ المَصير، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وصَلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وسلَّم.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فإنَّ الدَّولة ــ سدَّدها الله ــ بولاتِها ووزرائِها ورجالِ أمنِها، وجميعِ قطاعاتِها، الأمنيةِ والصِّحيةِ والدِّينيةِ والخَدَمِية، وغيرِها، قد بذلوا جُهدًا كبيرًا، ووقتًا واسعًا، وإرشَادًا ونُصحًا مُستمرًّا، وتَعِبوا في سبيلِ ذلك شديدًا، ولا يَزالون على ذلك، في دفعِ شَرِّ وباءِ كورونا عن البلادِ والعِباد، وتخفيفِ آثارِه على الناس، مُواطنينَ ومُقيمين، ومُعالجةِ تَبعاتِه الصِّحية والاقتصادية والأمنية، وفي الحاضر والمُستقبَل، فشَكر الله لَهم صَنيعَهم هذا، وأعظمَ لَهمُ الأجرَ، ورفعَ دَرجاتهم، بل إنَّ شُكرَهم والثناءَ على جميلهم هذا، والإقرارَ بِه، والدُّعاءَ لَهم بسبِبه، حقٌّ ودِينٌ وقُربة إلى الله تعالى، وهو سبحانه الذي أرشدَنا إلى هذا الخُلق الجميل، خُلقِ الكرامِ لا الِّلئام، فقال سبحانه: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }، وأصحابُ هذا الخُلقِ الرَّفيعِ مع مَن أحسَنَ إليهم، وفَعَلَ الجميلَ معَهم، هُم أيضًا أولَى الناسِ بشُكرِ ربِّهم سبحانه، حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ الله ))، بخلافِ الِّلئام، فإنَّهم يَتعاملون مع الإحسانِ إليهم، والجميلِ معَهم، بخسَاسَة الطَّبع، والجُحود، والتَّعميَة على الناس، غِلًّا وحِقدًا وحسدًا، حتى غَفلوا عن أنَّ اللهَ قد جعَلَ نُكرَانَ النساءِ لِمعروفِ وإحسانِ وفضلِ الأزواجِ عليهنَّ مِن أعظمِ أسبابِ كونِهنَّ أكثر أهلِ النَّار، فصحَّ عن رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أنَّه قال: (( أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِالله؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ )).
هذا وأسألُ اللهَ أنْ يَجعلَنا مِن الصابرينَ على أقدارِه وبلائِه، وأنْ يَدفعَ عنَّا وعن المسلمينَ كلَّ شَرٍّ ومكروه، وأنْ يُسدِّدَ الولاةَ ونُوَّابَهم وعُمَّالَهم وجُندَهم إلى حفظِ البلادِ والعِباد مِن الأوبئةِ والأمراضِ والأعداءِ والمُفسِدين، وأنْ يُعظِمَ الأجْرَ للأطباءِ والمُمرِّضينَ، ومَن يقوم على إدارتِهم، وأنْ يَغفرَ لَنا، ولأهلينا، وجميعِ المؤمنين، إنَّه سميعُ الدعاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
كتبها:
عبد القادر الجنيد.