حال السَّلف الصالح مع القرآن في شهر رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حال السَّلف الصالح مع القرآن في شهر رمضان
……………………………………………………………..
حال السَّلف الصالح مع القرآن في شهر رمضان
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
أمَّا بعد:
إنَّ مِن أعظم أوقات المسلم هي تلك الأوقات التي يقضيها مع كتاب ربِّه القرآن، فيَتلوا، ويتدبَّر، ويتعلَّم الأحكام، ويأخذ العِظَة والعِبرة.
فأكثِروا مِن الإقبال على القرآن في هذا الشَّهر الطيِّب الْمُطيَّب، والزَّمن الفاضل الجليل رمضان، وحُثُّوا أهليكم رجالًا ونساءً، صغارًا وكِبارًا، على تلاوته والإكثار مِنه، واجعلوا بيوتكم ومراكبكم عامرةً به، فإنَّ أجْر العمل يُضاعف بسبب شرَف الزَّمان الذي عُمِل فيه.
وقد كان نبيِّكم صلى الله عليه وسلم يُقبِل على القرآن في هذا الشهر المبارك رمضان إقبالًا خاصًّا، فكان يتدارسه مع جبريل ــ عليه السلام ــ كلَّ ليلة، حيث صحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ )).
[ رواه البخاري (6) واللفظ له، ومسلم (2308). ]
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “لطائف المعارف” (ص:242-243)، بعد هذا الحديث:
«دلَّ الحديثُ: على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعَرْضِ القرآن على مَن هو أحفظ مِنه، وفيه دليلٌ على استحباب الإكثار مِن تلاوة القرآن في شهر رمضان».اهـ
وقال الحافظ ابن كثير الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فضائل القرآن” (ص:37):
«ولهذا يُستحبُّ إكثار تلاوة القرآن فى شهر رمضان؛ لأنَّه ابتدئ بنزوله، ولهذا كان جبريل يُعارِض بِه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلِّ سَنَة في شهر رمضان، ولَمَّا كانت السَّنة التي تُوفي فيها عارضه بِه مرتين تأكيدًا وتثبيتًا».اهـ
ولقد كان لِسلفكم الصالح ــ رحمهم الله ــ مع القرآن في هذا الشهر الجليل رمضان شأنًا عظيمًا، وحالاً عَجَبًا، فقد كانوا يُقبِلون عليه إقبالًا كبيرًا، ويهتمُّون به اهتمامًا متزايدًا، ويتزوَّدُون مِن قراءته كثيرًا.
فقد صحَّ عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثٍ )).
[ رواه القاسم بن سلام (234) والفريابي (132) في كتابيهما “فضائل القرآن”، وسعيد بن منصور في “سُننه” (150 ــ قِسمُ التفسير). ]
وصحَّ عن إبراهيم النَّخعي التابعي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( كَانَ الْأَسْوَدُ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ )).
[ رواه أبو عبيد (235) والفريابي (141) في كتابيهما “فضائل القرآن”، وسعيد بن منصور في “سُننه” (151 ــ قِسمُ التفسير). ]
وأخرج عبد الرزاق في “مصنَّفه” (5955) عن الثوري، عن مُغيرة، عن عِمران، عن إبراهيم النَّخعي التابعي ــ رحمه الله ــ: (( أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ قَرَأَهُ فِي لَيْلَتَيْنِ، وَاغْتَسَلَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ )).
وكان الإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ يَختِم القرآن في كلِّ يومٍ وليلة مِن شهر رمضان مرتين.
وكان الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ يقرأ في كلِّ يومٍ وليلة مِن رمضان خَتمةً واحدة مِن القرآن.
وكيف لا يكون هذا هو حال السَّلف الصالح ــ رحمهم الله ــ مع القرآن العزيز، ورمضان هو شهر نُزوله، وشهر مدارسة جبريل ــ عليه السلام ــ له مع سيِّد الناس صلى الله عليه وسلم، وزمَنه أفضل الأزمان، والحسنات فيه مُضاعفة، وقد صحَّ عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: { الم } وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ، وَلَامٌ عَشْرٌ، وَمِيمٌ عَشْرٌ )).
[رواه ابن أبي شَيبة في “مصنَّفه” (29932)، وأحمد في “الزَّهد” (1825)، وأبو عُبيد (21) والفريابي (57) في كتابيهما “فضائل القرآن”.]
وثبَت عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا رَجَعَ مِنْ سُوقِهِ أَوْ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فَيَكُونَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ )).
[ رواه ابن المبارك في «الزَّهد» ( 807). ]
وحتى لا يُشكِل على البعض خَتم كثير مِن السَّلف الصالح ــ رحمهم الله ــ للقرآن في أقلِّ مِن ثلاث.
فقد قال الحافظ ابن رجب الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “لطائف المعارف” (ص:246) في دَفعِه وتوجيهه بعد أنْ سَاق جملةً مِن الآثار الواردة عنهم في خَتم القرآن مرَّات كثيرة في شهر رمضان:
«وإنّما وَرَدَ النَّهي عن قراءة القرآن في أقلِّ مَن ثلاث: على المُداومة على ذلك، فأمَّا في الأوقات المفضَّلة كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يُطلب فيها ليلة القدْر أو في الأماكن المفضلة كمكَّة لِمَن دخلها مِن غير أهلها، فيُستحبُّ الإكثار فيها مِن تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد، وإسحاق، وغيرهما مِن الأئمة، وعليه يَدُلُّ عمل غيرهم كما سَبق ذِكره».اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.