التقوى: فضلها، ومعانيها، وأبوابها، وثمارها، وعاقبة أهلها
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــ
الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبدِه الكتابَ تبيانًا لكلِّ شيء، وشفاءً لكلِّ عِيٍّ، وهُدًى مِن كلِّ غَيٍّ، والصلاةُ والسلامُ على محمدٍ المبعوثٍ مِن أشرفِ قبيلةٍ، وأكرمِ حَيٍّ، وعلى آله وصحبه ما لَجَأَ ظامِئٌ لِرَيّ.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فإنَّ التقوى هيَ وصِيَّةُ الله لِهذهِ الأُمَّةِ، ووصيَّتُه لأهلِ الكتابِ قبلَها، حيث قال سبحانه: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ }، والمُتقونَ محبوبونَ إلى الله تعالى، يُحبُّهم ويُحبُّونَه، وقد بشَّرهم بذلك فقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }، وأهلُ التقوى يسيرونَ في حياتِهمُ الدُّنيا بنفوسٍ مُطمئِنة، وصدورٍ مُنشرِحة، وثباتٍ وقوةٍ ويَقين، لأنَّ الله ــ عزَّ وجلَّ ــ معَهم بحفظِه، ومعَهم بتأييدِه، حيث قال سبحانه مُطمئِنًا لهم ومُبشِّرًا: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }، بالتقوى يأمَنُ الإنسان إذا خافَ الناس، ويُسَرُّ إذا حزِنوا، ويَستبشِرُ إذا قنَطوا ويَئِسوا، ِلقول الله سبحانه: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ }، بل إنَّ جنَّةَ الخُلدِ والسعادةِ الأبدية، وما فيها مِن خيرٍ كريم، ورِزقٍ عظيم، ومُتعةٍ واسعةٍ وسُرور، لم تُعَد إلا للمتقين، وهُم في أعلى مقاعدها، حيث قال الله سبحانه: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }، وقال تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ }، والأخِلَّاءُ المُتحابونَ المُتعاضدونَ في هذه الحياة يُعادِي بعضُهم بعضًا يومَ القيامةِ حتى ولو كانت بينَهم صِلةٌ وقَرابةٌ ونَسبُ إلا المتقين، حيث قال الله سبحانه: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }، والتقوى هي مَحَلُّ المُفاضلةِ بين الخلقِ عندَ الله تعالى، وهي مَيدانُ المُنافسةِ الخيِّرَة، ومدارُ التكريم، حيث قال الله سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }، وصحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال للناسِ في خطبتهِ في الحجِ في وسَطِ أيامِ التشريق: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ )).
والمُتقِّي ربَّه يَرزُقه اللهُ ويُنعِم عليه بالفُرقانِ والنور، وما أدراكَ ما الفُرقانُ والنور؟ إنَّه العلمُ النافعُ المُوافقُ للقرآنِ والسُّنةِ النَّبويةِ وما كان عليه الصحابةُ الأخيار، الذي يُفرِّقُ بِه صاحبُه بين الحلالِ والحرام، ويَعرفُ بِه الحقَّ مِن الصواب، ويَخرُج بِه مِن البدعةِ إلى السُّنة، حيث قال الله سبحانه مبشرًا بذلك أهلَ تقواه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا }، وقال تعالى أيضًا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ }، وبالتقوى يَحصلُ للعبدِ تكفيرُ ذُنوبِه، وتَعظُمُ أُجورُه وتَزداد، حيث قال الله سبحانه: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا }، وبالتقوى يَنجو الإنسانُ مِن الشدائد، وتَندكُّ أمامَهُ العقبات، وتَزولُ الشُّبهات، ويَجعلُ اللهُ له مِن كلِّ هَمٍّ فرَجًا، ومِن كلِّ ضِيقٍ مخرَجًا، ويُيَسًّر له الرِّزقُ الواسعُ المُتيسِّرُ مِن كلِّ طريق، وتَحِلُّ فيه البركة، وإنْ قَلَّ، وتَغنَى نفسُه بِه وتَقنع، حيث قال الله سبحانه: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }، وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }.
والمُرادُ بتقوى اللهِ ــ جلَّ وعزَّ ــ على سبيلِ الإجمالِ: أنْ يجعلَ العبدُ بينَه وبين غضَبِ ربِّهِ وسَخَطِه وعِقابِه وقايَة تَقيهِ مِنه.
وتكونُ هذهِ الوقايةُ بشيئين:
الأوَّل: بفِعلِ الطاعاتِ والقُرُبَاتِ والعبادات، عباداتِ القلبِ، وعباداتِ اللسانِ، وعباداتِ الجوارح.
والثاني: باجتنابِ الذُّنوبِ والسيئاتِ، سيئاتِ القلبِ، وسيئاتِ اللسانِ، وسيئاتِ الجوارح.
وأمَّا على وجْهِ التفصيل والبسْطِ:
فتقوى الله تعالى تكونُ: بلزومِ التوحيدِ والسُّنة، واجتنابِ الشِّركِ والبِدَع.
تقوى اللهِ تعالى تكونُ: بعبادةِ اللهِ ــ جلَّ وعلا ــ على وِفْقِ ما جاء في القرآنِ العزيز، والسُّنةِ النَّبويةِ الصَّحيحة، وما كان عليه السَّلفُ الصالحُ، وعلى رأسهمُ الصحابةُ ــ رضي الله عنهم ـ.
تقوى الله تعالى تكونُ: بِترْكِ الذُّنوبِ صغيرِها وكبيرِها، بِترْكِ ذُنوب القلوبِ مِن غِلٍّ وحِقدٍ وحسَدٍ وكِبْرٍ، ومودَّةٍ لأهلِ الكُفر، وبُغضٍ لأهلِ التوحيدِ والسُّنة، وتَرْكِ ذُنوب اللسانِ مِن كذِبٍ وغِيبةٍ ونميمةٍ وسَبٍّ ولَعنٍ وسُخريَةٍ وازدِراء وفضحٍ لِعيوبِ الناس، وتَرْكِ ذُنوبِ الجوارحِ مِن سماعٍ للمحرمات، ورُؤيةٍ المنكرات، ومُباشرةٍ للقبائحِ والرَّذائل، ومُجاهرةٍ بالفِسقِ والفجورِ.
وفي هذا المعنى يقولُ ابنُ المُعتَمِرِ:
خَلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهُوَ التُّقَى
واصنعْ كَماشٍ فوْقَ أرْضِ الشَّوكِ يَحْذَرُ ما يَرَى
لا تحقِرنَّ صغيرةً … إنَّ الجِبالَ مِن الحِصَى
تقوى اللهِ تعالى تكونُ: بالإكثارِ مِن قراءةِ القرآن، ولُزومِ الدعاءِ، وكثرةِ التوبةِ والاستغفار، والمحافظةِ على الأذكارِ والأورادِ المُتعلِّقةِ بالأوقاتِ والأماكنِ والأحوال، والذِّكرِ المُطلَقِ للهِ تعالى في كلِّ حينٍ وحال.
تقوى اللهِ تعالى تكونُ: بأنْ يَرى اللهُ عبدَه حيثُ أمَرَه، ولا يَراهُ حيثُ نهاهُ وزجرَه وحذَّره.
تقوى اللهِ تعالى تكونُ: بالعلمِ الشَّرعِيِّ، فيتعلَّم العبدُ ما يَتَّقِى بِه ربَّه ثمَّ يَتقِي، فيجمع بين العلمِ والعمل، فإذا تعلَّمَ التوحيدَ حقَّقَه، وإذا عَرَفَ الشِّركَ اجتنَبه، وإذا علِمَ السُّنةَ عمِلَ بها، وإذا عرَفَ البدعةَ ابتعدَ عنها، وعن أهلِها، ومجالِسِها، ودُعاتِها، وفضائياتِها، وإذا تعلَّمَ الأحكامَ الشرعيةَ عبدَ اللهَ بِها على هُدًى، وإذا عرَفَ الطاعاتِ فعلَها وبادرَ إليها ودعا، وإذا عرَفَ السيئاتِ اجتنبَها ولم يُواقِعْها.
تقوى اللهِ تعالى تكونُ: بإبعادِ العبدِ نفسَه في جميع أحوالِه وأوقاتِه عن كلِّ ما يُغضبُ اللهَ عليه، عن كلِّ حرامٍ ومُنكرٍ وقبيح، وفي السِّرِ والعلن، وعندَ الخلوةِ بالنفس وعدَمِها، وفي السَّفرِ والحضَر، ووقتِ الشبابِ و والكِبَر، وببلدِه وغير بلدِه، ومع القريبِ والبعيد، والمعروفِ والغريب، مع دوامِ المُراقبةِ للهِ في كلِّ ما نَفعل ونَذَر، ونَنطق سِرًّا وجهرًا، ونَهِمُّ ونُفكِّرُ ونُخطِّط، فهو سبحانه مطَّلِعٌ على قلوبنا، وعلى أقوالنا، وعلى أفعالنا، لا تَخفَى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء، ولا يَخرجُ عن علمِه شيءٌ في سائر الأزمان، ولا يَغيبُ عنه مثقالُ ذرَّةٍ مِن طاعةٍ أو عٍصيان، وقد قال سبحانه مُرهِّبًّا لَنا: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا }، أي: مُراقِبًا لَنا ولكلِّ شيء، وعالمًا بِنا وبكلِّ شيء، وقائمًا علينا وعلى كلِّ شيء، وقادرًا علينا وعلى كلِّ شيء، فالخلقُ خلقُه، والأمْرُ أمْرُه، وإليه يُرجعُ الأمرُ كلُّه، له ما بين أيدِينا، وما خلفَنا، وما بينَ ذلك، وما كان ربُّك نسِيًّا.
ويَجمع لَنا كلَّ ما تقدَّم وذُكِر قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتِ مُوصِيًا: (( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ )).
وفي نحو هذا يقول القائل:
وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظُلمةٍ … والنفسُ داعيةٌ إلى الطُّغيانِ
فاستحييِ مِن نظرِ الإلهِ وقُل لَها … إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يَراني
مَنَّ اللهُ عليَّ وعليكم بتحقيقِ التقوى، وجعلَني وإياكُم مِن المُتقينَ الذين لا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون، إنَّه سميعٌ مُجيب.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الفتَّاحِ العليم، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ البَرُّ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، فاللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فهذه هيَ التقوى، وهذه هيَ معانيها، وهذه هي طُرقها وسُبُلُها، وهذه هيَ أبوابها، فتزوَّدوا مِنها، فإنَّها خيرُ زادٍ ولباسٍ لكم في دنياكم، وفي قبوركم، وفي آخرتِكم، وقد قال ربُّكم آمرًا لكم: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }، وقال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ }، وقال سبحانه: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ }.
فالتقوى كنزٌ عزيز، إنْ ظفرتَ بِه فكَم ستجدُ فيه مِن جوهرٍ شريف، وخيرٍ كثير، ورِزقٍ كريم، وفوزٍ كبير، وغُنمٍ جسيم، ومُلكٍ عظيم، بل خيراتُ الدنيا والآخِرةِ جُمِعَت فجُعِلت تحتَ هذه الخَصلةِ الواحدة، وقد قال الله ــ تباركَ وتقدَّسَ ــ آمِرًا بتقواه ومُبشِّرًا بخيراتِها على المُتقين: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }.
والله ــ جلَّ وعلا ـ أهلٌ لأنْ يُتَّقَى ويُعبَد، لأنَّه الإلهُ الذي لا تَنبغِي العبادةُ إلا لَه، وأهلٌ أنْ يَغفرَ لِمَن اتَّقاهُ واتَّبعَ رِضَاهُ، حيث قال سبحانه: { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ }.
جعلَني الله وإيَّاكم مِمَّن إذا ذُكِّر ادَّكَر، وإذا وعِظ اعتبر، وإذا أُعطِي شَكر، وإذا ابتُلي صَبر، وإذا أذنَب استغفر، ربِّ اغفر وارحم إنَّك أنت الأعزُّ الأكرم، اللهم أصلح الولاةَ ونُوّاَبَهم وجندَهم وسدِّدهُم إلى مراضيك، إنَّك سميعُ الدعاء، وأقول هذا، وأستغفر الله لِي ولكم.