إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > التربية > خطبة مكتوبة بعنوان: ” تراحموا فإنه من يَرحم يُرحم ” نسخة الموقع مع ملف: [word].

خطبة مكتوبة بعنوان: ” تراحموا فإنه من يَرحم يُرحم ” نسخة الموقع مع ملف: [word].

  • 22 يوليو 2021
  • 5٬111
  • إدارة الموقع

 

تراحموا فإنه من يرحم يرحم

تراحموا فإنه من يَرحم يُرحم

الخطبة الأولى:ــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الراحمِ عبادَهُ بالإنعامِ بالخيرات، والُّلطفِ بِهم فيما دَهَمَ مِن مُصيبَات، والإمدادِ لهُم بالصبرِ واللجوءِ وعظيمِ الدَّعوات، والإكرامِ للمؤمنينَ مِنهُم بجزيلِ الأُجورِ والرِّضَى والجنَّات، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ رازِقُ جميعِ المخلوقات، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ بالرحمة والتيسيرات، والتشريعاتِ النَّيِّرات، اللهم فصلِّ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ حشرِ البريَّات.

أمَّا بعدُ، فيَا عبادَ الله:

إنَّنَا معاشرَ أهلِ الإسلامِ على اختلاف ألوانِنا وأجناسِنا وبلدانِنا وأعمارِنا في حاجةٍ كبيرةٍ إلى أنْ نتراحمَ فيما بينَنا كثيرًا، وأنْ يَرحمَ بعضُنا بعضًا شديدًا، وأنْ نكونَ مِن الرُّحماء، وتَمتلئَ قلوبُنا بالرَّحمة، لأنَّ هذا وصْفُ أهلِ الإيمان، وسبيلُ المُتقينَ الأبرار، حيث صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )).

وبهذا وصَفَ اللهُ النبيَّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه ــ رضي الله عنهم ــ، فقال ــ جلَّ وعزَّ ــ: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }.

ورحمتُنا لبعضٍ سببٌ لِرحمةِ اللهِ لنَا وبِنا دُنيا وآخِرة، لِمَا ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ، ارْحَمُوا تُرْحَمُوا )).

عبادَ الله:

إنَّ الرَّحمةَ مِن أعظمِ خصالِ القلب، وأجملِ خِلاله، وأجلِّ مزاياه، وأشرقِ سجاياه، فهي تجعلُ المَرءَ يَرِقّ لآلامِ غيرِه وكأنَّها نازلةٌ بِه، فيَسعَى لإزالتِها عنهم أو تخفيفِها قدْرَ استطاعتِه، فإنْ عجَزَ عن ذلك تألَّمَ لهم ومعَهم، وتجعلُه يَسعَى في سَدِّ عيوبِهم وسترِها كما يَفعلُ مع عُيوبِه وعثَرَاتِه، ويَتمنَّى كمالَهم وصلاحَهم والتوسِعَة لهم كما يتمنَّاهُ لنفسِه ومَن يَعول، وتجعلُه لا يَيأسُ مِن هدايتِهم واستقامتِهم، ويبذُلُ جُهدَهُ لِصلاحِهم وسدادِهم، ولهذا لمَّا أخذّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنًا لإحدَى بناتِه ونفسُه تُقعقِعُ بالموت، صحَّ أنَّ عيناهُ الكريمتانِ فاضَتا بالدَّمع، فقيل له: ما هذا يا رسولَ الله، فقال: (( هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ )).

بل وتبرَّأَ صلى الله عليه وسلم مِمَّن لا يَرحمونَ الناس، فثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا )).

ومَن لم يكن رحيمًا فقد هلَك، وحلَّ بِه الخُسران، حيثُ ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ )).

عبادَ الله:

إنَّ أحوجَ الخلقِ إلى الرَّحمةِ والشَّفقةِ والعطفِ والحنَان وإظهارِه لهم بالقولِ والفعلِ هُمْ أقرَبُ الناسِ إلينا، وأوَّلُهم أُصُولُنا، وهُمُ: الوالدُ والوالدة، لاسيَّما إذا كَبِرا وضَعُفَت قُواهُما، رَدًّا لِمعروفِهما بِنا الكثيرِ المُتتابع، وامتثالًا لأمْرِ ربِّنا سبحانه: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }.

وبَعْدَ الوالدينِ فُروعُنا، وهُمُ: الأبناءُ والبنات، فقد صحَّ عن أنس – رضي الله عنه – أنَّه قال: (( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))، بل إنْ تقبيلَهم مِن آثار الرَّحمة ومظاهِرها التي يَحسُّونَها، حيث صحَّ أنَّه: (( قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أوَ وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ ))، وصحَّ أنَّ (( رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ )).

وانظروا – سلَّمكم اللهُ – إلى رحمةِ هذهِ الأُمِّ المَسكينةِ بِبنْتَيها بتقديمِ اطعامِهِما على نفسِها بتمرةٍ مِن نَصيبِها، وكيف كافئَها اللهُ على ذلك، حيثُ صحَّ عن عائشة – رضي الله عنها – أنَّها قالت: (( جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ )).

عِبادَ الله:

إنَّ مَن حولَكُم ومَن تحتَ أيديِكُم ومَن تَعولونَ لَفِي حاجةٍ شديدةٍ إلى كَنَفٍ ليِّنٍ رحيم، ورِعايةٍ حانِيةٍ لطيفةٍ رفيقة، وعطفٍ ملموسٍ يُثمِر، وشفقةٍ غيرِ ممنونَة، وحنانٍ لا يَضيقُ بجهلِهم وخطأِهِم، ومحبَّة يشعرونَ بآثارِها، لِيُخفِّفَ ذلكَ مِن آلامِهم، ويُزيلُ أحزانَهم، ويُجمِّلُ طِباعَهم، ويُهذِّبُ نفوسَهم، ويَكبَحُ جِماحَ عُدوانِهم وعداوتِهم وكُرهِهم، ويَجعلُهم يقتدونَ بأهلِها فيها ويَودُّونَهم، في حاجةٍ شديدةٍ إلى قلبٍ واسعٍ كبيرٍ سهلٍ ليِّنٍ رقيقٍ عطوفٍ يمنَحُهم ويُعطِيهِم ويرحمُهم دونَ انتظارِ مكافئتِهم ورَدِّ جميلِ الإحسانِ إليهِم، إلى قلبٍ يَحملُ هُمومَهم، ولا يُثقِلُهم بهُمومِه.

فانتبهوا ــ سلَّمكمُ اللهُ ــ لذلكَ وتنبَّهوا، ولا تغفَلوا عنه، أو تتغافلوا.

والإنسانُ الجليلُ الطيِّبُ المُوقَّرُ يتميّزُ بقلبِه ورُوحِه، فبالرُّوحِ والقلبِ يَعِش ويَشْعُر، ويَنفعِل ويتأثَّر، ويَرحَم ويتألَّم، ويَرفِق ويَلِين، ويَعطِف ويُشفِق.

والمؤمنُ قويُّ الإيمانِ يتميَّزُ عن غيرِه بقلبٍ حيٍّ مُرهَفٍ ليِّنٍ رحيمٍ عطُوف، يَرقُّ للضعيفِ والصغيرِ والمُسِنِّ والمريضِ والمنكوب، ويألَمُ للحزينِ الوَجِع، ويَحِنُّ على المسكينِ ذِي المَتْرَبَة، ويَشْعَرُ بِضِيقِ ومُصابِ الآخَرِين، قلبٍ يجعلُه يَمدُّ يدَهُ سريعًا إلى الملهوف، ويَنفِرُ مِن الإيذاءِ والظلمِ والبَغْي، ويَكرَهُ الإجرامَ والعُدوان، ويَستصلِحُ ما استطاعَ في نفعِ وهدايةِ الخلقِ دومًا وباستمرار، فهو مصدَرُ خيرٍ وبِرٍّ وسلامٍ ونفعٍ لِمَا حولَه، ولِمَن حولَه وتحتَ يدِه، وعلى كلِّ حال، وفي كلِّ وقتٍ وحين.

وسبحانَ اللهِ وبحمدِه، رحمنِ الدُّنيا والآخِرةِ ورحيمِهما.

الخطبة الثانية:ــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا الأمين، وصحابتِه المَيامِين.

أمَّا بعدُ، فيَا عبادَ الله:

اتقوا اللهَ ربَّكم حقَّ تقواه، وكونوا مِن عبادِه المُتقينَ الرحماءِ تُفلِحوا وتَسعَدوا في دُنياكم وأُخرَاكم، وتُذكَروا بالخيرِ في حياتِكم وبعدَ مماتِكم، وتكونوا قُدوةً صالحةً لأبنائِكم وبناتِكم وقرابتِكم.

واعلموا ــ سدَّدكمُ  اللهُ ــ أنَّ مِن أعظم وأعلى شُعب التقوى وخِصال المُتقين:

أنْ تكونوا مِن المتواصِينَ برحمةِ الناس، ومِن أهلِ مَرحمَتِهم، وأنْ تتواصَوا بالرحمةِ والمَرحَمةِ مع أهليِكم، وقرابتِكم، وجيرانِكم، وأصحابِكم، ومَن تحتَ أيديِكم أو معَكم مِن موظفينَ وعمالَ وخَدمٍ ومُراجعينَ وزُملاء، وعمومِ الناس.

ولا تَغفلوا أو تتغافلوا عن رحمةِ ومرحَمةِ ضُعفاء المسلمينَ، كأيتامِهم، وأرامِلهم، ومساكينِهم، وذِي الشَّيِّبَة الهَرِم مِنهم، والمريضِ العاجزِ المُقعَد، فتلكَ العقبةُ الكئُودُ فاقتحِموها، لتكونوا مِن أصحابٍ اليمين، الذينَ يُؤخذُ بِهم يومَ القيامةِ ذاتَ اليمينِ إلى الجنَّة، إذ يقول ربُّكم سبحانَه مُحرِّضًا لكم: { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }، فالضعفاءُ مِن أعظمِ أسبابِ رِزقِ الخلق، والانتصارِ على الأعداءِ في الحروب، بدعوتِهم وصلاتِهم وإخلاصِهم، إذ هُم أشدُّ إخلاصًا في الدعاء، وأكثرُ خشوعًا في العبادة، لِخلاءِ قلوبِهم عن التعلُّقِ بِزُخْرُفِ الدنيا، وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( ابْغُونِي الضُّعَفَاءَ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ ))، وصحَّ أنَّ رجلًا مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظنَّ أنَّ لَه فضلًا على غيرِه في انتصارِ المسلمينَ في إحدَى الغزواتِ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ )).

اللهمَّ يا رحمنَ الدنيا والآخِرةِ ورحيمَهما ارحمنا رحمةً تُغنينَا بها عن رحمةِ مَن سواك، وارحمنا بتركِ الشركياتِ والبدعِ المعاصي أبدًا ما أبقيتَنا، وارزُقنا حُسنَ النَّظرِ والعملِ فيما يُرضيكَ عنَّا، اللهم أكرمنا بذكركَ آناءَ الليلِ والنهار، ومُنَّ علينا بالتوبةِ والإنابةِ والخشية، وتجاوز عن تقصيرِنا وسيئاتِنا، واجعلنا وأهلينا مِن المَرحومينَ في الدنيا والآخِرة، واغفر لنَا ولوالِدِينا وجميعِ أهلينا والمؤمنين، اللهمَّ وفِّق ولاتَنا ونُوَّابَهم وجُندَهم وكافة عُمَّالِهم لرحمةِ الناس ومرحَمتهم، ونُصرةِ دِينِهمُ الإسلام، وحِفظِ بلادهم، اللهمَّ ارحمِ المسلمينَ بدعاءِ مساكينِهم وضعفائِهم وأيتامِهم وصالِحيهِم، ربنَّا أتِنا مِن لدُنكَ رحمة، وهيئ لنَا مِن أمرِنا رشَدًا، وأقولُ قولي هذا، وأستغفرُ  الله لي ولكم.