تذكير الخَلَف بأنَّ بدأ خطبتي العيد بالتكبير هو المنقول عن السَّلف
الحمد لله ذي الطَّوْل والإنعام، وصَلَّى الله وسَلَّم وبارك على النَّبي الهاشمي المبعوث إلى خير الأُمَم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الكرام، ما تعاقبت الشهور والأعوام.
أمَّا بعد، أيُّها الخطيب الناصح ــ زادك الله فهمًا وفقهًا ومتابعة للسَّلف الصالح ــ:
فإنَّ مِمَّا جَرى عليه عمل السَّلف الصالح الماضين، والأئمة المُتقدِّمين ــ رحمهم الله ــ:
«بدأ خُطبتي عيد الفطر وعيد الأضحى الأولى والثانية بالتكبير».
ودونك ــ سدَّدك الله ــ ما وقفْت عليه مِن الآثار والأقوال الواردة عنهم في تَقرير وتثبيت البَدء بالتكبير:
أوَّلًا: قال الإمام موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الـمُغني” (3/ 277):
وقال سعيد ــ ويَعني بِه: ابن منصور في “سُننه” ــ:
حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، قال:
(( يُكَبِّرُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَخْطُبُ، وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ )).
وإسناد صحيح.
و (عُبيد الله) هذا، قد قال عنه الحافظ ابن عبد البَرِّ النَّمري المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التمهيد” (9/ 7):
«يُكْنَى أبا عبد الله، كان أحد الفقهاء العشرة ثم السَّبعة الذين عليهم كانت الفتوى تدور بالمدينة، وكان عالمًا فاضلًا، مُقدَّمًا في الفقه».اهـ
وقال عنه الحافظ ابن حِبَّان البُسْتي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الثقات” (5/ 63):
«أبو عبد الله مِن سادات التابعين، وكان يُعَد من الفقهاء السَّبعة».اهـ
وأخرجه أيضًا:
الحافظ ابن أبي شَيبة ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (5866- باب التكبير على المِنبر)، فقال:
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد [ بن عبد الله ] بن عبد الرحمن القاريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال:
(( مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، عَلَى الْعِيدَيْنِ، تِسْعًا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَسَبْعًا بَعْدَهَا )).
وقال عبد الرزاق الصنعاني ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (5672):
«عن مَعْمَر، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود أنَّه قال:
(( يُكَبِّرُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ تِسْعًا حِينَ يُرِيدُ الْقِيَامَ وَسَبْعًا فِي )).
عَالَجْتُهُ عَلَى أَنْ يُفَسِّرَ لِي أَحْسَنَ مِنْ هَذَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَظَنَنْتُ أَنَّ قَوْلَهُ: حِينَ يُرِيدُ الْقِيَامَ فِي الْخُطْبَةِ الْآخِرَةِ».اهـ
ورجال إسنادهما أئمة ثقات غير محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن القاريّ.
فقد ذَكره الحافظ ابن حِبَّان ــ رحمه الله ــ في كتابه “الثقات”، ورَوى عنه جمْع مِن الثقات، مِنهم: الزُّهري، وسفيان، ومَعْمَر بن راشد، وابنه عبد الرحمن.
ومِثله يتقوى بما قبله، وما بعدَه.
وقد تابعه على لفظ: (( مِنَ السُّنَّةِ )) أخوه:
إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبد القاريّ.
حيث قال الحافظ البيهقي ــ رحمه الله ــ في “سُننه” (6216):
«أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي، أنبأ أبو بكر أحمد بن محمود خَرَّزَاذ، ثنا موسى بن إسحاق القاضي، ثنا مُحْرِز بن سلَمة، ثنا الدَّرَاوَرْدِي، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ، أن إبراهيم بن عبد الله حدَّثه، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود أنَّه قال:
(( مِنَ السُّنَّةِ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى حِينَ يَجْلِسُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ وَسَبْعًا حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يَدْعُو وَيُكَبِّرُ بَعْدَمَا بَدَأَ لَهُ )).
ورَواه غيره عن إبراهيم عن عُبيد الله:
(( تِسْعًا تَتْرَى إِذَا قَامَ فِي الْأُولَى وَسَبْعًا تَتْرَى إِذَا قَامَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ ))».اهـ
وقال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم ــ رحمه الله ــ في كتابه “الجرح والتعديل” (382):
«إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاريّ، رَوى عن: السائب بن يزيد، رَوى عنه: أخوه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارى، سمعت أبي يقول ذلك».اهـ
وقد احتجَّ بأثره هذا:
إمام أهل السُّنة والحديث أحمد بن حنبل ــ رحمه الله ــ.
حيث قال الفقيه أبو إسحاق ابن مُفلح الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُبدِع في شرح المُقنِع” (2/ 19):
«قال أحمد: قال عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبه: (( إنَّه مِن السُّنَّة ))».اهـ
وقال الفقيه أبو الحسن المَاوردي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الحاوي الكبير” (2/ 493):
«وقوله: (( مِن السٌّنَّة )) يَحتمل أنْ يكون أراد سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سُنَّة الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
وأيُّهما كان، فالاقتداء بِه حسَن».اهـ
ثانيًا: قال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (5867 ــ باب التكبير على المِنبر):
حدثنا أبو داود الطيالسي، عن الحسن بن أبي الحسناء، عن الحسن، قال:
(( يُكَبَّرُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ أَرْبَعُ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً )).
يعني: عند افتتاح الخطبة الأولى، وافتتاح الخطبة الثانية.
وإسناده صحيح.
والحسن البصري مِن التابعين تلامذة الصحابة ــ رحمه الله ــ.
ثالثًا: قال عبد الرزاق الصنعاني ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (3/ 290 ــ رقم:5671 ــ في باب: التكبير في الخطبة):
عن مَعْمَر، عن إسماعيل بن أُميَّة، قال:
(( سَمِعْتُ أَنَّهُ يُكَبَّرُ فِي الْعِيدِ تِسْعًا وَسَبْعًا )).
وإسناده صحيح.
وإسماعيل بن أُميَّة ــ رحمه الله ــ مِن أتباع التابعين.
رابعًا: قال الحافظ الفِريابي ــ رحمه الله ــ في كتابه “أحكام العيدين” (141):
ثنا إسحاق بن موسى، ثنا مَعْن، قال: قال مالك وابن أبي ذِئْب:
(( يَبْدَأُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْعِيدِ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ بِالتَّكْبِيرِ )).
وإسناده صحيح.
وقال الفقيه ابن رُشد القرطبي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “البيان والتحصيل ” (1/ 300):
«قال مالك: (( مِن السُّنَّة أن يُكبِّر الإمام إذا صَعد المنبر في العيدين، ويُكبِّر في الخطبة الثانية ))».اهـ
قلت:
والتكبير في بداية خُطبتي العيد هو:
مذهب الأئمة الأربعة، أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وقول ابن أبي ذئب، وابن المُنذر، وغيرهم.
بل جاء في كتب مذاهب الأئمة الأربعة:
«أنَّه يُسَنّ ويُستحَب».
1 ــ حيث قال الفقيه أبو عبد الله بن مُفلِح الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الفروع” (2/ 141-142):
«ويُسَنُّ أنْ يَستفتح الأولى بتسع تكبيرات (وم) نسقًا (و)… والثانية بسبع (وش)…
قال أحمد: وقال عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة: (( إنَّه مِن السُّنَّة ))».اهـ
2 ــ وقال الفقيه جمال الدِّين يوسف بن عبد الهادي الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “مغني ذوي الأفهام” (7/ 350 – مع شرحه: “غاية المرام”):
«يُكبِّر (و) في الأولى نسقًا، وسَنَّ (خ) تسعًا، وأكبر (وش) في الثانية سبعًا».اهـ
والواو (و) تعني: اتفاق المذاهب الأربعة على حُكم المسألة.
3 ــ وقال الفقيه عبد الرحمن ابن قاسم الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “حاشية الرَّوض المُربِع” (2/ 551):
«وفاقًا».اهـ
يَعني: باتفاق المذاهب الأربعة.
قلت:
ولم يَمُر بِي بعد بحث طويل، ومُذاكرة مع عدد مِن طلاب العلم وأهله، عن أحد مِن السَّلف الصالح، ولا أئمة الفقه المُتقدِّمين أنَّه قال:
لا تُبدأ خُطْبَتَيِّ العيد بالتكبير.
والخروج عن جادَّة أئمَّتنا الماضين، وفقهائنا الأوَّلِين صعب وشديد، والعمل بخلافهم ليس بِرُشد ولا رَشَد.
لأنَّهم عند الجميع أفْهَم للنصوص، وأشدّ في العمل بها وأحرص.
بل إنْ الأحاديث والآثار لا تُفْهم إلا على ضوء فُهومِهم، وإلا كان الخطأ والزّلل.
وخطبة العيد أيضًا ظاهرة، يشهدونها ويسمعون كيف تُبدأ؟ أبالتكبير أمْ بالحمد.
ولا تنافر أيضًا ــ بحمد الله ــ بين التكبير والحمد، إذ هما جميعًا تعظيم لله ــ جلَّ وعزَّ ــ وثناء عليه سبحانه.
فمَن بدأ بالتكبير، فقد حقَّق مقصود الحمد، وأثنَى على ثناء عظيمًا.
والحمد لله أوَّلًا وآخِرًا، وظاهرًا وباطنًا، وعلى كل حال، وفي الأولى والآخِرة.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.