أحكام الدعاء وأوقات إجابته وبدعه
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ علَّامِ الغُيبوب، والصلاةُ والسلام على النبيِّ محمدٍ الأوَّاهِ المُنيب، وعلى آلِه وأصحابِه الأنجاب.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فإنَّ ربَّكم – جلَّ وعزَّ – قد أمرَكم بدعائه، فقال سبحانه:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وقال – جلَّ وعلا -:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، وبشَّرَ سبحانَه الداعينَ، فقال – تباركَ وتقدَّس -:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، وثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي أَنْ يَمُدَّ عَبْدُهُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ خَيْرًا ثُمَّ يَرُدَّهُمَا صِفَرًا))، وصحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ))، فأكثِروا مِن الدعاء، فمَا عند اللهِ أكثَر، حيث ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا»، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِذًا نُكْثِرُ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ»))، ولا تَستعجلوا فتَترُكوا الدعاء، لأنَّكم استبطأتُم الإجابهَ، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((«لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: «قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ»)).
أيُّها الناس:
إنَّ الدعاءَ الذي بَدأَهُ صاحبُه بتمجيدِ الله، والثناءِ عليه، ثمَّ الصلاةُ على رسوله صلى الله عليه وسلم، لَمِن أرْجَى الأدعيةِ استجابةً، وأكثرِها نفعًا وأجْرًا، فلا تَعْجَلوا فيه، فإنَّه قد ثبتَ:((أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ – جَلَّ وَعَزَّ -، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ»))، وقال الفقيهُ النوويُّ الشافعيُّ -رحمه الله-: «أجمَعَ العلماءُ على استحباب ابتداءِ الدعاءِ بالحمدِ لله تعالى، والثناءِ عليه، ثم الصلاةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم».
أيُّها الناس:
إنَّ مِن أفضلِ أوقاتِ الدعاءِ، وأرجاها استجابةً، هذهِ الخمسة:
الأول: الدعاء في ثُلث الليلِ الآخِر، لِمَا صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)).
الثاني: الدعاء في آخِر ساعةٍ مِن يوم الجمعةِ، لِمَا ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، لَا يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا آتَاهُ إِيَّاهُ، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ)).
الثالث: الدعاء في سُّجودِ الصلاة، لِمَا صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ))، وصحَّ أنَّه قال:((وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ)).
الرابع: الدعاء بينَ الأذانِ والإقامة، وحينَ التقاءِ الصَّفينِ في الجهاد، لِمَا ثبتَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ))، وصحَّ أنَّ سَهلًا -رضي الله عنه- قال:((سَاعَتَانِ يُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ: حَضْرَةُ النِّدَاءِ لِلصَّلاَةِ، وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
الخامس: الدعاء للغيرِ بظهرِ الغيب، لِمَا صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ)).
أيُّها الناس:
إنَّ مِن أعظمِ أسبابِ عدمِ استجابةِ الدعاء: أكلَ المالِ الحرام، مِالِ الدولةِ العام، أو مالِ الناسِ الخاص، وبأيِّ طريقٍ وحِيلةٍ وتَبريرٍ كان، أو عبْرَ المِهنِ المُحرَّمةِ، والتجارات المُحرَّمة، والإعانةِ على المُحرَّمات، لِمَا صحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟)).
أيُّها الناس:
اتقوا الله في عباده، ولا تكونوا مِن الظالمينَ لهُم بقولٍ أو فِعل، فقد صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَهَّبَكُم فقال:((اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ))، وصحَّ أنَّ عمرَ -رضي الله عنه- قال:((إِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ))، وإيَّاكم أنْ تَلقوا ربَّكم بمظالِمَ للعباد، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ))، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على رسولِه محمدٍ.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ العظيمِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ الكريم، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه إلى العالَمين.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فقد صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ))، والعِبادةُ حقُّ خالصٌ لله وحدَه، لا تُصرَف إلا لَه، وبذلكَ حَكَمَ، فقال سبحانه:{إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، وقال تعالى:{فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، وإنَّ مِن أكثرِ صُوَرِ الشِّركِ والكُفر المُنتشرةِ بينَ النَّاسِ في الماضي والحاضِر: “صَرْفَ عبادةِ الدُّعاءِ للملائكةِ، أو الأنبياءِ والرُّسلِ، أو الأولياءِ والصَّالحينَ، أو غيرِهم”، حيثُ يُشرِكونَهم مع اللهِ فيها، فيَدعونَهم قائلين: “فَرِّجْ عنَّا يا رسول الله”، “مَدَد يا بَدوي”، “أغِثنا يا جَيْلاني”، “اشفِنا يا حُسين”، “احمِنا يا عَيدرُوس”، “اكشِف ما أصابَنا يا مِيرغَنِي”، “شيئًا للهِ يا رِفاعِي”، وهكذا.
أيُّها الناس:
إنَّ الدعاءَ بعدَ الانتهاءِ مِن صلاة الفريضةِ: مشروعٌ باتفاق العلماء، بحيثُ يَدعو الإنسانُ لِوَحدِه سِرًّا لا جهرًا، بينَه وبينَ نفسِه، بما وردَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه، وما تيسَّر، وقد قال الإمامُ الطبريُّ -رحمه الله-: «كراهيةُ رفعِ الصوتِ بالدعاءِ هوَ قولُ عامَّةِ السَّلفِ مِن الصحابةِ والتابعين».
وأمَّا دعاءُ الإمامِ مع المأمومينَ جهرًا وجماعيًا بعدَ السلامِ مِن صلاةِ الفريضة، فيَدعو ويُؤمِّنونَ خلْفَه: فلا يُعرَفُ في شريعةِ الإسلام، ولا فعلَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابُه، ولا أهلُ القُرون الأولى، ولا أئمةُ المذاهبِ الأربعة، ولا تلامذتُهم، بل هو مِن البدعِ المُحرَّمة.
وقد قال الفقيهُ الشاطِبيُّ المالكيُّ -رحمه الله-: «دعاءُ الإمامِ للجماعةِ في أدبارِ الصلواتِ ليس في السُّنة مَا يَعضُده، بل فيها ما يُنافيه، فإنَّ الذي يجبَ الاقتداءُ به سيِّد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، والذي ثبتَ عنه مِن العمل بعد الصلوات: إمَّا ذِكرٌ مُجرَّدٌ لا دعاءَ فيه، وإمَّا دعاءٌ يَخُصُّ به نفسه، ولم يَثبت أنَّه دعا للجماعة، وما زالَ كذلك مُدَّةَ عُمُرِه، ثم الخلفاءُ الراشدونَ بعدَه، ثم السَّلفُ الصالح».
أيُّها الناس:
أنَّ مِن الأمورِ المُحرَّمةِ في الدعاءِ عندَ أهلِ العلمِ مِن أهلِ السُّنةِ والحديث، وعُمومِ الفقهاء: «دعاءَ اللهِ وسؤالَه بجاهِ أو حقِّ أحدٍ مِن الخلق»، كقولِ بعضِهم حينَ يَدعو اللهَ: “اللهم إني أسألُك بِجاهِ أو بحقِّ نبيِّكَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أو بجاهِ الأنبياءِ، أو بِجاهِ عبادِكَ الصالحين، أو بحقِّ هذهِ الجمعة”، لأنَّ إدخالَ الجاهِ أو الحقِ في الدعاء، لم يأت بهِ نصٌّ مِن القرآن، ولا نصُّ صحيحٌ في السُّنة النَّبوية، ولا عن أحدٍ مِن الصحابة والتابعين، وما كان كذلك فالعلماء يَحكمونَ عليه بأنَّه: بدعةٌ، والبدعةُ مُحرَّمةٌ، بل هي أعظمُ مِن المعصيةِ باتفاقِ العلماء.
هذا وأسألُ اللهَ لِي ولكم المغفرةَ والرحمةَ ودخولَ الجنَّة، ربَّنا هَبْ لنَا مِن أزواجَنا وذُرِّياتِنا قُرَّةَ أعيُن، واجعلنا للمتقينَ إمامًا، ربَّنا لا تُزغ قلوبَنا بعد إذ هديتنا وهَبْ لنَا مِن لدُنكَ رحمةً إنَّك أنت الوهاب، وأقولُ هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.