المجالس العشرة مِن دروس عشر ذي الحِجَّة الأُولى وعيد الأضحى وأيَّام التشريق والأضحية
الصالحة للقراءة
في المساجد والبيوت واللقاءات
كتبها
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.
المُقدِّمة
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
وبعد، أيُّها الإخوة الفضلاء ــ سدّدكم الله وسلَّمكم ــ:
فهذه مجالس ودروس مُتعدِّدة ومتنوِّعة تَصلح للقراءة على المُصَلِّين والأهل والأصحاب في عشر ذي الحِجَّة الأُوَل، وأيَّام التشريق، لتعلُّقها بأحكام هذه الأيَّام وما فيها مِن عبادات كتكبيرٍ، وصوم، وأضحية، وعيد، وصلاته.
وجعلتها مُختصرَة قدْر الإمكان بحيث لا تَستغرِق القراءة فيها إلا دقائق معدودة، تركًا لإملال بعض مَن يَستمع، وحتى لا يُؤخَذ إلا القليل مِن وقت قراءة المُصَلِّي وذِكره واستغفاره ودعائه وعمله، وجلوس مَن كان في المجلس الذي تُقرأ فيه.
واجتهدت في تسهيل الكلمات، وتوضيح الألفاظ، حسب استطاعتي، لِتُفْهَم سريعًا، ولكلِّ أحد، وحتى لا يَحتاج القارئ إلى مَزيد توضيح وتعليق.
ولم أذْكُر فيها فيما أظن أو غالبًا إلا ما صحَّ أو ظهرَ لي ثبوته مِن أحاديث النَّبي صلى الله عليه وسلم، وآثار أصحابه ــ رضي الله عنهم ــ، وما هو مُتفَّق عليه مِن الأحكام بين الفقهاء، أو رجَحَ على غيره بالدليل أو التعليل، وجلَّلتُه بنُقولٍ عن الفقهاء مِن المذاهب الأربعة المشهورة، وغيرهم عند الحاجة.
وما كان مِن إصابةٍ في هذه المجالس والدروس، فمِن توفيق الله تعالى، وله وحدَه الفضل والمِنَّة، وما كان مِن خطأ فمِن تقصير نفسي، والشيطان، والله ورسوله مِنه بريئان، وأستغفر الله مِنْه، وهو أرحم الراحمين.
والله المسؤول أنْ يجعلَه لوجهه خالصًا، وينفع بِه كاتبه، وقارئه، ومُستمعه، والناشر له بين عباده، إنَّه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبُنا ونِعم الوكيل.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.
بداية المجالس
المجلس الأوَّل / عن فضلِ أيَّامِ عشرِ شهرِ ذِي الحِجَّةِ الأُوَلِ.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، أيُّها الإخوة الفضلاء ــ سلَّمكم الله ــ:
فإنَّ أيَّامَ عشرِ ذِي الحِجَّة الأُوَلِ أيَّامٌ فاضلة، وأيَّامٌ معظَّمة، وأيَّامٌ جليلة، وأيَّام مُباركة، إذ تُضاعفُ فيها الحسنات، وتَعْظُمُ فيه الخطايا والسيئات، بل هي أجَلّ أيَّامِ السَّنَة وأعظمُها وأفضلُها.
وقد نصَّ جمعٌ عديدٌ مِن العلماء ــ رحمهم الله ــ على: أنَّها أفضلُ مِن أيَّام عشرِ شهرِ رمضان الأخيرةِ.
وجاء في حديثٍ حسَّنَ إسنادَه طائفةٌ مِن علماء الحديث ــ رحمهم الله ــ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ: عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ )).
وصحَّ عن مَسروق بنِ الأجْدَعِ ــ رحمه الله ــ وهو مِن تلامذة الصحابة أنَّه سُئلَ عن قول اللهِ تعالى: { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } فقال: (( هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ )).
وقد نوَّهَ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ في كتابه العزيزِ بشأن هذهِ العشر، وأنَّها أيَّامُ ذِكرٍ له سبحانه، فقال ــ عزَّ شأنه ــ في سورة “الحج”: { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }.
وقال الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه”: وقال ابن عباس: (( { فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }: أَيَّامُ العَشْرِ )).
وقال ــ عزَّ وجلَّ ــ مُقسِمًا بالعشر: { وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ }.
وقال الإمامُ ابنُ جَريرٍ الطَّبري ُّــ رحمه الله ــ في “تفسيره” عند هذه الآية:
«والصواب مِن القول في ذلك عندنا: أنَّها عشرُ الأضحى، لإجماعِ الحُجَّةِ مِن أهل التأويلِ عليه».اهـ
والمُراد بأهل التأويل: أهل التفسير.
وقال الحافظ ابن كثير الشافعي ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” عند هذه الآية:
«والليالي العشر المُراد بها: عشر ذي الحِجَّة، كما قال ابنُ عباسٍ، وابنُ الزُّبيرِ، ومُجاهدٌ، وغيرُ واحدٍ مِن السَّلف والخَلَف».اهـ
وأعلَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمْرَ أيَّامِ عشرِ ذِي الحِجَّة الأُوَلِ، والعملِ الصالحِ فيها، وأكْبَره وأظهرَه، فصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وفي لفظٍ آخَر بإسنادٍ حسنٍ أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: (( مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ، وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا، مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وفي هذهِ العَشرِ المُعظَّمةِ المُباركة: يكون الحجُّ الذي هو أحدُ أركانِ الإسلامِ، وأصولِه العِظام، الذي صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في شأنه: (( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا أنَّه قال: (( الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ )).
وفي هذهِ العَشرِ أيضًا: يوم عرَفة، وما أدراكُم ما يومُ عرَفة، إنَّه يومُ الرُّكنِ الأكبرِ لِحجِّ الحُجَّاج، يومُ الوقوفِ بعرَفة، ويومُ تكفيرِ السيئات، والعِتقِ مِن النَّار لهم، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ )).
وصيامُ يومِ عرَفةَ على يُسرِه وسُهولتِه يُكفِّرُ ذُنوبَ سنتين، لِمَا صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ )).
وفي هذهِ العَشرِ أيضًا: يوم الحجِّ الأكبر، وهو يومُ النَّحر، ويومُ عيدِ الأضحى، حيثُ صحَّ: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ، فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: «هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ» )).
وسُمِّي يومُ النَّحرِ بيومِ الحجِّ الأكبرِ: لأنَّ مُعظَمَ وأهمَّ مناسكِ الحجِّ تكونُ في ليلتِه ويومِه، كالوقوفِ بعرَفة، والمَبيت بمُزدلِفة، ورَميِ جَمرةِ العَقبةِ، وذبحِ الهَدي، والحلقِ أو التقصير، وطوافِ الإفاضةِ، وسَعي الحجّ.
وفي هذهِ العَشرِ أيضًا: صلاة عيدِ الأضحى التي هي مِن أعظمِ شعائرِ الإسلام، وقد صلَّاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وداومَ على فِعلها، وكذلك أصحابُه والمسلمونَ في زمنِه وبعدَ زمنِه، بل حتى النِّساء كُنَّ يَشهدنَها في عهده صلى الله عليه وسلم، وبأمرِه.
وفي هذهِ العَشرِ أيضًا: نُسُك الهَديِ والأضحية، حيثُ يَبدأُ وقتُ التَّقرُّبِ إلى الله بالذبح لهُما مِن ضُحَى اليومِ العاشرِ مِنها.
وفي هذهِ العَشرِ أيضًا: تكبير اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ، يُكَبِّرُه الرِّجالُ والنساء، والكِبارُ والصِّغار، “اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمد”.
نفعني اللهُ وإيَّاكم بما سمعتم، ومَنَّ علينا بالتوبة النَّصوح، والإقبالِ على طاعتِه، واستغلالِ مواسمِ الخيراتِ بالإكثارِ مِن الصالحات، والمسارعةِ إلى الطاعاتِ، وترْكِ الخطيئات، إنَّه سميعٌ مُجيب.
المجلس الثاني / عن الترغيبِ في الاجتهادِ بالطاعاتِ والإكثارِ مِنها أيَّام عشرِ شهرِ ذِي الحِجَّةِ الأُولى.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.ح
أمَّا بعد، أيُّها الإخوة الفضلاء ــ سلَّمكم الله ــ:
فإنَّ مِمَّا يَجدُرُ بالعبد المسلم، ويَنبغي له، ويَتأكدُ عليه، في هذه الأيَّامِ الفاضلةِ المُعظَّمةِ المُباركة، أيَّامِ عشرِ ذي الحِجَّة الأُوَلِ أنْ يحرصَ شديدًا على نفسِه، وعلى أهل بيتِه، ومَن حولَه مِن أباءٍ وأُمَّهات، وأبناءٍ وبنات، وإخوانٍ وأخوات، وزوجاتٍ وقرابة:
أنْ يكونوا مِن المُكثرينَ فيها مِن الأعمال الصالحة، والمُسارِعينَ إليها، والسَّبَّاقِينَ فيها.
فيُذَكِّرَهُم بفضلِها، ويُرغِّبَهُم بالاجتهاد فيها، ويُعينَهُم على ذلك، ويكونَ قُدوةً لهم في الجِدِّ والاجتهاد فيها.
ولْنَحْذَرْ جميعًا أنْ يُثبِّطَنا الشيطانُ، فنكونَ مِن المتكاسلينَ فيها، الذين لا يَغتنمونَ الفُرَصَ، ولا يَهتمُّونَ بالأيَّامِ الفاضلةِ، والمواسمِ المُعظَّمة، فإنَّ أيَّامَ العشرِ أيَّامٌ قليلة، لكنَّها عظيمةُ الأُجور، سريعةُ الرَّحيل، مَن حُرِمَ خيرَها وبركتَها وما فيها مِن أجْرٍ ومُضاعفةِ حسناتٍ، فقد حُرِمَ خيرًا كثيرًا، وفاتَه فضلًا كبيرًا.
وقد كان السَّلفُ الصالحُ ــ رحمهم الله ــ يَجتهدونَ في هذه العشرَ شديدًا، فثبتَ عن القاسمِ بنِ أبي أيوبٍ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ )).
وأعظمُ مِن ذلكَ، وأبْيَنُ للمؤمن، وأشرَحُ لِصدرِه وأشحَذُ لِهمِّتِه، في الاجتهاد في الطاعات، والإكثار مِنها، في هذه العشر، قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابت: (( مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ، وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا، مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
فما ذا نُريدُ بعدَ هذا الفضلِ، وهذا الترغيبِ، وهذا الأجرِ الكبير؟
ألَا فاتقوا اللهَ تعالى في هذه العشرِ المُباركة، وتَعرَّضوا لأسبابِ رحمتِه ومغفرتِه سبحانه، واعملوا كلَّ سببٍ يُوصلُكم إلى رضوانِه، ويُقرِّبُكم مِن جنَّتِه، ويُباعِدُكم عن نارِه، فإنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ مِن المُحسنين، وتزوَّدوا فيها كثيرًا مِن الطاعات، واعمُروا ليلَها ونهارَها بالقُرُبات، وكونوا فيها مِن السَّبَّاقينَ المُسارِعينَ إلى الخيرات، حتى تنالوا الخيرَ والسعادةَ والرَّاحة في حياتِكُم الدُّنيا، وفي قبورِكم، ويومِ العرَضِ على الله ربِّكم في الدَّار الآخِرة، لِمَا صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وقد دَلَّ هذا الحديثُ النَّبويُّ: على عِظَمِ شأنِ أيَّامِ العشرِ عندَ اللهِ سبحانه، وكبيرِ فضلِها، وجزيلِ ثوابِها، وأنَّ أجورَ الفرائضِ والنوافلِ تُضاعَفُ فيها أكثرُ مِن باقِي السَّنة.
ودَلَّ هذا الحديثُ أيضًا: على أنَّ التَّقرُّبَ إلى اللهِ بالأعمال الصالحةِ في أيَّام العشرِ أحَبُّ إليه سبحانه مِن التَّقرُبِ في سائر أيَّامِ السَّنة، ولا يُستَثنَى مِن ذلك إلا أفضلُ أنواعِ الجهاد، وهو أنْ يَخرجَ الرَّجلُ مجاهدًا في سبيل الله بنفسِه ومالِه، ثم لا يَرجعُ مِنهما بشيء، فهذا النوعُ مِن الجهاد هو الذي يَفضُلُ على باقِي الأعمالِ الصالحةِ في العشر، وأمَّا سائرُ أنواعِ الجهادِ مع سائرِ الأعمال، فإنَّ العملَ في عشر ذِي الحِجَّةِ أفضلُ مِنها، بدَلالة عُمومِ هذا الحديثِ، والاستثناءِ فيه.
ورَغَّبَ هذا الحديثُ أيضًا: في الإكثارِ مِن الأعمال الصالحةِ في أيَّام العشرِ، والاهتمامِ بها شديدًا، لأنَّ العملَ الصالحَ المذكورَ فيه عامٌّ، فيدخلُ فيه كلُّ عملٍ صالحٍ واجبٍ أو مُستحَب.
هذا وأسأل الله أنْ يُعيننا على ذِكرِه وشُكرِه وحُسنِ عبادته، وأنْ يَهديَنا لأحسنِ الأعمالِ والأخلاق، إنَّه جوادٌ كريم.
المجلس الثالث / عن الترغيبِ في صيامِ عشرِ شهرِ ذِي الحِجَّةِ الأُوَلِ، ويومِ عرفةَ، وتكبيرِ اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ في العشر.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، أيُّها الإخوة الفضلاء ــ سلَّمكم الله ــ:
فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال عن أيَّام عشرِ ذي الحِجَّة الأُولى: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ )).
والعملُ الصالحُ المذكورُ في هذا الحديثِ عامٌّ، فيدخل فيه الصيام، لأنَّه مِن الأعمالِ الصالحة، بل هو مِن أفضلِها وآكدِها وأعظمِها أجرًا، وأكثرِها إبعادًا عن المعاصي، وأشدِّها جَلْبًا لِخُشوعِ القلبِ، ورِقَّةِ الطَّبعِ، وحُسنِ الأخلاقِ، وانشراحِ الصَّدر، ويَدفعُ صاحبَه لِلمزِيدِ مِن الصالحات.
وإلى سُنيَّةِ صيامِ الأيَّامِ التِّسعَةِ الأُولى مِن شهر ذِي الحِجَّة، ذهبَ الأئمةُ الأربعةُ، وأهلُ الحديثِ، والظاهريةُ، وغيرُهم مِن أهل العلم، استدلالًا بهذا الحديث النَّبوي، واستنباطًا مِنه.
وأفضلُ يومٍ يُصامُ لِغير الحُجَّاجِ مِن هذه التِّسعةِ أيَّام، وأكثرُه أجرًا، يومُ عرفة، وهو اليومُ التاسع، لِمَا صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ )).
وأمَّا الحاجُّ، فالأفضلُ في حقِّه عندَ أكثرِ العلماءِ ترْكُ صومِ يومِ عرَفةَ حتى يَتقوَّى على أعمالِ الحجِّ، لأنَّ ترْكَ صيامِه في الحجِّ هو فِعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفِعلُ أصحابه أبي بكرٍ وعمر وعثمان ــ رضي الله عنهم ــ، حيث صحَّ عن مَيمونةَ ــ رضي الله عنها ــ: (( أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلاَبٍ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي المَوْقِفِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ )).
وثبتَ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَحَجَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَحَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَحَجَجْتُ مَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ وَلَا آمُرُ بِهِ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ )).
واعلموا ــ سدَّدكم اللهُ ــ أنَّ مِن جُملةِ العباداتِ التي يَجْدُرُ أنْ نَهتمَّ بِها أيَّامَ العشرِ شديدًا، ونَتزوَّدَ مِنها كثيرًا، ونُسارِعَ إليها حثيثًا، هذه العبادات:
أولًا: المُحافظة على صلاةِ الفريضةِ في أوقاتها، ومع الجماعة، والحرص على النَّوافل كالسُّنَنِ الرَّواتِب، وصلاةِ الضُّحى، وسُنَّةِ الوضوء وقيامِ الليلِ، والوِتر.
ثانيًا: الإكثار مِن تلاوةِ القرآن، ومَن قَوِيَ على ختْمِهِ في هذه العشر مرَّةً فأكثر، فقد أسْدَى إلى نفسِه خيرًا كبيرًا.
ثالثًا: الإكثار مِن الصدقة على الفقراء وفي سائرِ طُرقِ البِرِّ، وإعانة المسلمين، وتفريجُ كُرَبِهِم.
رابعًا: الإكثار مِن ذِكرِ اللهِ ودعائِه وتسبيحِه وتحميدِه وتهليلِه واستغفارِه في سائر الأوقات.
خامسًا: تكبير اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ في سائر الأوقات، والإكثار مِنه، مع الجَهرِ بِه: “اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمد”.
وعلى التكبيرِ في أيِّام العشرِ جَرَى عملُ الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ وتلامذتِهم مِن التابعين، فصحَّ أنَّ: (( ابْنُ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ ــ رضي الله عنهما ــ كانا يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا )).
وقال ميمونُ بنُ مِهرانَ تلميذ الصحابة ــ رحمه الله ــ: (( أدْرَكْتُ الناسَ وإنَّهم لَيُكبِّرونَ في العشْر، حتى كنتُ أُشَبَّهُهُ بالأمواجِ مِن كثْرَتِها )).
إلَّا إنَّهُ لا يُكبَّرُ في هذه الأيام بعدَ السلامِ مِن صلاةِ الفريضة، لأنَّ التكبيرَ الذي يكونُ بعدَ صلاةِ الفريضةِ إنَّما يَبدأُ وقتُه لِغيرِ الحُجَّاجِ:
مِن فجْرِ يومِ عَرفةَ إلى صلاةِ العصرِ مِن آخِرِ أيـَّامِ التَّشريق، ثم يُقطَع.
سادسًا: الاهتمام ببِرِّ الوالدين، وصِلَة الأرحام، والإحسانِ إلى الخلق، وحُسنِ الجوار، وترْكِ أذيَّةِ الناس.
سابعًا: التفقه في الدِّين، والاهتمام بالعلم الشَّرعِيِّ حفظًا وتعلُّمًا، ودعوةً، لاسيَّما أحكام هذهِ العشر، وأحكام العيد، وأحكام الأضحية، وأحكام الحجِّ لِمن أرادَه.
هذا وأسأل اللهَ أنْ يُبارِك لنَا في أعمارِنا وأعمالِنا وأقواتِنا وأوقاتِنا وأهلينا، وأنْ يوسِّع علينا في الأمْن والرِّزق والعافية، إنَّه سميع الدعاء.
المجلس الرابع / عن ظُلمِ الإنسانِ نفسَهُ أيَّامِ العشرِ بفِعلِ السَّيئاتِ والقبائحِ، وولوجِ المُنكراتِ، وارتكابِ البدعِ وإشاعتِها في الناس.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، أيُّها الإخوة الفضلاء ــ سلَّمكم الله ــ:
فإنَّ أيَّامَ العشرِ تقعُ في شهر ذِي الحِجَّة، وهو أحدُ الأشهرِ الأربعةِ الحُرُم، وشهرُ الحجِّ، وشهرُ يومِ عرَفة، وشهرُ يومِ النَّحرِ وعيدِ الأضحى، وشهرُ أيَّامِ التشريق، وقد قال الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في إثبات حُرمَةِ هذا الشهرِ وبقيَّةِ الأشهرِ الحُرُم: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }.
وصحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ )).
ألا فلنَحذَر أشدَّ الحذَرِ أنْ نظلِمَ أنفسَنا في هذا الشهرِ وغيرِه مِن الأشهر الحُرُمِ بالسيئات والخطايا، والبدعِ والضَّلالات، والحَلِفِ بغير الله، والفِسقِ والفُجور، والظُّلمِ والعُدوان، والقتلِ والاقتتال، والغِشِّ والكذب، والغِيبةِ والبُهتانِ والنَّميمة، والحسدِ والغِلِّ والحِقد والتباغُض، والفُجورِ في الخُصومة، والسَّبِ واللعنِ والقذْف، والنَّظر إلى المُحرَّمات، وأكل الحرام، وإحداثِ الفتنِ أو إشعالِها في النَّاس، والطعنِ في الحُكَّام وإثارةِ الرَّعية عليهم، وعُقوق الوالدين، وقطيعةِ الأرحام، واحتقارِ الناس، والتَّنقُّص مِن أنسابِهم، فإنَّ الله ــ جلَّ شأنه ــ قد زجرَنا ونهانا عن ذلك شديدًا في الأشهرِ الحُرُم، وجعلَه ظُلمًا لأنفسِنا، فقال ــ تبارَك وتقدَّس ــ: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }.
ولأنَّ السيئاتِ مِن البدعِ والمعاصِي تَعْظُمُ وتَشتدُّ، وتَكبُرُ وتتغلَّظُ في كلِّ زمانٍ أو مكانٍ فاضل، وأيَّامُ العشرِ زمنُها فاضِلٌ، بل مِن أفضلِ الأزمان، وهي أفضلُ أيَّامِ السَّنة، وقد ثبتَ عن قتادةَ ــ رحمه الله ــ وهو مِن تلامذةِ الصحابةِ أنَّه قال: (( أَمَّا قَوْلُهُ: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمَرِهِ مَا شَاءَ )).
وقال الإمامُ ابن جَريرٍ الطَّبريُّ ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” عن الأشهر الحُرُم:
«ولكنَّ اللهَ عظَّمَ حُرمَةَ هؤلاءِ الأشهرِ، وشرَّفَهنَّ على سائرِ شهورِ السَّنةِ، فخَصَّ الذَّنْبَ فيهنَّ بالتعظيم، كما خصَّهنَّ بالتشريف».اهـ
فاتقوا الله َــ عِبادَ الله ــ في هذه العشرِ المُباركة مِن جهةِ الحسناتِ بإكثارِها، ومِن جهةِ السيئات بترْكِها وإقلالِها، أنتم وأهليكُم كبارًا وصِغارًا، ذُكورًا وإناثًا، وأعينوا بعضَكم على ذلك، فإنَّها أيَّامٌ قليلة، لكِنَّها عظيمةُ الأجْر على الطاعة، سريعةُ الرَّحيل، عظيمةُ الوِزرِ على الذَّنْب.
هذا وأسأل اللهَ أنْ يَنفعَنا بِما علَّمَنا، وأنْ يَزيدَنا فقهًا وعملًا بشرعِه، اللهم اغفر لنا، ولآبائِنا، وأُمهاتِنا، وجميعِ أهلينا، وارفعِ الضُّرَ عن المُتضرِّرين مِن المسلمينَ في كلِّ أرضٍ، إنَّكَ سميعٌ مُجيب.
المجلس الخامس / عن التكبيرِ في أيَّامِ عشرِ ذِي الحِجَّةِ الأولى، ويومِ النَّحرِ، وأيَّامِ التشريق.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، أيُّها الإخوة الفضلاء ــ سلَّمكم الله ــ:
فإنَّ لتَّكبيرَ في أيَّام عشرِ ذِي الحِجِّة الأولى قد جَرى عليهِ عملُ السَّلفِ الصَّالحِ مِن أهل القُرونِ الأولى، وعلى رأسِهم أصحابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
حيثُ قال الإمامُ البُخاريُّ ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” جازمًا: (( وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ــ رضي الله عنهما ــ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا )).اهـ
وزاد غيرُه: (( لا يَخرجَانِ إلَّا لذلك )).
وقال مَيمونُ بنُ مِهران ــ رحمه الله ــ وهو مِن تلامذةَ الصحابة: (( أدركتُ النَّاس وإنـَّهم ليكبِّرون في العشر، حتى كنتُ أشبِّههُ بالأمواج مِن كثرتها )).
وصحَّ عن ثابت البُناني ــ رحمه الله ــ وهو مِن تلامذةِ الصحابة، أنَّه قال: (( كَانَ النَّاسُ يُكَبِّرُونَ أَيَّامَ الْعَشْرِ، وَالْأَمْرُ بِمَكَّةَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ، يُكَبِّرُ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الْعَشْرِ )).
وهذا التَّكبيرُ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ مشروعٌ في حقِّ جميعِ النَّاسِ ذكورًا وإناثًا، وفي سائرِ الأوقاتِ مِن ليلٍ ونهار، وفي السَّفر والحضَر.
فيُكبِّرَ الإنسانُ وهو جالسٌ، أو قائمٌ، أو راكبٌ، أو مُضطجِعٌ على جَنبِه أو ظَهرِه، أو وهو يَمشي، وفي البيت، والعملِ، والسوقِ، والمَركبةِ، والطريقِ، وغيرِها مِن الأماكِن.
ويُسمَّى هذا التكبيرُ عندَ العلماءِ “بالتَّكبيرِ المُطلَق”، لأنَّ قولَه لا يَتقيَّدُ بوقت، إذ يقولُه المسلمُ في أيِّ وقتِ شاءَ مِن ليلٍ أو نهار.
ويَبدأُ هذا التكبير: مِن غُروبِ شمسِ آخِرِ يومٍ مِن شهرِ ذِي القَعْدة، ويَستمرُ إلى غُروبِ آخِرِ يومٍ مِن أيَّام التشريقِ ثم يُقطَع.
إلَّا أنـَّه لا يُكبَّرُ في الأيَّامِ الثمانيةِ الأولى مِن هذه العشر بعدَ السلامِ مِن صلاةِ الفريضة، سواء صُلِّيَت في المسجدِ أو البيتِ أو العملِ، أو في أيِّ مكان.
وإنَّما يَبدأُ وقتُ التَّكبيرِ الذي يكونُ بعدَ السلامِ مِن صلاةِ الفريضةِ مُباشرةً لغيرِ الحُجَّاجِ عندَ أكثرِ العلماءِ مِن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم مِن الفقهاء، كما قال الإمامُ ابن تيميَّةَ ــ رحمه الله ــ وغيرُه:
مِن فجرِ يومِ عرَفةَ إلى صلاةِ العصرِ مِن آخِرِ أيـَّامِ التَّشريق، ثمَّ يُقطَع.
وهذا هو الأشهرُ الذي عليهِ العملُ، كما قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ الشافعي ــ رحمه الله ــ.
ونَقلَ الإمامُ أحمد بنُ حنٍبل، وشمسُ الدِّينِ السَّرخسِي الحَنفي، ومُوفَّقُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ الحنبلي، وابن تيميَّة:
إجماعَ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على بدايته مِن هذا الوقت.
ويُسمَّى هذا التكبيرُ عندَ العلماءِ “بالتَّكبيرِ المُقيَّد”، لأنَّ ذِكرَ اللهِ بِه قُيِّدَ النُّطقُ بِه بالسلامِ مِن صلاةِ الفريضة.
وهذا التكبيرُ أيضًا مشروعٌ بآثارِ الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ الثابتةِ، واتفاقِ العلماء.
فثبتَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيُكَبِّرُ بَعْدَ الْعَصْرِ )).
وقال الإمامُ البخاريُّ ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” جازمًا: (( وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ــ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ــ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الأَيَّامَ جَمِيعًا )).
وثبتَ عن ابنِ عباسٍ ــ رضي الله عنهما ــ: (( أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَا يُكَبِّرُ فِي الْمَغْرِبِ )).
وقد نَقلَ اتفاقَ العلماءِ على مشروعية هذا التكبير: ابنُ رُشد الحَفيد المالكي، والنَّووي الشافعي، والزَّركشِي الحنبلي، وابن تيميَّة ــ رحمهم الله ــ وغيرُهم.
ويُكبَّرُ بهذا التكبيرِ بعدَ السلامِ مِن صلاةِ الفريضةِ على الفور، وقبلَ أذكارِ وأدعيةِ ما بعدَ الفريضة، وقد نصَّ على ذلك الفقهاءُ مِن أهلِ المذاهبِ الأربعة، لأنَّ التكبيرَ هو شِعارُ هذه الأيَّامِ، ومُختَصٌّ بِها، ولهذا قُدِّمَ على الذِّكر
ومِن هذا التفصيل الذي تقدَّم:
ــــ يكونُ مِن أوَّلِ أيَّامِ عشرِ ذِي الحِجَّةِ وحتى فجرِ يومِ عرَفةَ تكبيرٌ “مُطلَق” فقط.
ــــ ويَجتمعُ مِن فجرِ يومِ عرَفةَ وحتى آخِر أيَّامِ التشريقِ تكبيران: “مُطلَقٌ” في كلِّ وقتٍ، وَ “مُقيَّدٌ” بالسلامِ مِن صلاةِ الفريضة.
ويُستحَبُّ الجهرُ بهذا التكبيرِ، لثبوتِه عن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
حيث قال الإمامُ البخاريُ ــ رحمه الله ــ في “صحيحِه” جازمًا: (( وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ــ رضي الله عنهما ــ: «يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا» )).
وقال أيضًا: (( وَكَانَ عُمَرُ ــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ــ «يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا» )).
وأمَّا النساءُ، فقد قال الحافظُ ابنُ رجبٍ الحنبليُ ــ رحمه الله ــ في حقِّهنَّ:
«ولا خلافَ في أنَّ النَّساءَ يُكبِّرنَ مع الرِّجالِ تَبعًا إذا صَلَّيْنَ معَهم جماعةً، ولكنَّ المرأةَ تَخفضُ صوتَها بالتَّكبير».اهـ
وقال الإمامُ البخاريُ ــ رحمه الله ــ أيضًا في “صحيحِه” جازمًا: (( وكَانَتْ مَيمُونَةُ ــ رضِي اللهُ عنها ــ تُكبِّر يومَ النَّحْرِ، وكُنَّ النساءُ يكبِّرنَ خلف أبـَانَ بن عثمان وعمرَ بن عبد العزيز، ليالي التَّشريق، مع الرِّجال في المسجد )).
وأمُّ المؤمنينَ ميمونةَ ــ رضي الله عنها ــ هي إحدى زوجات رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا إذا كانت المرأةُ بعيدةً عن الرَّجالِ البالغينَ الأجانبِ، ولا يَصِل صوتُها إليهم، فيُشرَعُ في حقِّها الجهرُ بالتكبير.
وقد جاءت في هذا التَّكبيرِ عِدَّةُ صِيغٍ عن الصَّحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ:
الأولى: (( اللهُ أكبرُ كبيرًا، اللهُ أكبرُ كبيرًا، اللهُ أكبرُ وأجلُّ، اللهُ أكبرُ وللهِ الحمد ))، وثبتتْ عن ابنِ عباسٍ ــ رضي الله عنهما ــ.
الثَّانية: (( اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ كبيرًا، الَّلهمَّ أنتَ أعلى وأجلُّ مِن أنْ تكونَ لكَ صاحبَةٌ، أو يكونَ لكَ ولدٌ، أو يكونَ لكَ شريكٌ في المُلك، أو يكونَ لكَ وليٌّ مِن الذُّلِّ، وكبِّرهُ تكبيرًا، اللهُ أكبرُ كبيرًا، الَّلهمَّ اغفرْ لَنَا، الَّلهمَّ ارْحَمْنا ))، وثبتتْ عن سلمانَ الفارِسي ــ رضي الله عنه ــ.
الثَّالثة: (( اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، لا إله إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمد ))، وثبتتْ عن ابنِ مسعودٍ ــ رضي الله عنه ــ.
وذَكرَ الإمامُ ابنُ تيميةَ ــ رحمه الله ــ أنَّ هذهِ الصيغة هي المنقولةُ عن أكثرِ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذا وأسأل اللهَ ــ جلَّ وعلا ــ أنْ يجعلَنا مِن الذَّاكرين له كثيرًا، وأنْ يجعلَ ألسِنَتَنا رَطبَةً بذِكرِه، وأنْ نكونَ مِمَّن تطمئِنُ قلوبُهم بذِكرِ الله، إنَّه سميعُ الدعاء.
المجلس السادس / عن حُكمِ أخْذِ المُضحِّي مِن شعرِهِ وأظفارِهِ وجلدِهِ في أيَّامِ العشرِ، وقبلَ ذبحِ أُضحيتِه.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، أيُّها الإخوة الفضلاء ــ سلَّمكم الله ــ:
فإذا دخلَتِ العشرُ الأُوَلُ مِن شهرِ ذِي الحِجَّةِ: فإنَّ مُريدَ الأضحيةِ مَنهِيٌّ عن الأخذِ مِن شَعْرِه وأظفارِه وجِلدِه حتى يَذبحَ أضحيتَه، لِمَا جاء في “صحيحِ مسلمٍ” عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا )).
وقال الفقيهُ أبو زكريا النَّوويُ الشافعيُ ــ رحمه الله ــ:
«والمُراد بالنَّهيِّ عن الحلْقِ والقَلْمِ: المَنعُ مِن إزالةِ الظُفرِ بقلْمٍ، أو كسْرِ، أو غيرِه، والمَنعُ مِن إزالةِ الشَّعرِ بحلْقٍ، أو تقصيرٍ، أو نَتفٍ، أو إحراقٍ، أو أخذٍ بِنَوْرَةٍ، أو غيرِ ذلك، وسواءٌ شعْرُ العانَةِ، والإبطِ، والشاربِ، والرأسِ، وغيرِ ذلكَ مِن شُعورِ بدَنِه».اهـ
فإنْ أخَذَ مُريدُ الأضحيةِ مِن شعْرِه أو ظُفرِه أو جِلدِه شيئًا عن عمدٍ:
فقد أساءَ، وخالفَ السُّنةَ، ولا كفَّارةَ عليه، باتفاقِ العلماء.
حيث قال الإمامُ مُوفَّقُ الدِّينِ ابنُ قدامَةَ الحنبليُ ــ رحمه الله ــ، وغيرُه:
«فإنْ فعَلَ استغفرَ الله َتعالى، ولا فِديةَ عليهِ إجماعًا، وسواءٌ فعلَهُ عمدًا أو نسيانًا».اهـ
ويَبدأ وقتُ المَنعِ مِن الأخْذِ: مِن حينِ إهلالِ هلالِ شهرِ ذِي الحِجَّةِ حتى يَذبحَ المُضحِّي أُضحيَتَة، سواءٌ ذُبِحَت يومَ العيد، أو في أوَّلِ أو ثاني يومٍ مِن أيَّام التشريق، لِمَا جاءَ في “صحيحِ مُسلمٍ” عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ )).
ومَن نَوَى الأُضحيةَ مُتأخِّرًا، كمَن نواهَا في اليوم الثامنِ مِن شهر ذِي الحِجَّةِ مثلًا، فوقتُ إمساكِه عن الأخْذِ مِن شعرِه وجلدِه وأظفارِه يَبدأ مِن حين حصلَت له هذه النِّية.
وأمَّا بالنِّسبةِ لأهلِ البيتِ مِن زوجةٍ وأبناءٍ وبناتٍ وغيرِهم، مِمَّن يُضَحِّي عنهم مَن يَعولُهم مِن أبٍ أو زوجٍ أو ابنٍ أو جَدٍّ أو أُمٍّ:
فحُكمُهم كحُكمِ المُضَحِّي عنهم، فيُشرَع لهم أنْ يُمسِكونَ عن الأخْذِ كما يُمسِك، ويُكرَه لهم الأخْذُ.
وإلى هذا ذهب القول أكثر الفقهاء، مِنهم: المالكية، والحنابلة، وغيرهم.
وذلك لأمور ثلاثة:
الأوَّل: أنَّ هذا الإمساكَ مُفتًى بِه في عهدِ السَّلفِ الصالحِ ــ رحمهم الله ــ، حيثُ صحَّ عن سليمانَ التَّيمِيِّ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ شَعْرِهِ، حَتَّى يَكْرَهَ أَنْ يَحْلِقَ الصِّبْيَانُ فِي الْعَشْرِ )).
وابنُ سِيرينَ ــ رحمه الله ــ مِن التابعينَ تلامذةِ الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ، ولا يُعرَفُ عن غيرِه مِن التابعينَ خلاف.
الثاني: أنَّ الشَّريعةَ قد جعلَت لهُم نوعُ مُشاركةٍ في الأضحيةِ مع المُضحِّي، وهي المشاركةُ في الثواب، فيَشترِكونَ معَه في حُكم ترْكِ الأخْذ.
الثالث: أنَّ الجميعَ في الشَّرعِ والعُرْفِ مُضحُّون، ويُطلَق عليهم ذلك، فشُرِعَ لهم الإمساكُ وكُرِهَ لهم الأخْذ.
وقد دَلَّ على اعتبارِهم مُضَحِّين: ما صحَّ عن أبي أيوبٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه سُئلَ: كيفَ كانت الضحايا على عهدِ رسولِ الله ِصلى الله عليه وسلم؟ فقال: (( كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ )).
وصحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أضجَع أضحيتَه لِيذبحَها قال: (( بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ )).
نفعني اللهُ وإيَّاكم بما سمعتم، ووهَبَ لنَا مِن أزواجِنا وذُرِّياتِنا قُرَّةَ أعيُن، وأكرمَنا وإيَّاهم برضوانِه، والجنَّةِ، والنظرِ إليه في جنِّاتِ النَّعيم، إنَّه كريم رحيم.
المجلس السابع / عن مشروعيةِ الأضحية.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعدُ، أيُّها الإخوةُ الفُضَلاء ــ سلَّمكم الله ــ:
فإنَّ مِن العباداتِ الجليلةِ التي يَتأكَّدُ فِعلُها في آخِرِ يومٍ مِن أيَّامِ عَشر ذِي الحِجَّةِ الأولى، وهو يومُ عيدِ الأضحَى، ويومُ النَّحر:
التَّقرُّبَّ إلى اللهِ بذبحِ الأضاحي.
إذِ الأضحيةُ مِن أعظمِ شعائرِ الإسلام، وهيَ النُّسُّكُ العامُّ في جميعِ الأمصار، والنُّسُّكُ المَقرونُ بالصلاة، وهي مِن مِلَّةِ إبراهيم ــ عليه السلام ــ الذي أُمِرْنا باتِّباعِ مِلَّتِه، وهي مشروعةٌ بالسُّنَّةِ النَّبويةِ المُستفيضةِ، وبالقولِ والفِعلِ عنه صلى الله عليه وسلم، فقد ضَحَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وضَحَّى المسلمونَ معَه، بل وضَحَّى صلى الله عليه وسلم حتى في السَّفر، وأعطَى أصحابَه ــ رضي الله عنهم ــ غنمًا ليُضَحوا بها، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه ترَكَ الأضحيةَ قطُّ، فلا يَنبغي لِقادرٍ عليها ترْكُها.
وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للناسِ في خُطبةِ عيدِ الأضحِى مُعلِّمًا ومُرَغِّبًا: (( إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ، فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا )).
وصحَّ عن ثَوبانَ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِيَّتَهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا ثَوْبَانُ: أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ»، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ )).
وصحَّ عن عُقبةَ بنِ عامرٍ ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا )).
وأكثرُ أهلِ العلمِ مِن الصحابةِ، والتابعينَ، فمَن بعدَهم مِن الفقهاء على:
«أنَّ الأضحيةَ سُنَّةٌ مؤكَّدَةٌ لا واجبة».
واسْتُدِلَّ على كونِها سُنَّة مؤكَّدة لا واجبة بأمور عدَّة، مِنها:
أوَّلًا ــ ما صحَّ عن أمِّ سَلَمةَ ــ رضي الله عنها ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا )).
ووجْه الاستدلالِ مِن هذا الحديث:
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّق الأضحيةَ بإرادةِ المُضحِّي، والواجبُ لا يُعلَّقُ على الإرادة.
ثانيًا ــ بالآثارِ الواردةِ عن الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ في تَرْكِ الأضحيةِ مع اليَسَارِ والقُدرة، وتركُهم يَدُلُّ على عدمِ وجوبِها.
حيثً ثبَتَ عن حذيفةَ بنِ أَسِيدٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ــ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ــ وَمَا يُضَحِّيَانِ، مَخَافَةَ أَنْ يُسْتَنَّ بِهِمَا )).
وثبَتَ عن أبي مسعودٍ الأنصاري ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَدَعَ الْأُضْحِيَةَ، وَإِنِّي لَمِنْ أَيْسَرِكُمْ بِهَا، مَخَافَةَ أَنْ يُحْسَبَ أَنَّهَا حَتْمٌ وَاجِبٌ )).
وقال الإمامُ البخاريُ ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” في باب “سُنَّةِ الأُضحيَة” جازمًا:
«وقال ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ: (( هِيَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ ))».اهـ
وقال الفقيهُ ابنُ حزمٍ الظاهري ــ رحمه الله ــ:
«لا يَصحُّ عن أحدٍ مِن الصحابةِ أنَّ الأضحيةَ واجبة».اهـ
ومَن ضَحَّى وهو يَخشَى الفقرَ والحاجةَ، فليُبشِر بموعودِ اللهِ الحسنِ له، حيثُ يُخلِفُه عليه في الدنيا بالبَدَل، وفي الآخِرة بالجزاءِ والثوابِ الكثير، فقد قال سبحانه: { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ }.
وقال الحافظُ ابنُ عبد البَرِّ المالكي ــ رحمه الله ــ:
«ولم يأتِ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّه تَرَكَ الأضحيةَ، ونَدَبَ إليها، فلا يَنبغِي لِمُوسِرٍ ترْكها».اهـ
وثبَتَ عن أبي هُريرةَ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( مَن وَجَدَ سَعَةً فلم يُضَحِّ فلا يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنا )).
وتُستحَبُّ الأضحيةُ في السَّفر أيضًا عندَ أكثرِ الفقهاءِ:
لِمَا تقدَّم في حديثِ ثَوبانَ ــ رضي الله عنه ــ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى في السَّفر، وأخذَ يأكلُ مِن لحمِها حتى وصَلَ إلى المدينة.
هذا وأسألُ اللهَ أنْ يجعلَنا مفاتيحَ للخير، مَغاليقَ للشر، وأنْ يُحسِنَ لنَا الخِتامَ والخاتمة، ويتجاوزَ عن تتقصيرنا، ويُكرمَنا برضاهُ والجنَّةِ، إنَّه بَرٌّ رحيم.
المجلس الثامن / عن شيء مِن أحكامِ الأضحية.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعدُ، أيُّها الإخوةُ الفُضَلاء ــ سلَّمكم الله ــ:
فقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُّ فِي الدِّينِ )).
ودُونكم ــ سدَّدكمُ اللهُ ــ جملةً مِن الأحكامِ الفقهيةِ المُتعلِّقةِ بالأضحيةِ والمُضحِّي:
أولًا ــ الأضحيةُ لا تُجزأُ عندَ سائرِ العلماءِ إلا مِن هذه الأصنافِ الأربعة، وهي: الإبلُ، والبقرُ، والضَّأنُ، والمَعْزُ، ذُكورًا وإناثًا، كِباشًا ونِعاجًا، تُيوسًا ومَعْزًا.
ثانيًا ــ الأضحيةُ بشاةٍ كاملةٍ أو مَعْزٍ كاملةٍ تُجزِأُ عن الرِّجلِ وأهلِ بيتِه ولو كان بعضُهم مُتزوِّجًا، ما دام أنَّهم يَسكنونَ معَه في نفسِ البيت، وطعامُهم وشرابُهم مُشتَرَك بينَهم، لِمَا صحَّ عن أبي أيوبٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ )).
وأمَّا إذا كان لكلِّ واحدٍ مِنهم شَقةً مُنفردةً لهَا نفقة مُستقِلة، ومطبخها مُستقِل، فلَه أُضحيةٌ تخُصُّه.
ومَن كانوا يَسكنونَ معًا ــ كأبٍ وأبنائِه، أو إخوٍة، أو عُزَّابٍ في غُربَة ــ وأرادوا الأضحيةَ:
فإنَّه لا يَصِحُّ لهم الاشتراكُ في ثَمنِ الأضحية، بحيثُ يَدفع كلُ واحٍد مِنهم جزءٌ مِن ثمنِها، بل يُضحِّي أحدُهم مِن مالِه، ويُشرِكُهم معَه في الأجرِ بالنِّيَّة، وإنْ أحبَّ أحدٌ مِنهم أنْ يُساعدَه في مالِها مِن بابِ التَّبرُّعِ له لا المشاركة معَه في الأضحيةِ جازَ ذلك.
ثالثًا ــ يبدأُ أوَّلُ وقتِ الأضحيةِ: مِن ضُحَى يومِ العيدِ بعدَ الانتهاءِ مِن صلاتِه وخطبتِه، وسُمِّيَت الأُضحيةُ عليه.
وهذا الوقتُ هو أفضلُ أوقاتِ الذبح، لأنَّه الوقت الذي ذَبحَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُضحيتَه، ومَن ذبَحَها قبلَ صلاةِ العيدِ لم تُجزِئه، لِمَا صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ )).
وأمَّا مَن كان في مكانٍ لا تُقامُ فيه صلاةُ العيد، فإنَّه يَنتظرُ بعدَ طلوعِ شمسِ يومِ العيدِ وارتفاعِها قِيدَ رُمحٍ قَدْرَ صلاةِ العيدِ وخطبتِه، ثم يَذبحُ أضحيتَه.
وأمَّا آخِرُ وقتِ ذبحِ الأضاحِي فهو: غُروبُ شمسِ اليومِ الثاني مِن أيَّامِ التشريق.
فتكون أيَّامُ الذبحِ ثلاثة، يومُ العيدِ ويومانِ بعدَه، ــ يعني: اليومَ العاشرَ، واليومَ الحادي عشر، واليومَ الثاني عشرَ إلى غُروبِ شمسِه ــ.
وبهذا قال أكثرُ أهلِ العلمِ، وهو الثابتُ عن الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ.
وأمَّا مَن ذبحَ في اليومِ الأخيرِ مِن أيَّامِ التشريقِ وهو الثالثُ عشر:
فللعلماءِ ــ رحمهم الله ــ خلافٌ في إجزاءِ أُضحيتِه، وأكثرُهم على أنَّها لا تُجزِأ.
رابعًا ــ السُّنَّةُ في الأضحيةِ أنْ تكونَ سَليمةً مِن العُيوب.
ومِن العيوبِ التي لا تُجزِأُ عندَ جميعِ العلماءِ، أو أكثرِهم:
العمياءُ والعوراءُ البيِّنُ عورُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، ومقطوعةُ أو مكسورةُ الرِّجلِ أو اليدِ أو الظَّهرِ، والمَشلولةُ والعرجاءُ البيِّنُ عَرَجُها، والهزيلةُ الشديدةُ الهُزالِ، ومقطوعةُ الأُذنِ كلِّها أو مقطوعةُ أكثرِها أو التي خُلِقَت بلا أُذنين، والتي لا أسنانَ لهَا، والجَرباءُ، والمقطوعةُ الإليَة.
ومِن العيوبِ التي لا تُؤثرُ في صِحَّةِ وإجزاءِ الأضحية:
الأضحيةُ بما لا قَرْنَ له خِلقةً أو بمكسورِ القرْن، والمَخصِيّ مِن ذُكور الأضاحي، وما لا ذنَبَ له خِلقَة، والقطع اليسير أو الشَّقّ أو الكيّ في الأُذن.
وقد ثبَت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لَا يَجُوزُ مِنَ الضَّحَايَا: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي )).
وصحَّ: (( أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ــ رضي الله عنه ــ كَانَ يَتَّقِي مِنَ الضَّحَايَا وَالْبُدْنِ: الَّتِي لَمْ تُسِنَّ، وَالَّتِي نَقَصَ مِنْ خَلْقِهَا )).
خامسًا ــ المُستحَبُّ عندَ أكثرِ العلماءِ في لحمِ الأضحية:
أنْ يَتصدقَ المُضَحِّي بالثلث، ويَهديَ الثلث، ويأكلَ هو وأهله الثلث، لثبوتِ ذلك عن الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ.
وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال للناسِ في شأنِ لُحومِ الأضاحي: (( كُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا )).
فإنْ لم يأكل المُضَحِّي مِن أضحيتِه شيئًا، وأطعمَ الفقراءَ جميعَها جاز، وكان تاركًا للأفضلِ والمَسنون، وكذلك مَن أولَمَ عليها قرابتَه ولم يُعطِي مِنها الفقراء جازَ فعلِه، وكان مُقصِّرًا وتاركًا للأفضلِ والمَسنون، وفاتَه أجرٌ عظيم.
ويجوزُ أنْ يُعطَى الكافرُ مِن لحمِ الأضحيةِ عندَ أكثرِ العلماءِ، لاسيَّما إنْ كان جارًا، أو لِتأليفِ قلبِه على الإسلام، أو دفعًا لِشرِّه وأذاه.
سادسًا ــ مَن ضَحَّى بالغنمِ، فالأفضلُ مِنها ما كان موافقًا لأضحيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن جميعِ الجهات، ثم الأقرب مِنها، وقد صحَّ عن أنسٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ )).
والأملحُ هو: الأبيضُ الذي يَشوبُه شيءٌ مِن السوادِ في أظلافِه وبينَ عينيهِ ومَبَارِكِه.
ويُستحَبُّ أنْ تكونَ الأضحيةُ سَمينَة، لِمَا ثبتَ عن سَهلِ بنِ حُنَيفِ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ )).
سابعًا ــ الأضحيةُ مِن جهةِ السِّنِ تنقسمُ إلى قسمين:
القِسمُ الأوَّل: الإبلُ والبقرُ والمَعْز.
وهذهِ الأصنافُ الثلاثة قد اتفقَ العلماءُ على أنَّه لا يُجزِأُ مِنها في الأضحيةِ إلا الثَّنِيُّ فما فوق.
والثَّنِيُّ مِن المَعْز: ما أتمَّ سَنَةً ودخلَ في الثانية، ومِن البقرِ: ما أتمَّ سنتين ودخلَ في الثالثة، ومِن الإبلِ: ما أتمَّ خمسَ سنين ودخلَ في السادسة.
القِسمُ الثاني: الضأنُ مِن الغَنم.
ولا يُجزِأُ مِنه إلا الجَذَعُ فما فوق عندَ سائرِ أهلِ العلم.
والجَذَعُ على الأصحِّ: ما أتمَّ سِتَّةَ أشهرٍ، ودخلَ في الشهرِ السابعِ فما فوق.
نفعني اللهُ وإيَّاكم بما سمعتم، وزادنا فقهًا في دِينه، والحمد لله ربِّ العالمين، وسلامٌ على المرسَلين.
المجلس التاسع (1) / عن شيءٍ مِن أحكامِ عيدِ الأضحى.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعدُ، أيُّها الإخوةُ الفُضَلاءُ ــ سلَّمكم الله ــ:
فإنَّكُم على مشارفِ عيدِ المسلمينَ الثاني، وهو عيدُ الأضحَى، وإنَّه يُشرَعُ لكم فيه عدَّة أمور:
الأوَّل: أداءُ صلاةِ العيد.
وصلاةُ العيدِ مِن أعظمِ شعائرِ الإسلامِ في هذا اليوم، وقد صلَّاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وداومَ على فِعلِها هو وخُلفاؤُه وأصحابُه ــ رضي الله عنهم ــ، والمسلمونَ في زمنِه وبعدَ زمنِه، ولم يأتِ عنهم ترْكُها في عيدٍ مِن الأعياد، وقد صحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ ــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ــ، فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الخُطْبَةِ )).
بل حتى النساء كُنَّ يَشهدنَها في عهدِه صلى الله عليه وسلم وبأمرِه، فصحِّ عن أمُّ عطيَّةَ ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ )).
إلا أنَّ المَرأةَ إذا خرجَت لأداءِ صلاةِ العيدِ فلا تَخرُج مُتطيبةً، ولا مُتزيِّنةً، ولا سافرةً بغيرِ حِجاب، فإذا خرجَت على هذهِ الصِّفةِ فقد جمَعَت بينَ فِعلِ السُّنَّة، واجتنابِ الفِتنة.
ومَن فاتتهُ صلاةُ العيدِ أو أدرَكَ الإمامَ في التشهدِ: قضَاها على نفسِ صِفتِها المشهورةِ في الأحاديثِ النَّبويةِ الصَّحيحة، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء.
الثاني: الاغتسالُ للعيدِ، والتجمُّلُ فيه بأحسنِ الثياب، والتَّطيِّبُ بأطيبِ ما يَجدُ مِن الطِّيب.
حيثُ ثبَتَ عن ابنِ عمر ــ رضي الله عنه ــ في يوم العيد أنَّه: (( كَانَ يَشْهَدُ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ فَيَغْتَسِلُ غُسْلَهُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَيَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ مَا عِنْدَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى فَيَجْلِسُ فِيهِ حَتَّى يَجِيءُ الْإِمَامُ, فَإِذَا جَاءَ الْإِمَامُ صَلَّى مَعَهُ )).
وقال الفقيهُ أبو زكريا النَّوويُ الشافعيُ ــ رحمه الله ــ:
«ومِن الغُسلِ المَسنونِ: غُسلُ العيدينِ، وهو سُنَّةٌ لكلٍ أحدٍ بالاتفاق، سواءٌ الرِّجالُ والنِّساءُ والصِّبيان، لأنَّه يُرادُ للزِّينةِ، وكلُّهم مِن أهلِها، بخلافِ الجُمعة، فإنَّه لِقطعِ الرائحةِ، فاختُصَّ بحاضرِها على الصَّحيح».اهـ
وقال الحافظُ ابنُ رجبٍ الحنبلي ــ رحمه الله ــ:
«ولا خلافَ بينَ العلماءَ في استحبابِ لبسِ أجودِ الثياب لِشهودِ الجُمعةِ والأعياد».اهـ
وقال الإمامُ الشافعيُ ــ رحمه الله ــ:
«ويَلبسُ الصِّبيانُ أحسنَ ما يَقدرونَ عليه ذُكورًا وإناثًا».اهـ
وقال الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ ــ رحمه الله ــ:
«سمعتُ أهلَ العلمِ يَستحِبُّونَ الزِّينةَ والتَّطيبَ في كلِّ عيد».اهـ
الثالث: أنْ لا تَطعَموا شيئًا مِن الأكلِ بعدَ أذانِ الفجرِ مِن يوم عيد الأضحى حتى تَرجعوا مِن صلاةِ العيد.
حيثُ ثبَتَ عن ابنِ المُسيّبِ وهو مِن التابعينَ تلامذةِ الصحابة ــ رحمه الله ــ أنـَّه قال: (( كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَأْكُلُونَ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ )).
وقال الفقيهُ ابنُ رُشدٍ الحَفيد المالكي ــ رحمه الله ــ:
«وأجمعوا ــ أي: العلماء ــ على أنـَّه يُستحَبُّ أنْ يُفطِرَ في عيدِ الفِطرِ قبل الغُدوِّ إلى المُصَلَّى، وأنْ لا يُفطِرَ يومَ الأضحَى إلَّا بعدَ الانصرافِ مِن الصَّلاة».اهـ
الرابع: إظهارُ التكبيرِ مع الجهرِ بِه: “اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، وللهِ الحمد”، مِن حين الخروجِ إلى صلاةِ العيد حتى يأتيَ الإمامُ ليُصَليَّ بالناسِ صلاةَ العيد.
وأمَّا النِّساء، فلا يَجهرنَ إذا كُنَّ بحضرةِ رجالٍ أو كانت أصواتُهنَّ تَصِلُ إليهم، ويَخفِضن.
وثبتَ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ: (( أنـَّه كان إذا غدَا يوم الأضحى ويوم الفطر، يجهرُ بالتَّكبير حتَّى يأتي المصلَّى، ثمَّ يكبِّر حتَّى يأتي الإمام )).
وقال الحافظُ ابنُ رجبٍ الحنبلي ــ رحمه الله ــ:
«يُشرَعُ إظهارُ التَّكبيرِ في الخروجِ إلى العيدينِ في الأمصارِ، وهو إجماعٌ مِن العلماءِ، ولا يُعلمُ بينَهم خلافٌ في عيدِ النَّحر».اهـ
ومَن كبَّرَ أيَّامَ عشرِ ذِي الحِجَّةِ الأُولى، ويومَ عيدِ الفِطر، ويومَ عيدِ الأضحَى، وأيَّامَ التشريق:
فإنَّه يُكبِّرُ لِوحدِه، وأمَّا التكبيرُ الجماعِيُّ مع الناسِ بصوتٍ مُتوافقٍ في ألفاظِ التكبير، بحيثُ يَبتدئونَ وينتهونَ سَويًّا، فلا يُعرفُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِه ــ رضي الله عنهم ــ، ولا عن التابعين.
هذا وأسأل الله َتعالى أنْ يوفِّقَنا لمعرفة الحق واتِّباعِه، ومعرفةِ الباطل واجتنابِه، وأنْ يهدينَا الصراطَ المستقيم، اللهم تجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، واغفر لنَا ولوالدِينا وجميعِ أهلينا، إنَّك سميعٌ مُجيب.
المجلس العاشر (2) / عن شيء مِن أحكامِ عيدِ الأضحى.
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الصادق الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعدُ، أيُّها الإخوةُ الفُضَلاءُ ــ سلَّمكم الله ــ:
فإنَّكُم على مشارفِ عيدِ المسلمينَ الثاني، وهو عيدُ الأضحَى، وإنَّه يُشرَعُ لكم فيه مع ما تقدَّمَ في الدرسِ السابقِ أيضًا عدَّةُ أمور:
الأوَّل: أنْ تذهبوا إلى صلاةِ العيدِ مشيًا، وأنْ يكونَ ذهابُكم إلى مُصلَّى العيدِ مِن طريقِ، ورجوعُكم مِن طريقٍ آخَر.
وذلك لِمَا صحَّ عن جابر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ )).
وقال الفقيهُ ابنُ رُشد الحفيد المالكي ــ رحمه الله ــ:
«وأجمعوا ــ أي: العلماء ــ على أنَّه يُستحبُّ أنْ يَرجعَ مِن غيرِ الطريقِ التي مشَى عليها، لثبوتِ ذلكَ مِن فِعلِه ــ عليه الصلاةُ والسلام ــ ».اهـ
وثبتَ عن زِرِّ بن حُبيشٍ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي يَوْمِ فِطْرٍ أَوْ فِي يَوْمِ أَضْحَى فِي ثَوْبِ قُطْنٍ مُتَلَبِّبًا بِهِ يَمْشِي )).
وثبتَ عن ابن بُرقان ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْعِيدَ مَاشِيًا فَلْيَفْعَلْ )).
وقال الإمامُ التِّرمذيُ ــ رحمه الله ــ:
«أكثرُ أهلِ العلمِ يَستحِبُّونَ أنْ يَخرجَ الرَّجلُ إلى العيدِ ماشيًا».اهـ
الثاني: رفعُ اليدينِ إلى حَذوِ المنكِبينِ أو فُروعِ الأُذُنينِ مع التكبيراتِ الزوائدِ مِن صلاةِ العيد، في أوَّلِ الركعةِ الأولى بعدَ تكبيرةِ الإحرام، وأوَّلِ الركعةِ الثانيةِ بعدَ تكبيرةِ القِيامِ، وقبلَ القراءة.
حيثُ قال الإمامُ ابن قيِّمِ الجَوزيةِ ــ رحمه الله ــ:
«ثبتَ عن الصحابةِ رفعُ اليدينِ في تكبيراتِ العيدين».اهـ
وقال الإمامُ البغويُ الشافعيُ ــ رحمه الله ــ:
«ورَفعُ اليدينِ في تكبيراتِ العيدِ سُنَّةٌ عندَ أكثرِ أهلِ العلم».اهـ
الثالث: الجلوسُ لِسماعِ خطبةِ العيدِ حتى تَنتهِي.
ويَنبغي أنْ لا نَنشغِل عن سماعِها بشيءِ، كالانشغالِ بالتهنئةِ بالعيدِ، أو رسائلِ الهاتفِ الجوالِ ومكالماتِه، أو مُعانقةِ الحاضرينَ، أو الكلامِ مع الغيرِ، لِـمَا في ذلك مِن الانشغالِ عن الانتفاعِ بالخطبةِ، والتَّشويشِ على المُستمعينَ، والإخلالِ بأدبِ حُضورِ مجالسش العلمِ والذِّكر.
وقد قال الفقيهُ ابنُ بطَّالٍ المالكي ــ رحمه الله ــ:
«وكَرِهَ العلماءُ كلامَ النَّاسِ والإمامُ يَخطُب».اهـ
وصحَّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ، وَيُوصِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ )).
الرابع: تهنئةُ الأهلِ والقَرابةِ والأصحابِ والجيرانِ بالعيد، في يومِه، بعدَ صلاتِه، بطيِّبِ الكلامِ وأعذبِه.
وأفضلُ ما يُقالُ مِن صِيغِ التهنئةِ: «تقبَّلَ اللهُ مِنَّا ومِنك»، لثبوتِها عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
وقد قال الإمامُ الآجُرِيُّ ــ رحمه الله ــ عن التهنئةِ بالعيدِ، إنَّها:
«فِعلُ الصحابةِ، وقولُ العلماء».اهـ
وثبتَ: (( أَنَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَوا إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ )).
واعلموا ــ سدَّدكم الله ــ:
ــــ أنَّه لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يصومَ يومَ عيدِ الأضحَى ويومَ عيدِ الفطرِ وأيَّامَ التشريقِ، لا لِمُتطوِّعٍ بالصيام، ولا لِناذِرٍ، ولا لِقاضٍ فرضًا، ولا لِحاجٍّ، ولا لغيرِهم، لثبوتِ التحريمِ بالسُّنَّةِ النَّبوية واتفاقِ العلماء، وقد صحَّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ وَالنَّحْرِ )).
ــــ ويجوزُ للحاجِّ المُتمتِّعِ الذي لم يَجد هديًا أنْ يصومَ أيَّامَ التشريقِ، لثبوتِ ذلك في السُّنَّة النبوية.
وأيَّامُ التَّشريقِ هي: الأيَّامُ الثلاثةُ التي بعدَ يومِ عيدِ الأضحَى ــ يَعني: اليومَ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر ــ.
وهذه الأيـَّامُ لا يجوز صيامُها لا تطوعًا ولا فرْضًا إلا لِمَن لم يَجد الـهَدْي، عندِ أكثرِ العلماءِ، لِـمَا صحَّ عن عائشةَ وابنِ عمرَ ــ رضي الله عنهما ــ أنـَّهما قالا: (( لم يُرَخَّص في أيام التَّشريق أن يُصَمْنَ إلَّا لمن لم يجد الـهَدْي )).
واعلموا أيضًا:
أنَّه لا عيدَ للمسلمينَ إلا عيدانَ، عيدُ الفطرِ، وعيدُ الأضحى، فلا عيدَ ميلادٍ، ولا عيدَ ثورةٍ، ولا عيدَ أُمٍّ، ولا عيدَ حُبٍّ، ولا غيرها.
وقد قال العلامةُ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ــ رحمه الله ــ:
«إنَّ جنسَ العيدِ: الأصلُ فيه أنـَّه عبادةٌ وقُربةٌ إلى الله تعالى».اهـ
والقُرَبُ والعباداتُ لا تُؤخذُ إلا مِن نصوصِ الشريعة.
وقد ثبتَ عن أنس ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ )).
وقال العلَّامة العُثيمين ــ رحمه الله ــ عقبَ هذا الحديث:
«وهذا يَدلُّ على أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّ أنْ تُحِدِثَ أُمـَّته أعيادًا سوى الأعيادِ الشَّرعيةِ التي شرَعَها اللهُ ــ عزَّ وجلّ ــ».اهـ
هذا وأسأل اللهَ تعالى أنْ يُبارِك لنَا في أعمارنا وأعمالنا وأقواتنا وأوقاتنا وأهلينا وأولادنا، اللهم وسِّع علينا وعليهم في الأمْن والرِّزق والعافية، إنَّك سميعُ الدعاء.
الفهارس
المُقدِّمة:
[ صفحة: 2 ]
المجلس الأوَّل / عن فضل أيَّام عشر شهر ذي الحِجَّة الأُوَل.
[ مِن صفحة: 3 ــ 5 ]
المجلس الثاني / عن الترغيب في الاجتهاد بالطاعات والإكثار مِنها أيَّام عشر شهر ذي الحِجَّة الأُولى.
[ مِن صفحة: 5 ــ 7 ]
المجلس الثالث / عن الترغيب في صيام عشرِ شهرِ ذي الحِجَّة الأُوَل، ويوم عرفة، وتكبير الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في العشر.
[ مِن صفحة: 7 ــ 9 ]
المجلس الرابع / عن ظُلم الإنسانِ نفسَه أيَّام العشر بفِعل السَّيئات والقبائح، وولوج المُنكرات.
[ مِن صفحة: 9 ــ 11 ]
المجلس الخامس / عن التكبير في أيَّام عشر ذي الحِجَّة الأولى، ويوم النَّحر، وأيَّام التشريق.
[ مِن صفحة: 11 ــ 14 ]
المجلس السادس / عن حُكم أخْذِ المُضحِّي مِن شعرِه وأظفارِه وجلدِه في أيَّام العشر، وقبل ذبح أُضحيتِه.
[ مِن صفحة: 14 ــ 16 ]
المجلس السابع / عن مشروعية الأضحية.
[ مِن صفحة: 16 ــ 18 ]
المجلس الثامن / عن شيء مِن أحكام الأضحية.
[ مِن صفحة: 18 ــ 22 ]
المجلس التاسع (1) / عن شيء مِن أحكام عيد الأضحى.
[ مِن صفحة: 22 ــ 24 ]
المجلس العاشر (2) / عن شيء مِن أحكام عيد الأضحى.
[ مِن صفحة: 24 ــ 27 ]
الفهارس.
[ مِن صفحة: 28 ــ 29 ]