تروية الفَهَّامة بكلام أئمة العلم والفقه حول الموالاة بين العُمَر في السَّفْرَة الواحدة
الحمد لله ربِّي وخالقي ورازقي، وأُصلِّي وأسلم على النَّبي الهاشمي القُرشي، وعلى آله وأصحابه السائرين على طريقه السَّوي، وعلى كل مؤمن بالله تقيٍّ إلى يوم الجزاء الأبدي.
أمَّا بعد، أيُّها الأخ المِفضال النَّبيل ــ سدَّدك الله وزاد في علومك الطيِّبة ــ:
فهذا مبْحَث لطيف حول مسألة فقهية تَكثر في أيامنا هذه وقبلها، وتتعلَّق بباب الحجِّ العُمرة، ألا وهي:
“الموالاة بين العُمَر في السَّفْرَة الواحدة”.
وقد استللت هذا المبْحَث وأظهرته رغبة في الإفادة والاستفادة مِن شرحٍ لِي على باب الحجِّ مِن كتاب: “بُلوغ المَرَام مِن أدلَّة الأحكام” للحافظ ابن حَجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ.
وأسال الله العليَّ الكريم أنْ ينفع بِه الكاتب، والنَّاشر له بين الناس، والقارئ، إنَّه سميع مجيب.
وسوف يكون الكلام عن هذه المسألة في خمس وقفات، تسهيلاً للحفظ، وتقريبًا للأخذ، وإعانة على الضَّبط.
فأقول مُستعينا بالله القوي القدير ــ جلَّ وعزَّ ــ:
الوقفة الأولى / عن صورة الموالاة بين العُمَر.
قال الإمام ابن تيميَّة ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (26/ 269-270):
الإكثار مِن الاعتمار والموالاة بينها، مثل:
أنْ يَعتمر مَن يكون منزله قريبًا مِن الحَرم كل يوم، أو كل يومين.
أو يَعتمر القريب مِن المواقيت التي بينها وبين مكة يومان: في الشهر خمس عُمَر أو ستَّ عُمَر، ونحو ذلك.
أو يَعتمِر مَن يَرى العُمرة مِن مكة كل يوم عُمرة أو عمرتين.اهـ
أو يَعتمر أهل البلدان الأُخْرَى في سَفْرَةٍ واحدة ثلاث عُمَرٍ أو أكثر، عُمْرة مِن ميقات بلدهم، والأُخْرَيَات مِن خارج حدود الحَرم، كالتنعيم، وعَرفة، وغيرهما.
الوقفة الثانية / عن كلام أهل العلم والفقه حول حكم المولاة بين العُمَر.
وجدت لأهل العلم والفقه ــ رحمهم الله وأكرمهم برضوانه والجنَّة ــ في مسألة المولاة بين العُمَر قولان:
القول الأوَّل: أنَّها تُكره أو لا تُستحب.
حيث قال الإمام موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُغني شرح مختصر الخِرَقِي” (5/ 17):
فأمَّا الإكثار مِن الاعتمار، والموالاة بينهما، فلا يُستحب في ظاهر قول السَّلف الذي حكيناه.
وكذلك قال أحمد: إذا اعتمر فلا بُدَّ أنْ يَحلق أو يُقصِّر وفي عشرة أيَّام يُمكن حلْق الرأس.
فظاهر هذا: أنَّه لا يُستحب أنْ يَعتمر في أقلِّ مِن عشرة أيَّام.
وقال في رواية الأثرم: إنْ شاء اعتمر في كل شهر.
وقال بعض أصحابنا: يُستحب الإكثار مِن الاعتمار.
وأقوال السَّلف وأحوالهم تدُلُّ على ما قلناه، ولأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يُنقل عنهم المولاة بينهما، وإنَّما نُقل عنهم إنكار ذلك، والحق في اتباعهم.اهـ
وقال الإمام ابن تيميَّة ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (26/ 269-270):
المسألة الثانية:
في الإكثار مِن الاعتمار، والموالاة بينها، مثل:
أنْ يعتمر مَن يكون منزله قريبًا مِن الحرَم كل يوم، أو كل يومين أو يَعتمر القريب مِن المواقيت التي بينها وبين مكة يومان: في الشهر خمس عُمَر أو ستَّ عُمَر، ونحو ذلك، أو يَعتمر مَن يَرى العُمرة مِن مكة كل يوم عُمرة أو عمرتين.
فهذا مكروه باتفاق سَلف الأمَّة، لم يَفعله أحد مِن السَّلف، بل اتفقوا على كراهيته، وهو وإنْ كان استحبَّه طائفة مِن الفقهاء مِن أصحاب الشافعي وأحمد، فليس معهم في ذلك حجَّة أصلًا إلا مُجرَّد القياس العام، وهو أنَّ هذا تكثير للعبادات، أو التمسك بالعمومات في فضل العُمرة، ونحو ذلك.اهـ
وقال أيضًا (26/ 290):
وأمَّا المسألة الثالثة:
فنقول: فإذا كان قد تبيَّن بما ذَكرناه مِن السُّنَّة واتِّفاق سَلف الأمَّة أنَّه لا يُستحب، بل يُكره الموالاة بين العُمرة لِمَن يُحرِم مِن الميقات، فمِن المعلوم أنَّ الذي يُوالي بين العُمَر مِن مكة في شهر رمضان أو غيره أولى بالكراهة، فإنَّه يَتفِّق في ذلك محذوران:
أحدهما: كون الاعتمار مِن مكة.
وقد اتفقوا على كراهة اختيار ذلك بدَل الطواف.
والثاني: الموالاة بين العُمَر.
وهذا اتفقوا على عدم استحبابه، بل يَنبغي كراهته مطلقًا ــ فيما أعلم ــ لِمَن لم يَعتَض عنه بالطواف، وهو الأقيس، فكيف بمَن قدِر على أنْ يَعتاض بالطواف.اهـ
وقال العلامة أبو عبد الله بن مُفلح الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الفروع” (3/ 528):
ويُكره الإكثار والموالاة بينهما باتفاق السَّلف.اهـ
وابن مُفلح مِن تلامذة الإمام ابن تيميَّة ــ رحمهما الله ــ.
وقال أبو العباس مُحِبُّ الدِّين الطَّبري الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “عواطف النُّصرة في الطواف والعمرة” (ص:67-77):
والوجه الرابع:
أنَّ السَّلف الصالح مِن الصحابة والتابعين لم يَبلغنا عن أحدٍ مِنهم تكرار الاعتمار في اليوم، أو متابعة الاعتمار
في الأيام المُتَّصِلة، ولو كان لنُقِل إلينا كما نُقل عنهم الإكثار مِن الصلاة والطواف.اهـ
وإلى هذا القول يَميل هؤلاء العلماء:
ابن قيِّم الجوزيَّة، وعبد الله بن محمد بن حُميد، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحمد بن صالح بن عثيمين ــ رحمهم الله ــ.
القول الثاني: أنَّها تجوز ولا تُكره، أو تُستحب.
حيث قال الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستذكار” (11/ 251):
والجمهور على جواز الاستكثار مِنها في اليوم والليلة، لأنَّه عمل بِرٍّ، فلا يَجب الامتناع مِنه إلا بدليل، ولا دليل أمنَع مِنه، بل الدليل يَدُلُّ عليه بقول الله ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ }، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا )).اهـ
قلت:
وهذا النَّقل قد يُضْعِف مِن الاتفاق المَنقول عن السَّلف الصالح ــ رحمهم الله ــ في الكراهة.
لأنَّ الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي الأندلسي ــ رحمه الله ــ أقرَب بكثير إلى القرون الأولى وعلمائها مِمَّن نقلوا الكراهة عن أهلها، وهو عُمدة في معرفة اختلاف العلماء، ومَرجع كبير في ذلك لِمَن بعده، وإلى اليوم.
وقال الإمام الشافعي القرشي ــ رحمه الله ــ أيضًا في كتابه “الأم” (2/ 147):
وإذا جازت في شهر مرتين بأمْر النَّبي صلى الله عليه وسلم زايلَت معنى الحجِّ الذي لا يكون في السَّنَة إلا مرَّة واحدة، وصلَحت في كل شهر، وحين أراده صاحبه.اهـ
والإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ مِن كبار الأئمة الأوائل، والفقهاء الذين عليهم المُعتمد، وقد كانت ولادته سَنَة مئة وخمسين مِن الهجرة النَّبوية، وهو يَرى جواز التكرار متى أراد الإنسان.
وقد قال فقيه الشافعية أبو زكريا النَّووي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المجموع شرح المهذَّب” (7/ 123):
لا يُكره عُمرتان وثلاث وأكثر في السَّنَة الواحدة، ولا في اليوم الواحد، بل يُستحب الإكثار مِنها بلا خلاف عندنا.اهـ
وقال الإمام موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُغني شرح مختصر الخِرقي” (5/ 17):
وقال بعض أصحابنا: يُستحب الإكثار مِن الاعتمار.اهـ
وقال الإمام ابن تيميَّة ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (26/ 270):
استحبَّه طائفة مِن الفقهاء مِن أصحاب الشافعي وأحمد.اهـ
ومِمَّا احتَجَّ به أهل هذا القول:
ما أخرجه الإمام النسائي ــ رحمه الله ــ في “سُننه” (2630)، عن عبد الله بن عباس ــ رضي الله عنهما ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا: يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ، وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ )).
وسنده حسن.
وقد صحَّحه:
محمد ناصر الدين لألباني، وعبد المحسن بن حمد العبَّاد، ومحمد علي آدم الإثيوبي.
وحسَّنه:
مقبل بن هادي الوادعي.
وأخرجه الطبراني ــ رحمه الله ــ في “المعجم الكبير” (11196 و 11428)، من طريق آخَر عن عبد الله بن عباس ــ رضي الله عنهما ــ.
وبنحوه عند الأئمة أحمد (1/ 387)، والترمذي (809)، والنسائي (2632)، ــ رحمهم الله ــ، مِن حديث عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ.
وقال الإمام الترمذي ــ رحمه الله ــ عقبه:
حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح غريب مِن حديث عبد الله بن مسعود.اهـ
وصحَّحه:
ابن خُزيمة، ابن حِبَّان والبوصيري، وأحمد شاكر، ومحمد علي آدم الإثيوبي.
وحسَّنه:
محمد ناصر الدين الألباني، ومقبل بن هادي الوادعي، وعبد المحسن بن حمد العبَّاد.
وله شواهد أُخْرى بأسانيد فيها ضَعف.
وقد قال الإمام الترمذي ــ رحمه الله ــ في “سُننه” عقب حديث عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ:
وفي الباب عن عُمر، وعامر بن ربيعة، وأبي هريرة، وعبد الله بن حُبْشِيٍّ، وأمِّ سلمة، وجابر.اهـ
ووجه الاستدلال مِن هذا الحديث:
أنَّ فيه الحثّ على الاستكثار مِن العُمَر بالمتابعة بينها مِن دون تقييد بين عُمَرة وأُخْرَى بزمَن أو سَفرة.
الوقفة الثالثة / عن بعض الآثار الواردة عن السَّلف الصالح والتي قد تُؤيد عدم الكراهة.
ودونكم ــ سلَّمكم الله ــ هذه الآثار:
أوَّلًا ــ قال الإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ كما في “المسند” (778):
أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي حسين، عن بعض ولد أنس بن مالك قال:
(( كُنَّا مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِمَكَّةَ فَكَانَ إِذَا حَمَّمَ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ )).
وأخرجه الحافظ الفاكهي ــ رحمه الله ــ في “أخبار مكة” (2893) فقال:
أخبرنا ابن أبي عمر قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي حسين، عن بعض ولد أنس بن مالك:
(( إِنَّ أَنَسًا ــ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ــ كَانَ يَكُونُ بِمَكَّةَ، فَإِذَا حَمَّمَ رَأْسُهُ خَرَجَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ فَاعْتَمَرَ )).
وليس في إسناده إلا عدم تسمية ولَد أنس، وهو تابعي، ويَحكي أمرًا جَرى له مع أبيه ــ رضي الله عنه ــ.
وقال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مصنَّفه” (12727):
ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي حسين، عن بعض ولد أنس بن مالك، قال:
(( كَانَ النَّضْرُ بْنُ مَالِكٍ يُقِيمُ هَاهُنَا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا حَمَلَ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ )).
وقال الإمام ابن قتيبة الدينوري ــ رحمه الله ــ في كتابه “غريب الحديث” (2/ 379):
قوله: (( حَمَّم رأسه )) أي: نَبَت بعد الحلْق، وذلك حين يَسْوَدّ، يقال: قد حَمَّم الفَرْخ إذا اسْوَدَّ جلده مِن الريش، وكذلك تَحميم الرأْس، وهو أنْ يَسودَّ مِن قَبْل أَنْ يطُول الشَعر.اهـ
ثانيًا ــ قال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مصنَّفه” (12726):
حدثنا عبَّاد، عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، قال:
(( اعْتَمِرْ مَا أَمْكَنَكَ )).
وفي كتاب “المناسك” (76) لسعيد بن أبي عروبة ــ رحمه الله ــ عن قتادة:
(( أَنَّ عِكْرِمَةَ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا مَا أَمْكَنَتْكَ الْمُوسَى )).
وإسناده صحيح.
وهذا يدُلَّ على أنَّ مدار الإكثار والموالاة بين العُمَر عند هؤلاء مشن الصحابة والتابعين على وجود الشعر في الرأس، فيكون أمْر المُقصَّر أيْسَر مِن المُحَلِّق.
ثالثًا ــ جاء في كتاب “المناسك” (75) لسعيد بن أبي عروبة ــ رحمه الله ــ عن قتادة:
(( أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ قُدُومِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فِيهِ فَاعْتَمَرَ )).
وإسناده صحيح.
رابعًا ــ قال الإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الأم” (2/ 147):
أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن حَبيب المعلم قال:
(( سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ الْعُمْرَةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ )).
وإسناده صحيح.
ثم قال الإمام الشافعي ــ رحمه اله ــ بعد ذلك:
وإذا جازت في شهر مرتين بأمْر النَّبي صلى الله عليه وسلم زايلَت معنى الحجِّ الذي لا يكون في السَّنَة إلا مرَّة واحدة، وصلَحت في كل شهر، وحين أراده صاحبه.اهـ
خامسًا ــ قال الإمام إسحاق بن منصور الكوسج ــ رحمه الله ــ في “مسائله عن الإمامين أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه” (1552):
قلت: يعتمر الرَّجل في الشهر كما شاء؟.
قال: ما أمكنه، ليس لها وقت كوقت الحجّ.
قال إسحاق: كما قال، إلا أنَّه يعتمر في كل شهر أفضل، لكي يَجمع الاختلاف، ويكون أمكَن للحلْق.اهـ
وقال الإمام موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُغني شرح مختصر الخِرقي” (5/ 17):
قال أحمد: إذا اعتمر فلا بُدَّ أنْ يَحلِق أو يُقصِّر، وفي عشرة أيَّام يُمكن حلْق الرأس.اهـ
وهذا أيضًا يدُلُّ على أنَّ مدار الإكثار مِن الاعتمار والموالاة عند هذين الإمامين أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ــ رحمهما الله ــ يدور على وجود الشعر في الرأس وعدمه، لا على الكراهة المنقولة عن السَّلف الصالح.
وقال الإمام أبو داود السجستاني ــ رحمه الله ــ في “مسائله عن الإمام أحمد” (ص:180 ــ رقم:865):
قلت لأحمد: العُمرة في كل شهر؟.
قال: أرجو أنْ لا يكون بِه بأس.اهـ
الوقفة الرابعة / عن أقوال بعض علماء أهل السُّنَّة المعاصرين التي تُشير إلى الجواز.
ودونكم ــ وفَّقكم الله ففقَّهكم ــ بعض مَن وقفت على كلامه مِنهم، مع لفظه، ومصدره:
أوَّلًا ــ سُئل العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع فتاويه” (17/ 234 ــ رقم:237) هذا السؤال:
[ هل يجوز تكرار العُمرة في رمضان طلبُا للأجْر المُترتِّب على ذلك؟ ].
فأجاب بقوله:
لا حرج في ذلك، النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (( العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ )) متفق عليه.
فإذا اعتمر ثلاث أو أربع مرات فلا حرج في ذلك، فقد اعتمرت عائشة ــ رضي الله عنها ــ في عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع عمرتين في أقلِّ مِن عشرين يومًا.اهـ
وسُئل ــ رحمه الله ــ هذا السؤال (17/ 440):
[ إذا اعتمرت وقضيت العُمرة، هل يجوز لي العُمرة عمَّن أُرِيد مِن أقاربي علمًا أنَّه ليس في الحج، وما هو المكان الذي أُحْرِم مِنه عند ذلك؟ ].
فأجاب بقوله:
لا أعلم مانعًا شرعيًّا مِن عمرتك لِمَن تَرى مِن أقاربك بعد اعتمارك عن نفسك العُمرة الواجبة، سواء كان ذلك في وقت الحج أو في غيره.
أمَّا ميقات العُمرة لِمن كان في داخل الحرَم فهو الحِلُّ، كالتنعيم والجعرانة ونحوهما.
لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أمَر عائشة بالاعتمار أمَر عبد الرحمن أخاها أنْ يَعْمُرها مِن خارج الحرَم.اهـ
وسُئل ــ رحمه الله ــ كما في “فتاوى نور على الدرب” (17/ 145-146 ــ شريط رقم:348) هذا السؤال:
[ أدَّيت العُمرة عن نفسي، وثلاث عُمَر أُخْرى وهبْتها للوالدين وزوجتي بالترتيب، وكنت في كل عُمرة أتحلَّل وأذهب للتنعيم للإحرام بالأُخْرى، وحيث إنَّ هذا العمل كان موضع جدال بيني وبين الإخوة مِن ناحية جوازه.
الرجاء الإفادة عن هذا العمل، عن طريقه، وحكمه، وجوازه؟ ]:
فأجاب بقوله:
الصواب أنَّه لا بأس بذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ )) متفق على صحته.
ولم يحدِّد مدَّة بين العمرتين، لكن إذا كانت العُمَر فيها مضايقة للحجاج وأذى بالزَّحمة فالأولى ترْك ذلك إلى وقت السَّعة، أمَّا إذا كان الوقت فيه سَعة، وليس فيه أذى لأحد فلا حرج في ذلك إنْ شاء الله، إذا كان المُعْتَمَر عنهم ميتين أو عاجزين لا يستطيعون العُمرة والحج، لكِبر السِّن، أو مرض لا يُرجى بُرؤه…اهـ
ثانيًا ــ سُئل العلامة عبد الرزاق عفيفي ــ رحمه الله ــ كما في “فتاويه” (ص:463-464 سؤال رقم:22) هذا السؤال:
[ هل كثرة العُمرة في رمضان سُنَّة أو أمْر مُستحب؟ ].
فأجاب بقوله:
كلمة سُنَّة أو مُستحب كلها قريبة مِن بعض، وهى اصطلاحات بين الفقهاء، والعُمرة في رمضان خير، وإنْ تكرَّرت، ولا حرَج في تكرارها، ولم أعلم إلا قليلًا مِن العلماء هُم الذين يكرهون تكرار العمرة في السَّنَة، وليس في رمضان وحده، ومِن هؤلاء المالكية:
يكرهون تكرار العُمرة في رمضان وفى غيره مِن الشهور، بل وفى السَّنَة، وليس معهم دليل على هذا الرأي.اهـ
ثالثًا ــ سُئل العلامة صالح بن فوزان الفوزان ــ سلَّمه الله ــ كما في” فتاويه” (5/ 184 ــ رقم:286) هذا السؤال:
[ إذا أحرَمَت لأداء العُمرة لنفسها ثم بعد الانتهاء منها أرادت أنْ تؤدي عُمرة لأبيها، وأُخْرى لعمِّها، فهل يَكفي أنْ تطوف وتَسعى فقط لكل واحد منهما، وذلك بإحرامها الأوَّل الذي عقدَته في الميقات أمْ لابُد مِن العودة للميقات والإحرام مِن جديد لكل واحد منهما؟ ].
فأجاب بقول:
تكرار العُمرة في وقت مُتقارب فيه، ما فيه مِن التوقف، فإنَّ تكرار العُمرة في وقت مُتقارب أنكره بعض العلماء، ولو أنَّ المسلم إذا أدَّى العمرة يدعو لوالديه وأقاربه في طوافه وفي سعيه وفي غير ذلك في المسجد الحرام، فهذا يَكفي إنْ شاء الله، ونرجو أنْ يَصلهم نفعُه وبِرُّه، لكن لو فعلَت ما ذَكرت مِن تكرار العُمرة لوالدها، ثم لعمِّها، وهكذا، فلا بأس بذلك ولو كان خلاف الأولى، لكن لو فعلَته لابُد مِن إحرام مستقل لكل عُمرة، بأنْ تخرج إلى الحْل، إلى التنعيم، أو عرفات، أو الجعرانة، وتُحرِم بالعُمرة مِن هناك، ولا تُحرِم بها مِن مكة، ولا ترجع إلى الميقات.اهـ
رابعًا ــ سُئل العلامة الألباني ــ رحمه الله ــ كما في (شريط رقم:2 ــ من سلسلة الهُدى والنور) هذا السؤال:
[ هل يجوز أنْ أعتمر مرتين في سَفرة واحدة وأنا مِن الأردن، فالمرَّة الأولى مِن أبيار علي، والمرة الثانية مِن التنعيم، مثل: عائشة ــ رضي الله عنها ــ؟ فإنْ كانت لا تجوز، فهل يجوز عن والده المتوفَّى أو عن والدته؟ وجزاكم الله خيرًا ؟].
فأجاب بقوله:
الذي يُريد أنْ يُعيد العُمرة، ينبغي أنْ يَعود إلى الميقات الذي أحرَم مِنه، وسواء ذلك عن نفسه، أو عن أبويه.
أمَّا أنْ يُحرِم مِن التنعيم حيث أحرَمَت مِنه السِّيدة عائشة، فهذا حكمٌ خاص بعائشة، ومَن يكون مثلها.اهـ
الوقفة الخامسة / عن الذي تُورثه معرفة هذا الخلاف في المسألة بين أهل العلم والفقه
إنَّ دراسة مسائل العلم والفقه دراسة مُستفيضة، وتحريرها تحريرًا جيدًا، وأخذها أخذًا عميقًا متينًا متأنِّيًّا:
يَنفع طالب العلم نفعًا كبيرًا، ويَزِينه كثيرًا، ويجعله يخرج بفقه قويٍّ متين لا يَندم عليه إذا كَبر وازداد في العلم.
ويورثه عدم العجلة في الإفتاء أو الإنكار على مَن خالف ما يَراه ويَميل إليه مِن أقوال أهل العلم، ناهيك عن وصفه بالبدعة أو الشذوذ.
وهذه المسألة التي طرحتها في هذا الرسالة قد تباينت فيها أقوال أهل العلم ــ رحمهم الله ــ كما تقدَّم في النَّقل عنهم تِباينًا قد يجعل طالب العلم في حيرة مِنها، أو تردُّدٍ أو توقف عن ترجيح أحد القولين على الآخَر، أو هيبة مِن إفتاء الناس فيها، ناهيك عن الحكم بالبدعية.
وفي الختام لا يسعني إلا أنْ أقول:
إنْ أريد بما كتبت إلا الحق ما استطعت، فما كان مِن إصابة له فمِن توفيق الله تعالى، وله وحدَه الفضل والمِنَّة، وما كان مِن خطأ فمِن نفسي والشيطان، والله ورسوله مِنه بريئان، وأستغفر الله مِنه، وهو أرحم الراحمين.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.