أحكام التوسل ومعناه بين أهل السُّنة وبين أهل البدع والهواء
أحكام التوسل ومعناه بين أهل السُّنة وبين أهل البدع والأهواء
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ مُخفِّفِ البلايا، ومُفَرِّجِ الشدائد، المُكرِمِ مَن شاءَ بالصبرِ والاحتساب، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المُستغيثُ بربِّه وحدَه، فصلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فإنَّ مِن الفوارقِ المُهمَّةِ التي يَنبغِي أنْ تُعرَفَ وتُفقَهَ في بابِ العقيدةِ والاعتقادِ بينَ السَّلفِ الصالحِ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ والحديث، وبينَ الشِّيعةِ الرافضةِ والصوفيةِ الطُّرُقِيَّةِ: «مسألة التَّوَسُّل».
فالتَّوَسُّلُ عندَ السَّلفِ الصالحِ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ والحديثِ له ثلاثُ مَعانٍ صحيحة، دلَّت عليهما نُصوصُ الشريعة:
فالمعنَى الصَّحيح الأوَّل للتوسُّلِ هو: التَّقَرُّبُ إلى الله بالطاعاتِ الواجبةِ والمُستحبَّةِ التي جاءت في القرآنِ وصحيحِ أحاديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وهذا المَعنَى للتوسلِ مُتَّفَقٌ عليهِ بينَ العلماء، لا اختلافَ فيه بينَهم.
وقد قال اللهُ تعالى في تقريرِه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ }، وقال سبحانه: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ }.
فمعنَى قولِه تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي: تقرَّبوا إليه سبحانَه بالعباداتِ الواجبةِ والمُستحبَّةِ الواردةِ في القرآنِ والأحاديثِ النَّبويةِ الثابتَة.
وقولُه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} إخبارٌ مِنه سبحانَه بأنَّ الصالحينَ مِن عِبادِه لا يَصرفونَ عبادةَ الدعاءِ إلا لَه وحدَه، لأنَّ الدعاءَ وغيرَه مِن العبادات وسِيلَةُ قٌربِهم مِن ربِّهمُ الوحيدة.
وقد نَقلَ اتفاقَ المُفسِّرينَ وغيرِهم على هذا المَعنَى للتوسلِ عديدٌ مِن العلماءِ مِن مُختلِفِ البُلدانِ والأزمان.
وأمَّا المَعنَى الصَّحيح الثاني للتوسُّل فهو: طلبُ الدعاءِ مِن الغَير.
ويَدلُّ على هذا المَعنَى مِن آثارِ الصحابةِ الصَّحيحةِ: طلبُ عمرَ بنِ الخطابِ ــ رضي الله عنه ــ مِن العباسِ بنِ عبدِ المُطَّلِب ــ رضي الله عنه ــ عمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يدعوَ اللهَ للمسلمين بإنزالِ المطرِ عليهم، حيثُ أخرجَ البخاريُّ عن أنسٍ ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا» قَالَ: فَيُسْقَوْنَ )).
ومَعنَى قولِ أنسٍ ــ رضي الله عنه ــ: ((اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ )) أي: طلبَ مِنه أنْ يدعوَ اللهَ لهُم بأنْ يَسقيَهمُ المطرَ، وهُم يُؤمِّنون على دعائِه.
ومعنَى قولِ عمرَ ــ رضي الله عنه ــ الأوَّل: (( اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْقِينَا ))، أي: اللهمَّ إنَّا كنَّا نَقصِدُ نبيَّك محمدًا صلى الله عليه وسلم في حياتِه فنطلبَ مِنه أنْ يَدعوَكَ لنَا أنْ تَسقِينا المطر.
ومَعنَى قولِ عمرَ ــ رضي الله عنه ــ الثاني: (( وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا )) أي: في هذا الزَّمَنِ بعدَ وفاةِ نبيِّكَ صلى الله عليه وسلم نطلبُ مِن العباسِ عمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَتقدَّمَنَا فيَدعوَكَ لنَا بأنْ تَسقِينَا المطر، لأنَّ نبيَّكَ الذي كان يَدعو لنَا بأنْ تُغِيثَنَا بالمطرِ ليسَ بموجودٍ، لأنَّه قد مات.
وقد بيَّنَ قاضِي مكةَ الزُّبيرُ بنُ بكَّارٍ القُرشي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الأنساب”: صِفةَ ما دعا بِه العباسُ في هذهِ الواقعةِ، فأخرجَ بإسنادٍ لَه أنَّ العباسَ لمَّا استَسقَى بِهِ عمر، قال: (( اللهمَّ إنَّه لم يَنزلْ بلاءٌ إلا بذنْب، ولم يُكشَف إلا بتوبة، وقد توجّهَ القومُ بي إليكَ لِمكاني مِن نبيِّك، وهذهِ أيدِيِنا إليكَ بالذُّنوب، ونواصِينَا إليكَ بالتوبة، فاسقِنا الغيث )).
فأكَّدَتْ روايةُ ابنُ بكَّارٍ هذهِ أيضًا: أنَّ توسُّلَهُم واستسقاءَهُم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبالعباسِ ــ رضي الله عنه ــ إنَّما هو: دعاؤُهما اللهَ للناسِ بإنزالِ المطرِ عليهِم، وتأمِينُ الناسِ على دعائِهما.
ويُؤكِّدُ معنَى التوسلِ هذا أكثر: طلبُ الأعرابيِّ مِن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يدعوَ اللهَ للناسِ بأنْ يُنزِلَ عليهمُ المطر، حيثُ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عن أنسٍ ــ رضي الله عنه ــ: (( َنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِثْنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا، اللهُمَّ أَغِثْنَا»، قَالَ أَنَسٌ: “فَطَلَعَتْ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ)).
والمَعنَى الثالث الصَّحيح للتوسُّل هو: دعاءُ اللهِ بذكرِ أشياء تُقوِّي إجابةَ الدعاءِ دلَّت عليها آياتُ القرآنِ أو أحاديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحة.
وهذا التَّوَسُّل على نوعين:
النوعُ الأوَّل: دعاءُ اللهِ بأسمائِه وصفاتِه.
ويَدُلُّ على هذا النَّوع: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، ودعاءُ سليمانَ ــ عليه السلام ــ ربَّه في سورةِ “النَّمل”: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}، فتوسَّلَ في دعائِه هذا بصفةِ الرَّحمة لله سبحانَه.
ويدُل عليه أيضًا: الحديث الصَّحيح: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» ))، وما أخرجَهُ البخاريُّ في دعاءِ الاستخارةِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ))، فتوسَّلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه في استخارتِه ودعائِه فيها بِصفَتَيِّ العلمِ والقُدرةِ للهِ ــ جلَّ وعلا ــ.
النَّوعُ الثاني: دعاءُ اللهِ بأعمالِ العبدِ وعباداتِه الصالحةِ التي جاءت في نُصوصِ القرآنِ والسُّنةِ النَّبوية.
ويَدُلُّ على هذا النَّوع: إخبارُ اللهِ تعالى عن الصالحينَ مِن عبادِه أنَّهم يدعونَهُ فيقولون: { رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }، فتوسَّلَ الصالحونَ بأعظمِ طاعاتِهم، وهي: الإيمانُ بالله.
ويَدُلُّ عليه مِن الأحاديثِ النَّبوية: ما أخرجهُ البخاريُّ ومسلمٌ في قِصَّةِ الثلاثةِ الذينَ آوَاهُمُ المَبيتُ بالليلِ إلى غارٍ، ثم سَدَّت بابَهُ عليهم صخرةٌ فلم يَستطيعوا الخروجَ، فدعوا اللهَ وتوسَّلوا إليه بإخلاصِهم له فيما فعلوه، مِن: بِرِّ الوالدينِ، والعِفَّةِ عن الزِّنا، وحفظِ الأمانةِ، والإخلاصُ عبادةٌ مِن أعظمِ العبادات، بلِ الإخلاصُ للهِ شرطٌ في قبولِ جميعِ العبادات.
هذا وأوصِيكُم بالتَّزَوُّدِ مِن تَقوى الله ــ جلَّ وعزَّ ــ قبلَ أنْ تَرتحِلوا عن دُنياكُم هذه، امتثالًا لأمرِ ربِّكم سبحانه: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ المَلِكِ الأعلى، وسلَّمَ على محمدٍ النَّبيِّ وآلِهِ وصحبِه وصَلَّى.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فإنَّ للتوسُّلِ والوسيلةِ مَعانٍ باطلةِ لا تُعرَف في نصوصِ القرآنِ والأحاديثِ انَّبوية، ولا عن الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ، ولا عن باقِي أهلِ القُرونِ الثلاثةِ الأولى، ولا عن أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ، وتلامذتِهم، ولا في لُغةِ العرب، مَعانٍ أحدثتْها الشِّيعةُ الرافضة، وتابعَهُم عليها الصُّوفيةُ الطُّرُقِية، وأضَرُّوا بها دِينَ وإسلامَ وعقيدةَ مَن تأثَّرَ بِهِم، وظنَّ أنَّهُم على حق، وهُم بعيدونَ عن الحق، وفي الباطلِ قد غَرِقُوا، ودُونَكم هذهِ المَعاني الباطلة:
المعنى الأوَّل الباطل للوسيلة: أنَّ الوسيلةَ هي المَعصومُ مِن آلِ البيتِ، أو الشيخُ صاحبُ ومؤسِّسُ الطريقةِ الصوفية، أو الوَلِيُّ الصالح، وزعموا أنَّ هؤلاءِ المخلوقينَ مثلَهم واسطةٌ بينَهم وبينَ الله، يُقرِّبونَهم مِنه إذا دعوهُم، واستغاثوا بِهم، وذبَحوا لهم، ونَذروا إليهم، وطافوا بقبورِهم، وتمسَّحوا بها وتبرَّكوا.
وهذا المَعنَى باطلٌ بنُصوصِ القرآنِ والأحاديثِ النَّبويةِ الثابتة، ولُغةِ العرَب، واتفاقِ العلماء، بل هو أصلٌ مِن أصولِ الكُفر الكُبرى، وعَينُ دِينِ المُشركينَ الذي بُعِثَ فيهِم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والرُّسلُ قبلَه.
فإنَّ دِينَ المشركينَ الذينَ بُعِثَ فيهِم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومَن قبلَهم، قائمٌ: على أنَّهم لن يَصِلوا إلى اللهِ ورضاهُ وجنَّتِه، ولن يَسلَموا مِن عذابِه إلا إذا جعَلوا بينَهم وبينَهُ سبحانَه وسائطَ ووسائلَ مِن الخلقِ الصالحينَ تُقرِّبُهم مِنه، وتَشفعُ لهُم إليه، فصَرفوا لهم بعضَ العبادات، وأكثرُ عبادةٍ صرفوها لهُم هي الدعاء، وقد أبطلَ اللهُ وسائِطَهم ووسائِلَهم هذه، وأبطلَ دِينَهُمُ القائمَ على الوسائطِ والوسائل، وأخبَرَ عنه وعنهُم، فقال سبحانَه في أوَّلِ سورةِ “الزُّمَر”: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }، وقال تعالى في سورة “يونس”: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
فصَرَّح ــ جلَّ وعلا ــ: بأنَّ هذا النَّوعَ مِن ادِّعَاءِ الشُّفعاءِ والوسائطِ والوسائلِ شِرْكٌ بِاللَّه، ونَزَّهَ نفسَه الكريمةَ عنه، بقولِه سبحانَه في خِتامِ آيةِ سورةِ “يونس”: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }، وبقولِه في ختامِ آيةِ سورةِ “الزُّمَر”: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }.
وأمَّا المَعنَى الثاني الباطل للتوسُّل فهو: دعاءُ المخلوقينَ مع اللهِ، سواء كان هذا المَخلوقُ نبيًّا، أو صحابيًّا، أو مِن آلِ البيت، أو وليًّا صالحًا، أو غيرَهم، بتفريجِ الكُربِ، وسُؤالِ الشفاعةِ، وطلبِ المَدَدِ والعَونِ والإغاثة.
فترَاهُم يَصرفونَ عبادةَ الدعاءِ لهؤلاءِ مع اللهِ، فيَدعونَهم قائلين: “فَرِّجْ عنَّا يا رسولَ الله”، “مَدَد يا بَدوي”، “أغِثنا يا جَيْلاني”، “اشفِنا يا حُسين”، “احْمِنا يا عَيدرُوس”، “اكشِف ما أصابَنا يا مِيرغَنِي”، “شيئًا للهِ يا رِفاعِي”.
ويُسمُّونَ دعائَهم هذا لغيرِ اللهِ: توسُّلًا، وما هوَ واللهِ بتوسُّلٍ، بل هو كُفرٌ بالله، وشِركُ عظيم، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ ))، والعِبادةُ حقُّ خالصٌ للهِ وحدَه، لا تُصرَفُ إلا لَه وإليه، وبذلكَ حَكَمَ، فقال سبحانَه: { إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ }، وقال ــ جلَّ وعلا ــ ناهيًا عن دعاءِ غيرِه معَه كائنًا مَن كان، وحاكمًا بأنَّ دعائَهُم له شِركٌ وكُفر: { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا }، وقال سبحانَه حاكمًا بأنَّ دعاءَ غيررِه معَه شِركٌ وكُفر: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }، وأخرجَ البخاريُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ ))، بل إنَّ دعاءَ غيرِ اللهِ معَه، هو الدِّينُ الذي كان عليهِ المشركونَ زمَنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقبلَه، وآياتُ القرآنِ كثيرةٌ ومُستفيضةٌ في تقريرِ ذلك.
والمَعنَى الثالث الباطل للتوسُّل هو: دعاءُ اللهِ وسؤالُه بِجَاهِ أو حَقِّ أو مكانةِ أو منزلةِ أحدٍ مِن الناسِ مُعظَّمٍ كالأنبياء، والصالحين، أو زمانٍ فاضلٍ كرمضانَ، وليلةِ القدْرِ، ويومِ الجُمعةِ، ويومِ عَرَفة، أو مكانٍ فاضلٍ كالمسجدِ الحرامِ، والنَّبويِّ، والأقصَى، والرَّوضةِ في المسجدِ النَّبوي.
ويُسمّوُن هذا: توسُّلًا، كقولِ بعضِهم حينَ يَدعو اللهَ: اللهُمَّ إنِّي أسألُكَ بِجاهِ أو بحقِّ نبيِّكَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أو بجاهِ الأنبياءِ، أو بِجاهِ عبادِكَ الصالحين، أو بحقِّ هذهِ الجُمعةِ أو بحقِّ شهرِ رمضانَ، أو بمكانةِ أو حقِّ الكعبة أنْ تَغفرَ لِي، وترزقَنِي، وتُفرِّجَ كَرْبِي، وتَشفِيَ مريضِي.
وإدخالُ الجَاهِ أو الحقِّ أو المكانةِ أو المنزلةِ في أثناء دعاءِ اللهِ تعالى لم يأتِ بهِ نصٌّ مِن القرآن، ولا نصٌّ صحيحٌ في السُّنةِ النَّبوية، ولا صحَّ عن أحدٍ مِن الصحابة، ولا التابعينَ، ولا أتْبَاعِ التابعين، ولا يُعرَفُ في شيءٍ مِن أدعيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأدعيةِ أصحابِه ــ رضي الله عنهم ــ الصَّحيحةِ التي جاءت في “الصِّحاحِ”، و “السُّننِ”، و “المسانيدِ”، وغيرِها مِن كُتبِ السُّنةِ والحديثِ المشهورة، ولا يَقدِرُ أحدٌ أنْ يَنقلَ فيهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه شيئًا صحيحًا مِن جهةِ الإسنادِ، وصحيحًا صريحًا مِن جهةِ الاستدلال.
بل إضافةُ الجَاهِ والحقِّ والمكانةِ في الدعاءِ ليسَ بتوسُّلٍ شرعِي، وإنَّما هو توسُّلٌ مُحدَثٌ ومُبتَدَعٌ في الدِّين، ومِن البدعِ المُحرَّمة عند أئمةِ أهلِ السُّنة مِن أهلِ الفقهِ والحديث، لأنَّ البدعةَ مُحرَّمةٌ بنصِّ السُّنةِ النِّبويةِ الصَّحيحةِ المُتضافِرة، واتفاقِ العلماء، بل هيَ أعظمُ مِن المعصيةِ باتفاق الفقهاء.
اللهُمَّ مُنَّ علينا بأنْ نكونَ مِن عبادِكَ الموحِّدينَ الذين لا يُشركونَ بكَ شيئًا حتى نلقَاك، اللهمَّ جنِّبنا وجنِّب أهلينا الشِّركَ صغيرَه وكبيرَه، اللهمَّ وفِّق جميعَ وُلَاةِ أمورِ المسلمينَ للقضاءِ على الشِّركِ وأسبابِه، وقَمعِ أهلِه ودعاتِه وقنواتِه، اللهمَّ جنِّبنا البِدعَ وأهلَها ودعاتَها، وادفع عنَّا شُبهَهُم وتلبيسَهم، اللهمَّ أعنَّا على ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عبادتِك، ربَّنا لا تُزغْ قلوبَنا بعدَ إذ هديتَنا، وهَبْ لَنا مِن لدُنكَ رحمةً إنَّك أنت الوهاب، وأقولُ هذا، واستغفرُ اللهَ لِي ولكم.