تنبيه الصديق إلى اشتراط الفقهاء في المسح على الجورب أن يكون من الصفيق لا الرقيق
الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد، أيها الإخوة النبلاء – جملكم الله بالعلم والفقه في شريعته -:
فهذه رسالة فقهية تحمل هذا العنوان:
” تنبيه الصديق إلى اشتراط الفقهاء في المسح على الجورب أن يكون من الصفيق لا الرقيق “.
وقد استللت عامة ما جاء فيها من شرح لي على كتاب “عمدة الفقه” للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي – رحمه الله -.
حيث قامت طالبة علم – سددها الله وشكر لها وأنعم عليها – بتفريغه من الأشرطة ثم أرسل إلي عبر بريد زوجها – سلمه الله -.
فزدت عليه ما تيسر، ورتبته ليُنتفع به أكثر، وأسأل الله تعالى أن ينفع به الكاتب والقارئ والناشر، إنه سميع الدعاء.
وسوف يكون الكلام عن هذه الموضوع في خمس وقفات، تسهيلاً لضبطه، وإعانة على الإلمام بما جاء فيه.
وما كان في كلامي من صواب فمن الله وحده، فهو الموفق له، والمعين عليه، وما كان فيه من خطأ فمني، ومن الشيطان، والله ورسوله من ذلك بريئان.
ثم أقول مستعيناً بالله – عز وجل – فهو المستعان، وعليه التكلان:
الوقفة الأولى / عن أهمية الجمع والكتابة في اشتراط الفقهاء صفاقة وثخانة الجورب عند المسح عليه.
لا ريب أن إفراد هذه المسألة بالتصنيف، وجمع كلام الفقهاء حولها، وتحقيق الحكم فيها، وإظهاره وإشاعته، لمن الأمور النافعة للناس عموماً، والمهمة لأهل العلم وطلابه النابهين على الخصوص، لأسباب ثلاثة:
الأول: تعلق هذه المسألة بفريضة الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وتتكرر على المسلم والمسلمة في اليوم والليلة خمس مرات.
وقد يتوضأن لها ويمسحان على جوربين رقيقين.
وهذا يجعلهما في حاجة شديدة لمعرفة حكم مسحهما هذا، لتصح صلاتهما، وتكون مقبولة شرعاً.
ويجعل أهل العلم وطلابه في حاجة أشد منهما، لأنهم لا يصححون بتحقيقها ودراستها جيداً صلاة أنفسهم فقط، بل يصححون صلاتهم، وصلاة الناس معهم، حيث يرجعون إليهم في معرفتها، ويستفتونهم حولها، ويدَرِّسُون ويخطبون فيهم بأحكامها.
فلا يعجلن أحد في البت فيها والإفتاء بمجرد قراءة عابرة لمتن فقهي أو فتيا عالم يثق به، أو سماع سريع لتقرير عالم أو باحث.
مع الحذر الشديد من الخروج عن جادة أسلافنا أئمة أهل العلم الماضين فيها، وما قرروه حولها، وحول غيرها من مسائل العلم.
إذ مغبة الخروج وخيمة على الخارج وعلى الناس معه، لا سيما إذا كان خروجه يتعلق بمسألة تبنى عليها صحة العبادة أو بطلانها، فكيف إذا كانت العبادة من أركان الإسلام، وكان الركن هو الصلاة.
الثاني: كثرة لبس المسلمين للجوارب رقيقها وصفيقها لا سيما في أعمالهم ومناسباتهم وأوقات الشتاء والبرد.
الثالث: عدم وجود مصنف مستقل فيها – فيما أعلم -، يجمع شتاتها، وما ورد فيها من أحاديث وآثار، وما كتبه العلماء حولها في كتب شروح الحديث، وفقه اختلاف العلماء، وفقه المذاهب المشهورة.
الوقفة الثانية / عن المراد بالجورب.
قال بدر الدين العيني الحنفي – رحمه الله – في كتابه “البناية شرح الهداية”(1 / 607):
الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول، يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب.اهـ
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي المعافري المالكي – رحمه الله – في كتابه “عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي”(1/ 149):
الجورب: غشاء للقدم من صوف يتخذ للتدفئة.اهـ
وفي “مواهب الجليل في شرح مختصر خليل”(1/ 318) من كتب المالكية:
قال في “التَّوْضِيحِ”:
الجورب: ما كان على شكل الخف من كتَّانٍ، أو قطن أو غيرِ ذلك.اهـ
وقال شمس الدين الزركشي الحنبلي – رحمه الله – في شرحه على “مختصر الخرقي”(1/ 398):
الجورب: غشاء من صوف يتخذ للدفء.اهـ
وقال منصور بن يونس البهوتي الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “الروض المربع شرح زاد المستقنع”(ص:33) عن الجورب:
وهو ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد.اهـ
ومن أمثلته:
ما يسمى اليوم بالشُّرَّاب.
الوقفة الثالثة / عن أنواع الجورب.
ذكر جمع من الفقهاء – رحمهم الله تعالى – أن أنواع الجورب ثلاثة:
الأول: الجورب العادي.
وهو الجورب الذي يُتخذ جميعه من غزل صوف أو قطن أو شعر مفتول وما شاكل ذلك.
الثاني: الجورب المُنْعَل أو المُنَعَّل.
وهو الجورب الذي جُعل أسفله من جلد وأعلاه من صوف أو قطن وما شاكل ذلك.
وأخرج البيهقي – رحمه الله – في “سننه”( 1357) عن راشد بن نَجيح أنه قال:
(( رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ دَخَلَ الْخَلَاءَ وَعَلَيْهِ جَوْرَبَانِ أَسْفَلُهُمَا جُلُودٌ وَأَعْلَاهُمَا خَزٌّ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا )).
وقال الإمام الألباني – رحمه الله – في تعليقه على رسالة القاسمي “المسح على الجوربين”(ص:42):
وسنده عند البيهقي (1/ 258) جيد.اهـ
الثالث: الجورب المُجَلَّد.
وهو الجورب الذي وضع الجلد من أعلاه ومن أسفله وباقيه من صوف وما شابهه.
وقال بدر الدين العيني الحنفي – رحمه الله – في كتابه “البناية شرح الهداية”(1/ 607- 608) مبيناً هذه الأنواع الثلاثة:
قلت:
الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول، يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب.
وفي “المنافع”:
وجورب مُجَلَّد: إذا وضعا الجلد على أعلاه وأسفله.
والمُنَعَّل هو: الذي وضع جلد على أسفله كالنعل للقدم.اهـ
الوقفة الرابعة / عن حكم المسح على الجوربين ( الشراب ).
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه سلم حديث في المسح على الجوربين، وسائر ما ورد من أحاديث لا تثبت.
ومن هذه الأحاديث:
حديث أبي موسى الأشعري، وحديث بلال بن رباح، وحديث المغيرة بن شعبة، وحديث أنس بن مالك – رضي الله عنهم -، وغيرها.
وقد قال الحافظ العقيلي – رحمه الله – في كتابه “الضعفاء”(1422):
والأسانيد في الجوربين والنعلين فيها لين.اهـ
وقد كانت حجة جمع من الأئمة – رحمهم الله تعالى – على جواز المسح على الجوربين آثار الصحابة – رضي الله عنهم – وحدها.
ومن هؤلاء الأئمة:
أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو داود السجستاني وابن قيم الجوزية.
فقال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في “تهذيب السنن”(1/ 189 – عند حديث رقم:159 – مع عون المعبود):
فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً، والعمدة في الجواز على هؤلاء – رضي الله عنهم – لا على حديث أبي قيس.اهـ
وقال أيضاً 1/ 188 – عند حديث رقم:159 – مع عون المعبود):
وقد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعَلَّلَ رواية أبي قيس.
وهذا من إنصافه وعدله – رحمه الله -، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة، وصريح القياس …اهـ
وبسبب ضعف الأحاديث المرفوعة أيضاً اختلف أهل العلم – رحمهم الله تعالى – في حكم المسح على الجوربين إلى قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز.
وهو قول كثير من الفقهاء.
قال الحافظ أبو بكر ابن المنذر النيسابوري – رحمه الله – في كتابه “الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف”(2/ 119 – بعد حديث رقم:486):
وأنكرت طائفة المسح على الجوربين وكرهته، وممن كره ذلك، ولم يره:
مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي والنعمان، وهذا مذهب عطاء، وهو آخر قوليه، وبه قال مجاهد وعمرو بن دينار والحسن بن مسلم.اهـ
ومن حجتهم:
أنه لم يرد في المسح على الجوربين حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد عنه المسح على الخفين، فيقصر جواز المسح عليهما.
القول الثاني: أنه يجوز.
وهو قول كثير من الفقهاء أو أكثرهم.
قال الحافظ أبو بكر ابن المنذر النيسابوري – رحمه الله – في كتابه “الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف”(2/ 117-118 – بعد حديث رقم:485):
وقال بهذا القول:
عطاء بن أبي رباح والحسن وسعيد بن المسيب كذلك، قالا: إذا كانا صفيقين، وبه قال النخعي وسعيد بن جبير والأعمش وسفيان الثوري والحسن بن صالح وابن المبارك وزفر وأحمد وإسحاق، وقال أبو ثور: يمسح عليهما إذا كانا يُمشى فيهما، وكذلك قال يعقوب ومحمد: إذا كانا ثخينين لا يشفان.اهـ
وهو أيضاً قول داود بن علي الظاهري وابن حزم.
وقال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في “تهذيب السنن”(1/ 189 – عند حديث رقم:159 – مع عون المعبود):
والمسح عليهما قول أكثر أهل العلم.اهـ
وقال بدر الدين العيني الحنفي – رحمه الله – في كتابه “نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار”(2/ 299):
الجمهور من العلماء على جواز المسح على الجوربين.اهـ
وقد قوي هذا القول من جهتين:
الأولى: ثبوت المسح على الجوربين عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من غير خلاف بينهم، فكان إجماعاً.
فقد ثبت المسح عليها عن:
علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وأبي أمامة الباهلي، وأبي مسعود الأنصاري عقبة بن عمرو، – رضي الله عنهم -.
وقال الإمام إسحاق بن راهويه – رحمه الله – كما في “الأوسط” لابن المنذر (2/ 118 – بعد حديث رقم:485):
مضت السنة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين في المسح على الجوربين، لا اختلاف بينهم في ذلك.اهـ
وقال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – كما في كتاب “الأوسط” لابن المنذر (2/ 118 – بعد حديث رقم:495) محتجاً للجواز:
قد فعله سبعة أو ثمانية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ
وقال الحافظ أبو بكر ابن المنذر النيسابوري – رحمه الله – في كتابه “الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف”(2/ 115 – قبل حديث رقم:477):
روي إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وأبي مسعود، وأنس بن مالك، وابن عمر، والبراء بن عازب، وبلال، وأبي أمامة، وسهل بن سعد.اهـ
وقال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في “تهذيب السنن”(1/ 189 – عند حديث رقم:159 – مع عون المعبود):
“قال ابن المنذر:
روي المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
علي وعمار وأبي مسعود الأنصاري وأنس وابن عمر والبراء وبلال وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد”.
وزاد أبو داود:
“وأبو أمامة وعمرو بن حريث وعمر وابن عباس”.
فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً.
والعمدة في الجواز على هؤلاء – رضي الله عنهم – لا على حديث أبي قيس.اهـ
ثم قال – رحمه الله – بعد ذلك:
ولا نعرف في الصحابة مخالفاً لمن سمينا.اهـ
وقال ابن حزم الظاهري – رحمه الله – في كتابه “المحلى بالآثار”(1/ 324 – مسألة رقم:212):
لا يعرف لهم ممن يجيز المسح على الخفين من الصحابة – رضي الله عنهم – مخالف.اهـ
وقال الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “المغني”(1/ 374):
ولأن الصحابة – رضي الله عنهم – مسحوا على الجوارب، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعاً.اهـ
وقال بدر الدين العيني الحنفي – رحمه الله – في كتابه “البناية شرح الهداية”(1/ 608):
وقولهما قول الجمهور من الصحابة:
كعلي بن أبي طالب، وأبي مسعود البدري، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وأبي أمامة البلوي، وعمر، وابنه، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن عمرو بن حريث، وسعيد، وبلال، وعمار بن ياسر، فهؤلاء الصحابة لا يعرف لهم مخالف.اهـ
الثانية: بالقياس على المسح على الخفين.
فقال علاء الدين الكاساني الحنفي – رحمه الله – في كتابه “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع “(1/ 10):
لأن الجواز في الخف لدفع الحرج، لما يلحقه من المشقة بالنزع، وهذا المعنى موجود في الجورب.اهـ
وقال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في “تهذيب السنن”(1/ 188 – عند حديث رقم:159 – مع عون المعبود):
وقد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعَلَّلَ رواية أبي قيس.
وهذا من إنصافه وعدله – رحمه الله -، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة، وصريح القياس، فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر، يصح أن يحال الحكم عليه.اهـ
وقال الإمام ابن تيمية الحراني – رحمه الله – كما في “مجموع الفتاوى”(21/ 214):
ففي “السنن”: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه )).
وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك، فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف، وهذا من جلود، ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة، فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، ومحظوره ومباحه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، فهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى، وأيضاً فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين المتماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، ومن فرق بكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه، فقد ذكر فرقاً طردياً عديم التأثير، ولو قال قائل: يصل الماء إلى الصوف أكثر من الجلد فيكون المسح عليه أولى للصوق الطهور به أكثر، كان هذا الوصف أولى بالاعتبار من ذلك الوصف، وأقرب إلى الأوصاف المؤثرة، وذلك أقرب إلى الأوصاف الطردية، وكلاهما باطل.اهـ
وقال ابن رشد الحفيد المالكي – رحمه الله – في كتابه ” بداية المجتهد ونهاية المقتصد”(1/ 62-64) في بيان وجهة القولين جميعاً:
المسألة الثالثة:
وأما نوع محل المسح فإن الفقهاء القائلين بالمسح اتفقوا على جواز المسح على الخفين.
واختلفوا في المسح على الجوربين، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم.
وممن منع ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة، وممن أجاز ذلك أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري.
وسبب اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه مسح على الجوربين، والنعلين.
واختلافهم أيضاً في هل يقاس على الخف غيره، أم هي عبادة لا يقاس عليها، ولا يتعدى بها محلها؟ فمن لم يصح عنده الحديث، أو لم يبلغه، ولم ير القياس على الخف، قصر المسح عليه، ومن صح عنده الاثر، أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين.اهـ
تنبيه:
أخرج أحمد (22383) ومن طريقه أبو داود (146) والحاكم (602) عن ثوبان – رضي الله عنه ـ أنه قال:
(( بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ )).
وراشد بن سعد مختلف في سماعه من ثوبان – رضي الله عنه -.
فقال الأئمة أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي وإبراهيم الحربي – رحمهم الله -: لم يسمع من ثوبان.
وقال الإمام البخاري – رحمه الله -: سمع ثوبان.
ولو قيل بثبوته بناء على قول الإمام البخاري – رحمه الله – فلا يصلح أن يكون من أدلة جواز المسح على الجوربين.
لأنه قد نص جمع من أهل اللغة وغريب الحديث على أن التساخين هي الخفاف.
منهم:
الفراهيدي وأبو عبيد وإبراهيم الحربي وابن عباد ونشوان الحميري والزمخشري وابن الجوزي وابن الأثير والجوهري والفيروز أبادي.
وقال ابن الأثير – رحمه الله – في كتابه “النهاية في غريب الحديث والأثر”(1/ 189):
وقال حمزة الأَصبهاني في كتاب “المُوازنة”:
وجاء ذكر التَّساخين في الحديث، فقال من تعاطى تفسيره: هو الخُفُّ.اهـ
وسبب ذكري لهذه الوقفة هو دفع ما قد يحصل على بعض المطالعين من شرود ذهن أو خلط لأحكام المسح على الخفين بأحكام المسح على الجوربين، فيظن أن كلام الفقهاء – رحمهم الله – فيهما واحد، ويقصد به جميعهما في كل الأحكام.
الوقفة الخامسة / عن اشتراط الفقهاء الصفاقة والثخانة في الجورب عند المسح عليه.
وهذه المسألة هي الأساس، والمقصودة بالبحث، وعليها كان عنوان الرسالة.
وسوف يكون الكلام عن هذه الوقفة في أربعة فروع لتكون أكثر وضوحاً، وأبين في التجلية، وأيسر على المطالع:
الفرع الأول: عن الآثار الواردة عن التابعين في أن المسح على الجوارب إنما يكون إذا كانت صفيقة ثخينة.
قال الحافظ ابن أبي شيبة – رحمه الله – في “مصنفه”(1976):
حدثنا هشيم قال: أخبرنا يونس عن الحسن، وشعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما قالا:
(( يُمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إِذَا كَانَا صَفِيقَيْنِ )).
وإسناده صحيح.
الفرع الثاني: عن الإجماع المنقول في أن المسح على الجوارب الرقيقة لا يجوز، وأنه لا بد فيهما من الثخانة والصفاقة.
أولاً: قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي المالكي – رحمه الله – في كتابه “الإقناع في مسائل الإجماع”:(1/ 227 – رقم:351) نقلاً من كتاب “النّيِر” للقاضي أبي العباس الظاهري:
وأجمع الجميع أن الجوربين إذا لم يكونا كثيفين لم يجز المسح عليهما.اهـ
ثانياً: قال علاء الدين الكاساني الحنفي – رحمه الله – في كتابه “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع”(1 / 10):
وأما المسح على الجوربين، فإن كانا مجلدين أو منعَّلين، يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا، وإن لم يكونا مجلدين ولا منعَّلين.
فإن كانا رقيقين يشِفَّان الماء، لا يجوز المسح عليهما بالإجماع.
وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف، ومحمد: يجوز، وروي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره.اهـ
تنبيه مهم:
قال أبو زكريا النووي الشافعي – رحمه الله – في كتابه “المجموع شرح المهذب”(1/ 527):
وحكى أصحابنا عن عمر وعلي – رضى الله عنهما – جواز المسح على الجورب، وإن كان رقيقاً، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود، وعن أبي حنيفة المنع مطلقاً، وعنه أنه رجع إلى الاباحة.اهـ
وهذا النقل لا يؤثر في الإجماع المنقول سابقاً، لأمرين:
أحدهما: أن هذا القول ليس بمعروف عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما – ولا منقول بإسناد ثابت ولا ضعيف، بل لم أجده إلا في هذه الحكاية، بعد بحث شديد في كتب الحديث وشروحه، وكتب فقه اختلاف العلماء، وكتب المذاهب المعروفة، والكتب المفردة في المسح على الخفين والجوربين.
والثاني: أن ما حكاه بعض الشافعية عن أبي يوسف ومحمد خلاف الموجود المشهور عنهما في كتب الحنفية وغيرهم.
فقد قال العلامة أبو سليمان الجوزجاني – رحمه الله – في كتاب “الأصل للإمام محمد بن الحسن الشيباني”(1/ 72):
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا مسح على الجوربين أجزأه المسح، كما يجزي على الخف، إذا كان الجوربان ثخينين لا يشفان.اهـ
وأبو سليمان الجوزجاني من تلاميذ أبي يوسف ومحمد، وأخذ الفقه عنهما جميعاً، وروى عنهما الكتب والأمالي.
وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي الحنفي – رحمه الله – في كتابه “شرح معاني الآثار”(1/ 98):
لأنا لا نرى بأساً بالمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين، قد قال ذلك أبو يوسف ومحمد، وأما أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – فإنه كان لا يرى ذلك حتى يكونا صفيقين ويكونا مجلدين فيكونان كالخفين.اهـ
وكذلك ما نقلوه عن الإمام إسحاق بن راهويه – رحمه الله – ليس بمذهبه، وخلاف ما نُقل واشتهر عنه.
فقد قال الإمام الترمذي – رحمه الله – في “سننه”(1/ 167 – بعد حديث رقم:99):
وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: يَمْسح على الجوربين وإن لم تكن نعلين إذا كانا ثخينين.اهـ
وقال الإمام البغوي – رحمه الله – في كتابه “شرح السنة”(1/ 458 – عند حديث رقم: 236):
فأجازه جماعة، إذا كانا ثخينين لا يشفان، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي.اهـ
وكذا قال غيرهما.
وأما النقل عن داود الظاهري – رحمه الله – فلم أجده بعد بحث شديد إلا في حكاية النووي هذه عن الأصحاب.
وقد قال الفقيه الظاهري القاضي أبو العباس المنصوري – رحمه الله – في كتابه “النيِّر”( نقلاً عن كتاب”الإقناع في مسائل الإجماع”لابن القطان 1/ 227 – رقم:351):
وأجمع الجميع أن الجوربين إذا لم يكونا كثيفين لم يجز المسح عليهما.اهـ
وقال عز الدين ابن الأثير – رحمه الله – في كتابه ” اللباب في تهذيب الأنساب”(3/ 263) عن القاضي أبي العباس المنصوري:
وكان فقيهاً على مذهب داود الظاهري.اهـ
وقال أبو الفرج الوراق المعروف بابن النديم في “الفهرست”(ص:269):
على مذهب داود، من أفاضل الداوديين.اهـ
الفرع الثالث: عن بعض النقول عن العلماء في اشتراط صفاقة وثخانة الجورب عند المسح عليه.
أولاً: قال الإمام الحسين بن مسعود البغوي – رحمه الله – في كتابه “شرح السنة”(1/ 458 -عند حديث رقم: 236):
واختلفوا في جواز المسح على الجوربين، فأجازه جماعة، إذا كانا ثخينين لا يشفان، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي.
قال الشافعي: إذا كانا منعَّلين يمكن متابعة المشي عليهما.اهـ
ثانياً: قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي الحنفي – رحمه الله – في كتابه “شرح معاني الآثار”(1/ 98):
لأنا لا نرى بأساً بالمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين، قد قال ذلك أبو يوسف ومحمد، وأما أبو حنيفة – رحمه الله تعالى – فإنه كان لا يرى ذلك حتى يكونا صفيقين ويكونا مجلدين فيكونان كالخفين.اهـ
ثالثاً: قال علاء الدين الكاساني الحنفي – رحمه الله – في كتابه “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع”(1 / 10):
وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف، ومحمد: يجوز، وروي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه، ثم قال لعُوَّاده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه.اهـ
رابعاً: قال الإمام الشافعي – رحمه الله – في كتابه “الأم”(1/ 92-93):
فإذا كان الخُفَّان من لُبُود أو ثياب أو طُفًى فلا يكونان في معنى الخف حتى يُنَعَّلا جلداً أو خشباً أو ما يبقى، إذا تُوبع المشي عليه، ويكون كل ما على مواضعِ الوضوء منها صفيقاً لا يَشِف، فإذا كان هكذا مسح عليه، وإذا لم يكن هكذا لم يمسح عليه، وذلك أن يكون صفيقًا لا يَشِف وغير مُنَعَّل فهذا جورب، أو يكون مُنَعَّلاً وَيكون يَشِف فلا يكون هذا خُفّاً، إنما الخُفُّ ما لم يَشِف.
وإِن كان مُنَعَّلاً وما على مواضعِ الوضوء صفيقاً لا يَشِف، وما فوق مواضعِ الوضوء يَشِف لم يضره، لأنه لو لم يكن في ذلك شيء لم يضره، وإن كان في شيء مما على مواضعِ الوضوء شيء يَشِف لم يكن له أن يمسح عليه.اهـ
خامساً: قال أبو زكريا محيي الدين ابن شرف النووي الشافعي – رحمه الله – في كتابه “المجموع شرح المهذب”(1/ 526):
ونص الشافعي – رضى الله عنه – عليها في “الأم” كما قاله المصنف، وهو أنه يجوز المسح على الجورب بشرط أن يكون صفيقاً منعَّلاً.اهـ
وقال أيضاً (1/ 527):
قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أن الجورب إن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه وإلا فلا.اهـ
سادساً: قال الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي – رحمه الله – في كتابه “المغني”(1/ 374-375):
وقد قال أحمد في موضع:
لا يجزئه المسح على الجورب حتى يكون جورباً صفيقاً، يقوم قائماً في رجله لا ينكسر مثل الخفين، إنما مسح القوم على الجوربين أنه كان عندهم بمنزلة الخف، يقوم مقام الخف في رِجْل الرَّجُل، يذهب فيه الرجل ويجيء.اهـ
سابعاً: قال أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي – رحمه الله – في كتابه ” الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف”(1/ 182):
قوله: ” أو الجورب خفيفاً يصف القدم أو يسقط منه إذا مشى “:
لم يَجُزْ المسح على هذا بلا نزاعٍ.اهـ
تنبيه مهم:
قال المرداوي – رحمه الله – في كتابه ” الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف”(1/ 180-181):
ذكر المصنف هنا لجواز المسح شرطين:
ستر محل الفرض وثبوته بنفسه.
وثَمَّ شروط أخر:
منها: تقدم الطهارة كاملة، على الصحيح من المذهب، كما تقدم في كلام المصنف،…
ومنها: أن لا يصف القدم لصفائه.
فلو وصفه لم يصح على الصحيح من المذهب كالزجاج الرقيق، وقيل: يجوز المسح عليه.اهـ
فلا يصح أن يقال:
إن الحنابلة لهم قول في جواز المسح على الجورب الرقيق بناء على هذا الكلام، لأن هذا الكلام عن الخف لا الجورب.
وأما الجورب فقد حكى فيه المرداوي نفسه عدم الخلاف بين الحنابلة في عدم جوازه.
فقال عقب ذلك من نفس الكتاب (1/ 182) كما تقدم:
لم يَجُزْ المسح على هذا بلا نزاعٍ.اهـ
ثامناً: قال العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – كما في “فتاوى نور على الدرب”(5/ 157):
من شرط المسح على الجوارب:
أن يكون صفيقاً ساتراً، فإن كان شفافاً لم يجز المسح عليه، لأن القدم والحال ما ذكر في حكم المكشوفة.اهـ
تاسعاً: قال إبراهيم الصبيحي – وهو معاصر – في كتابه “مسائل المسح على الخفين”(ص:108):
كما أن في هذا مخالفة لمن سبق إلى القول بالمسح على الجوارب من أصحاب القرون المفضلة، إذ لم يقل أحد منهم بجواز المسح على الشفاف، فيما أعلم.اهـ
الفرع الرابع: عن حد الصفاقة والثخانة والكثافة للجورب.
الجورب الصفيق أو الثخين أو الكثيف هو:
الجورب الذي لا تبان من تحته بشرة القدم.
وعكسه الرقيق الذي يشف.
وقد قال أبو بكر بن علي الزَّبِيدِيّ الحنفي – رحمه الله – في كتابه “الجوهرة النيرة على مختصر القدوري”(1/ 28) عن معنى قول أبي يوسف ومحمد: “يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين لا يشِفَّان”:
وقوله “لا يَشِفَّان” أي: لا يرى ما تحتهما من بشرة الرجل من خلاله.اهـ
وقال عبد الحميد الشرواني الشافعي – رحمه الله – في حاشيته على ” تحفة المحتاج في شرح المنهاج”(1/ 249):
صفيق أي متين، أنه يمنع ظهور محل الوضوء ويستره بَصْرِيٌّ.اهـ
وقال الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي – رحمه الله في كتابه “المغني”(1/ 373):
إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرناهما في الخف.
أحدهما: أن يكون صفيقاً لا يبدو منه شيء من القدم.اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.