الاحتفال بيوم ولادة رسول الله بين أهل السُّنة والصوفية
الخطبة الأولى:ــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ لله الذيِ هدانا لاتبّاعِ سيِّد المُرسَلين، ويسَّرَ لنَا اقتفاءَ آثارِ السَّلفِ الصالحين، وطهَّرَ بواطنَنا وظواهرَنا مِن الابتداعِ في الدِّين، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آلِه وأصحابِه وأزواجِه الطاهراتِ أُمَّهاتٍ المؤمنين، صلاةً دائمةً في كلِّ حين.
أمَّا بعد، يا أمَّةَ النَّبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم:
فهذهِ إشاراتٌ عِدَّةٌ تَتعلَّقُ بالاحتفالِ بميلادِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:
الإشارةُ الأولى:
إنَّ أوَّلَ مَن أحدَثَ الاحتفالَ بيومِ ميلادِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هُمُ الدولةُ الشيعيةُ الرافضيةُ العُبيديةُ الخوارج، كما ذكرَ عددٌ كثير جدًا مِن العلماءِ والمؤرِّخين مِن مُختلِفِ البُلدانِ والمذاهبِ والأزمِنة، وأخَذَهُ هؤلاءِ الضُّلالُ مِنَ احتفالِ النصارى الكُّفارِ بعيد ميلادِ المسيحِ عيسى بنِ مريم ــ عليه السلام ــ، فبِئسَ التَّشبُّهُ أنْ يَتشبَّه المسلمُ بهؤلاء، لِقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتِ: (( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ))، ولمَّا كان هذا هو أساسُ المولدِ، ولِكونِ التَّشَبُّهِ بأمثال هؤلاءِ مِن كبائرِ وغِلاظِ المُحرَّماتِ لم يَحتفل أهلُ السُّنةِ بِه، وخالفوا الصُّوفيةَ ولم يُتابعوهُم على الاحتفال، بل ورَدُّوا عليهِم وبيَّنوا للناسِ حُرمَةَ الاحتفال.
الإشارةُ الثانيةُ:
الاحتفالُ بيومِ ميلادِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يَفعلهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابُه ــ رضي الله عنهم ــ، ولا تلامذتُهم مِن التابعين، ولا باقي سَلفِ الأُمَّةِ الصالحِ، ولا أئمَّةُ المذاهبِ الأربعةِ، وتلامذتِهم، باتفاق العلماء، لا خِلافَ بينَهُم في ذلك، حيثُ قال فقيهُ اليمنِ الشَّوكانيُّ ــ رحمه الله ــ: «أجمعَ المسلمونَ أنَّه لم يُوجَد في عصرِ خيرِ القُرون، ولا الذين يَلونَهم، ولا الذين يلونَهم»، وقال الفقيهُ المالِكيُّ الفاكِهانيُّ ــ رحمه الله ــ عن الاحتفال بالمولد: «ولا فَعَلَه الصحابةُ، ولا التابعونَ، ولا العلماءُ المُتديِّنونَ فيما علِمتُ، ولا يُنقلُ عملُه عن أحدٍ مِن علماءِ الأمَّةِ الذينَ هُمُ القُدوةُ في الدِّينِ، المُتمسِّكونَ بآثارِ المُتقدِّمين»، ولِهذا تابعَ أهلُ السُّنةِ هؤلاءِ في تَرْكِ الاحتفالِ بالمولد، وخالفوا الصوفيةَ، ورَدُّوا عليهم احتفالَهُم، ولا ريبَ شرعًا وعقلًا أنَّ مُتابِعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه وباقي سَلفِ الأُمَّةِ الصالحِ في تَرْكِ الاحتفال هو المُصِيبُ، وعلى الحقِّ والهُدى، ومُخالِفَهم على خطأٍ وضلالٍ بيِّن واضِح.
الإشارةُ الثالثةُ:
لا خِلافَ بينَ الفقهاءِ: أنَّ الاحتفالَ بميلادِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بدعةٌ، حيث قال فقيهُ اليمنِ الشوكانيُّ ــ رحمه الله ــ عنه: «ولم يُنْكِر أحدٌ مِنَ المسلمينَ أنَّه بدعةٌ»، وقال أيضًا: «قد قرَّرنا لكَ الإجماعَ على أنَّه بدعةٌ مِن جميع المسلمين»، وقال الفقيهُ محمد رَشيد رِضا المَصريُّ ــ رحمه الله ــ: «هذهِ الموالدُ بدعةٌ بلا نِزاعٍ» يعني: بلا خِلاف العلماء.
وما كانَ بدعةً فهو مُحرَّمٌ بنصِّ حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصِّحيح، واتفاقِ العلماءِ، حيثُ صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ))، وصحَّ عن عمر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( أَلَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ))، وقال الإمامُ أبو نَصْرٍ السِّجزيُّ الحَنفيُّ ــ رحمه الله ــ: «ولا خلافَ في أنَّ الأُمَّةَ ممنوعونَ مِن الإحداثِ في الدِّين»، وقال فقيهُ آلِ بيتِ النُّبوةِ صِدِّيقُ بن حسنٍ القِنَّوجِي ــ رحمه الله ــ: «يَعلمُ كلُّ عُارفٍ: أنَّ أهلَ العلمِ بالسُّنةِ وأصحابَ المعرفةِ بالحديثِ متفقونَ على أنَّ البدعةَ ــ سواء كانت صغيرةً أو كبيرةَ ومِن أين كانت ــ: ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النار، كما دلَّت الأدلة الصَّحيحة مِن السُّنةِ المُطهَّرةِ على ذلك، وبِه قالَ أهلُ الحق».
ولكنَّ الصوفيةَ ــ هداهُمُ اللهُ ــ يقولونَ بأهوائِهم عن المولدِ هوَ: «بدعةٌ حسَنة»، وأمَّا أهلُ السُّنةِ فيقولونَ: «إنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وفي النَّار» وذلك متابعةً مِنهم للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في حُكمِهِم، حيثُ صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ))، وصحَّ عن عمر بنِ الخطابِ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ))، وصحَّ عن ابنهِ عبد اللهِ أنَّه قال: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً ))، ولفظةُ: «كُلٍ» مِن صِيَغِ العُمومِ عندَ علماءِ اللغةِ، وأُصولِ الفقه، وغيرٍهم، فتدُلُّ على أنَّ جميعَ البدعِ في الدِّينِ ضلالاتٌ، والضَّلالاتُ مُحرَّمةٌ بالقرآنِ، والسُّنةِ النَّبويةِ، واتفاقِ العلماء، ولا حَسَنَ فيها أبدًا، ولا ريبَ شَرعًا، وعندَ أهلِ الحقِّ، ومَن كانَ مُنصِفًا صادِقًا، أنَّ كلامَ أهلِ السُّنةِ هو الصوابُ والحقُّ، لأنَّه موافقٌ لِكلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه، وكلامَ الصوفيةِ باطلٌ وضَلالٌ.
الإشارةُ الرابعةُ:
أهلُ السُّنةِ يُعظِّمونَ أمرَ البدعِ وخطورَتَها، لِتعظيمِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه، وباقي السَّلفِ الصالحِ وأئمَّةِ الإسلامِ لَهَا، فكثُرتْ فيها الأحاديثُ النَّبوية، وأقوالُ الصحابةِ والتابعينَ ومَن بعدَهم، وكثُرت كُتبُ العلماءِ في التحذير مِنها، ومِن أهلِها، وأمَّا الصوفيةُ فيَستهزئونَ بأهلِ السُّنةِ الذين عظَّموا البدعَ لِتعظيمِ الشريعةِ أمرَها، ويقولونَ كذِبًا وتنفيرًا للناس: «كل شيءٍ عندكم بدعة»، مع أنَّ قد ثبتَ في نُصوصِ الشريعةِ النَّهَىُّ عن البدعِ، ووصْفُها بأنَّها شرٌّ، وضَلالةٌ، وفي النَّار، ومَردودةٌ على مُحْدِثِها وفاعِلِها، ولا تُقبَلُ مِنهما، وهذا يَجعلُها مِن المُحرَّماتِ شديدةِ التحريم، وغِلاظِ الذُّنوبِ وكِبارِها، بل قال الإمامُ ابنُ تيميةَ ــ رحمه الله ــ: «البِدَعُ أعظمُ مِن المعاصي بالكتابِ، والسُّنةِ، وإجماعِ الأُمَّة»، وسبحانَ اللهِ بُكرةً وأصيلًا، ولَه الحمدُ في الأولى والآخِرةِ، وإليهِ المصير.
الخطبة الثانية:ــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ المُنعِمِ المنَّان، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المُتحدِّثُ بالحكمةِ والبيان، والصلاةُ عليه وعلى آلِه السَّادةِ الأعيان، وأصحابِه المَمدوحينَ في القرآن، والتابعينَ لَهم بإحسان.
أمَّا بعد، يا أمَّةَ النَّبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم:
فأوصيكُم ونفسيَ بتقوى اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ بِلُزومِ السُّنن، واجتنابِ البدع، ومُتابعةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه وباقي السَّلفِ الصالحِ فيما فعَلوا وتَرَكوا تَهتدوا وتُفلِحوا، ويَرضَى عنكم ربُّكُم، حيث قال سبحانه مُرغِّبًا: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، وقال تعالى مُرهِّبًا: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }، ثُمَّ اعلموا أنَّ أئمَّةَ أهلِ العلمِ مِن أهلِ السُّنةِ والحديثِ قد ذَكروا: «أنَّ البدعَ يَجُّروا بعضُها بعضًا، فتبدأُ صغارًا ثم تتوسعُ فتصيرُ كِبارًا وكِثارًا»، ومَن نظرَ بعينِ الصِّدقِ مع العدلِ والإنصافِ وجدَ صوابَ كلامِهم هذا، فإنَّك لو نظرتَ إلى حالِ المُحتفِلين بالمولدِ النَّبوي، وغيرِه مِن الموالد، لوجدتَ أنَّ احتفالاتَهم هذه لا تَخلو عن وجودِ مُحرَّمات أُخْرَى، مِن معاصي، أو بِدعٍ، أو شِركياتِ، أو أحاديث مكذوبةٍ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أو لا أصلَ لًهَا، وهذهِ تزيدُ الاحتفالَ بالمولدِ حُرمَةُ وإثمًا، وتزيدُ ذُنوبَ أهلِه، وتُضاعِف آثامَهُم، وتُكَثِّرُ أوزارَهم، وأهلُ السُّنةِ حينَ يُحذِّرونَ الناسَ مِن الاحتفالِ بالمولِدِ، فهُم يَحجُزُونَهم أيضًا عمَّا يُصاحِبُه مِن مُحرَّماتٍ أُخْرَى، فرحِموهُم مِن إثْمِ المولدِ وما يَحصلُ فيه مِن مُحرَّماتٍ، بخلافِ الصوفيةِ فَهُم يُغرِّرونَ بالمسلمينَ حيثُ يُورِّطونَهم في إثْمِ المولدِ، وإثْمِ ما يُصاحِبُه مِن مُحرَّمات، فَهُم ضَرَرٌ على الناس، وأهلُ السُّنةِ رحمة بِهِم.
هذا وأسألُ اللهَ الكريمَ أنْ يجعلَنا مِمَّن يُحبُّهم ويُحبونَه، ومِمَّن تُغفَرُ لَهم ذنوبَهم باتباعِهم لرسوله، وأنْ يوفِّقنا لمعرفةِ الحقِّ واتِّباعه، ومعرفةِ الباطلِ واجتنابه، اللهمَّ اغفر لنَا ولوالِدينا وجميعِ أهلينا، وبارك لنَا في أعمارِنا وأعمالِنا وأرزاقِنا وأوقاتِنا، اللهم اكشف عن المسلمينَ ما نَزَلَ بِهم مِن ضُرٍّ وبَلاء، وفقرٍ وجُوع، ووسِّع علينا وعليهم في الأمْنِ والرِّزقِ والعافية، ووفِّقِ الولاةَ، وارزُقهم البطانَةَ الصالحةَ الناصحةَ المُصلِحةً للدِّينِ والدُّنيا، إنَّك سميعُ الدُّعاء، وأقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.