لا تحلفوا إلا بالله فإن الحلف بغيره محرَّم بل شِرك
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
فإنَّ الحلف بغير الله تعالى مِن الذُّنوب العظيمة، والآثام الخطيرة، والمـُنكرات الغليظة، وقد تعدَّد الأحاديث النَّبوية وتنوَّعت في النَّهي عنه، وبيان تحريمه وشديد قُبحه، وسواء كان هذا الحلف بالكعبة، أو بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، أو بالآباء والأمهات، أو بالأولياء والصالحين، أو بالشَّرف، أو بالأمانة، أو بالذِّمة، أو بالعيش والملح، أو بالنِّعمة، أو بالعِشْرَة، أو بغير ذلك.
ودونكم ــ سدَّدكم الله ــ بعض أوجْه تحريمه وقُبحه:
أوَّلًا: نهي الله ــ جلَّ وعلا ــ عن الحلف بغيره.
حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ )) أخرجه البخاري، ومسلم.
ثانيًا: نهي النِّبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله.
حيث ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ )) أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حِبَّان.
وصحَّحه: ابن حِبَّان، وابن المُلقِّن، والألباني، والوادعي، وربيع بن هادي، ومحمد علي آدم الإتيوبي، وقال ابن العربي: ثبت.اهـ
وصحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أنَّه قال: (( لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي، وَلَا بِآبَائِكُمْ )) أخرجه مسلم.
ثالثًا: حكم النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ الحلف بغير الله شِرك حتى ولو كان الحلف بشيء مُعظَّم كالكعبة المُشرَّفة.
حيث صحَّ عن سعد بن عُبيدة أنَّه قال: (( كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ ــ رضي الله عنه ــ فَحَلَفَ رَجُلٌ بِالْكَعْبَةِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيْحَكَ لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» )) أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم.
وصحَّحه: الترمذي، و وابن حِبَّان، والحاكم، وابن تيمية، وابن قيِّم الجوزية، والذهبي، وابن كثير، وابن الـمُلقِّن، والسيوطي، والـمُناوي، والـمُعلِّمي، وابن باز، والألباني، ومحمد عطية سالم، ومقبل الوادعي، وربيع بن هادي، ومحمد علي آدم الإتيوبي، وغيرهم.
رابعًا: تَبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم ممَّن حلف بغير الله كمَن يحلف بالأمانة.
حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ )) أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن حِبَّان.
وصحَّحه: ابن حِبَّان، والحاكم، والمنذري، والنَّووي، والذهبي، والسيوطي، والـمُناوي، وابن حجر الهيتمي، وابن باز، والألباني، والوادعي، ومحمد علي آدم الإتيوبي، وحسَّنه: البغوي، والسخاوي.
خامسًا: الحلف بغير الله مِن خصال أهل الجاهلية ككفار قريش.
حيث صحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إِلَّا بِاللهِ»، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» )) أخرجه البخاري، ومسلم.
سادسًا: الحَبْر اليهودي يُنكِر الحلف بالكعبة لأنّه شِرك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِرُّه على ذلك، ويأمر الناس بالحلف بربِّ الكعبة.
حيث قالت قُتيلة بنت صَيْفِيّ الجُهَنيَّة ــ رضي الله عنها ــ: ((جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ؟ فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ، فَأَمْهَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «إِذَا حَلَفْتُمْ فَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» )) أخرجه أحمد، وإسحاق بن راهويه واللفظ له، والنسائي، وغيرهم.
وصحَّحه: النسائي، والحاكم، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، والألباني، والوادعي، ومحمد علي آدم الإتيوبي.
سابعًا: تعظيم النَّبي صلى الله عليه وسلم شأن الحلف بغير الله حتى إنَّه أمر مَن وقع فيه أنْ يقول كلمة التوحيد “لا إله إلا الله”، ويَنفُث عن يساره ثلاثًا، ويَستعيذ مِن الشيطان، ولا يَعد للحلف بغير ربِّه.
حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )) أخرجه البخاري، ومسلم.
وصحَّ عن سعد بن أبي وقاص ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( حَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابِي: بِئْسَ مَا قُلْتَ: قُلْتَ هُجْرًا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَانْفُثْ عَنْ يَسَارِكَ، ثَلَاثًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ لَا تَعُدْ » ))، أخرجه أحمد، والنسائي واللفظ له، وابن ماجه، وغيرهم.
وصحَّحه: ابن حِبَّان، وابن باز، والوادعي، ومحمد علي آدم الإتيوبي، وقال ابن حجر العسقلاني: أخرجه النسائي بسند قوي.اهـ
ثامنًا: عقوبة الحاكم لِمَن حلف بغير الله إذا كان عالـمًا عامدًا ذَاكرًا.
حيث جاء بإسناد صحيح أنَّ عبد الله بن الزُّبير ــ رضي الله عنه ــ سابق عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ فسَبقه، ثم قال: “سَبَقْتُه والكعبة”، فقال له عمر: (( أَرَأَيْتَ حَلِفَكَ بِالْكَعْبَةِ، وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ فَكَّرْتَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَحْلِفَ لَعَاقَبْتُكَ، احْلِفْ بِاللَّهِ، فَأْثَمْ أَوِ ابْرَرْ )) أخرجه عبد الرزاق، والفاكِهي في “أخبار مكة”.
تاسعًا: إخبار الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ أنَّ حلفهم بالله كذبًا أهون عندهم وأحبُّ إليهم مِن حلفهم بغيره صدقًا.
حيث صحَّ عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( لأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ وَأنَا صَادِقٌ )) أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شَيبة واللفظ له، والطبراني في “المعجم الكبير”.
وقال الألباني عقبه: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.اهـ
ووجْه ذلك:
أنَّ الحلف بغير الله شِرك، والحلف بالله كذبًا معصية، وإثم المعصية أخف مِن إثم الشِّرك، والشِّرك أعظم مِن الكذب، والحلف بالله توحيد، وبغيره شِرك، وتوحيد معه كذب، خير مِن شِرك معه صدق.
عاشرًا: الحلف بغير الله مَنْهِيٌّ عنه عند العلماء، ولا يَنعقد.
قال الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التمهيد” (14/ 366):
«لا يجوز الحلف بغير الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في شيء مِن الأشياء، ولا على حال مِن الأحوال، وهذا أمر مـُجْتَمَعٌ عليه».اهـ
وقال أيضًا (14/ 367):
«أجمع العلماء على أنَّ اليمين بغير الله مكروهة مَنهِيُّ عنها، لا يجوز الحلف بِها لأحد».اهـ
وقال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (1/ 204):
«اتفق العلماء على أنَّه لا ينعقد اليمين بغير الله».اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد الجنيد.