ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحكام النفقة على الزوجة
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الملِكِ الأعلى، وسلَّمَ على محمدٍ النَّبيِّ المُصطَفَى، وآلهِ وصحبِه وصَلَّى، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ عالمُ السِّرِ والنَّجوى، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المَبعوثُ للناسِ رحمَةً وهُدى.
أمَّا بعدُ، أيَّها المسلمون:
فإنَّ في الزَّواجِ تَفتُّحَ أبوابِ الرِّزقِ، إذ جعلَهُ اللهُ مِن أسبابِ سَعَتِه، فقال ــ جلَّ وعلا ــ: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }، وجاءَ عن أبي بكرٍ، وعمرَ، وابنِ مسعودٍ ــ رضي الله عنهم ــ أنَّهم قالوا: (( ابْتَغُوا الغِنَى في النِّكَاحِ ))، وإنَّ أرزاقَ العبادِ على اللهِ وحدَه، ومِن عندِه، وقد قال سبحانه مُطمئنًا عبادَه: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا }، أي: ما مِن مَخلوقٍ يَدُبُّ على وجْهِ الأرضٍ مِن آدمِيٍّ أو حيوانٍ بَرْيٍّ وبحريٍّ، يمشِي أو يطيرُ أو يَسبحُ أو يَزحَفُ إلا على اللهِ وحدَهُ رِزقُه، وثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ )).
أيَّها المسلمون:
لقد خصَّ اللهُ الرِّجالَ بالنفقاتِ على الزَّوجات، وجعلَهُم يَتميَّزونَ بها عن النساء، وجعلَها مِن أسبابِ قَوامَتِهم على النساءِ، فقال ــ عزَّ وجلَّ ــ: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }، واللهُ يَختصُّ بفضلِهِ مَن يَشاءُ مِن عبادِه.
واعلموا ــ سدَّدكمُ اللهُ ــ: أنَّ إنفاقَ الرَّجلِ على زوجتِه بالمعروفِ واجبٌ بنصِّ القرآنِ، ونصِّ السُّنةِ النَّبويةِ، واتفاقِ العلماءِ، حتى ولو كانت غَنيَّةً، حيثُ قالَ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ في شأنِ نَفقتِهِنَّ آمِرًا: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا }، وقال تعالى: { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ))، وقالَ الحافظُ ابنُ المُنذِرِ ــ رحمه الله ــ: «نفقةُ الزَّوجةِ واجبةٌ بالكتابِ والسُّنةِ والاتفاق»، وقالَ الفقيهُ ابنُ حزْمٍ ــ رحمه الله ــ: «اتَّفقوا ــ أي: العلماء ــ على أنَّ مَن لَزِمَتْهُ نفقةٌ فقد لَزِمَتْهُ كِسوةُ المُنْفَقِ عليهِ وإسكانُه».
وتكونُ النَّفقةُ على الزَّوجةِ عندَ العلماء ــ رحمهمُ اللهُ ــ: بأنْ يَكفِيَها حاجتَها مِن الطعامِ والكِسوةِ والمسكنِ وتوابِعِها، مِن غيرِ إسرافٍ ولا إقتَار.
وتكونُ هذهِ النَّفقةُ بالمعروفِ، لقولِ اللهِ تعالى: { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا }، وقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحِ: (( وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ))، وعلى هذا اتفقَ العلماءُ، حيثُ قالَ الحافظُ ابنُ المُنذِرِ ــ رحمه الله ــ: «أجمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ للزَّوجةِ نفقَتَها وكِسوَتَها بالمعروف».
والمعروفُ ــ عندَ أكثرِ العلماءِ ــ هو: قَدْرُ الكفايةِ، بحيثُ لا تَتضَرَّرُ الزَّوجةُ، ولا يُجْحَفُ بمالِ الزَّوج، ويُشَقُّ عليه، ودليلُ هذا ما صحَّ أنَّ هِندَ بنتَ عُتبَةٍ ــ رضي الله عنها ــ قالت: (( يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ» )).
والكفايةُ بالمعروفِ أيضًا، تَختلِفُ باختلافِ الأزمِنَةِ والأمكنةِ، والقُرَى والمُدُن والأريافِ والباديةِ، والأعرافِ والعاداتِ، وحالِ الزَّوجِ والزَّوجةِ مِن غِنَىً أو فقرٍ أو توسُّط، وشَرَفٍ ووجاهةٍ ودُونِهِما، وطاقةِ الزَّوجِ ويَسَارِه، ووقتِ رُخْصٍ وغَلاءٍ، وقد قالَ اللهُ تعالى مُيسِّرًا على عبادِه: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا }، وقالَ سبحانهُ: { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا }.
والزَّوجةُ الكِتابيَّةُ، يهوديَّةً كانت أو نصرانيَّة، كالمُسلِمةِ في وجوبِ النَّفقةِ وأحكامِها، حيثُ قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ المالِكيُّ ــ رحمه الله ــ: «لا خِلافَ ــ أي: بينَ العلماءِ ــ أنَّ الزَّوجةَ الذِّميَّةَ في النَّفقةِ والعِدَّةِ وجميعِ أحكامِ الزَّوجاتِ كالمُسلِمة».
أيَّها المسلمون:
الزَّوجةُ لَهَا أحوالٌ عِدَّة مع وجوبِ نفقةِ الزَّوجِ عليها مِن عدَمِه:
الحالُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ الزَّوجُ قد عقدَ عليها، ودخَلَ بها وجامعَها، وهذهِ تَجبُ لهَا النَّفقةُ باتفاقِ العلماء.
الحالُ الثاني: أنْ يكونَ الزَّوجُ قد عقدَ عليها، ولكنَّهُ لم يُمكَّنْ مِن الدُّخولِ بها وجِماعِها، وهذهِ لا تَجبُ لهَا النَّفقةُ عندَ أكثرِ العلماء، لأنَّ الاستمتاعَ بالزَّوجةِ مِن مقاصدِ النِّكاحِ الكُبرى، ولم يُوجدْ بعْد.
الحالُ الثالثُ: أنْ تكونَ الزَّوجةُ لا تُطيقُ الوطءَ والجماعَ لِصغَرِ سِنِّها، وهذهِ لا تَجبُ لهَا النَّفقةُ عندَ المذاهبِ الأربعة، لأنَّ الاستمتاعَ بها كزَوجةٍ قد تَعذَّرَ لِمَعنًى كانَ فيها، وبسببٍ مِن جِهتِها.
الحالُ الرابعُ: أنْ تكونَ الزَّوجةُ ناشِزًا ــ أي: تَعصِي الزَّوجَ فيما يجبُ عليها مِن حُقوقِه، وأشَدُّ ذلكَ امتِناعُها مِن الجِماع ــ وهذهِ لا تَجبُ لهَا النَّفقةُ والسُّكنى حالَ نُشوزها عندَ عامَّةِ الفقهاءِ، كالمذاهبِ الأربعةِ، وغيرِها، بل قالَ غيرُ واحدٍ مِن الفقهاء: «أجمعوا ــ أي: العلماء ــ على أنَّ النَّاشِزَ لا نفقةَ لَهَا».
وكذلكَ التي فارقتْ زوجَها وتركتْهُ لِعيبٍ فيه، لا نفقةَ لَها عندَ أكثرِ العلماء، لأنَّ أعظمَ مقاصِدِ الزَّواج قدِ انقطَعتْ بينهما، ومِثلُها: التي حبسَها أهلُها ومنعوها عن زوجِها.
أيَّها المسلمون:
يجِبُ على الزَّوجِ باتفاقِ العلماء: أنْ يُنفِقَ على زوجتِهِ في حضُورِه، وفي غَيبتِهِ وسفرِهِ، طالتْ مُدَّةُ غِيابِهِ أو قصُرَت، حيثُ قال الإمامُ الشافعيُّ ــ رحمه الله ــ: «وجعلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الزَّوجِ نفقةَ امرأتِهِ، فلم يَختلِفِ المسلمونَ ــ فيما علِمتُهُ ــ في أنَّ ذلكَ لكلِ زوجةٍ، على كلِ زوجٍ غائبٍ وحاضِر».
ولا تَسقطُ نفقةُ الزَّوجةِ ــ عند أكثر العلماء ــ بإعسارِ الزَّوجِ أو تَركِهِ لهَا فيما مضَى أو غِيابِه، بل تَبقَى في ذِمَّتِهِ دَينًا عليه، لأنَّها حقٌّ واجبٌ قد تعيَّنَ عليه في وقتِه، ولا يَسقطُ إلا بالأداءِ أو الإبراءِ والمُسامحةِ كباقِي الدِّيون، وذلك لِمَا ثبتَ: (( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ــ رضي الله عنه ــ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ, فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأخُذُوهُمْ بِأَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا، فَإِنْ طَلَّقُوا, بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا )).
ويَحِقُّ للزَّوجةِ طلبُ فسْخُ عقدِ الزواجِ بإعسارِ الزَّوجِ وامتناعِه عن الإنفاقِ عليهِا عندَ أكثرِ العلماءِ، لأنَّ عدمَ الإنفاقِ ليسَ عِشرةً لَها بالمعروف، وقد قالَ اللهُ سبحانه: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }، وصحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضي الله عنهما ــ قال: (( كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ: «أَنِ ادْعُ فَلَانًا وَفُلَانًا ــ نَاسًا قَدِ انْقَطَعُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَخَلَوْا مِنْهَا ــ، فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِنَّ بِنَفَقَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقُوا وَيَبْعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى» )).
أيَّها المسلمون:
المُطلَّقةُ الرَّجعية التي طلَّقها زوجُها طلقةً واحدةً أو طلقتين، يَجبُ عليها أنْ تَبقَى ساكنةً في بيتِ زوجِها، ولا يجوزُ لهَا أنْ تخرُجَ مِنهُ، ولا يجوز لِزوجِها أنْ يُخرِجَها مِنهُ، حتى تنتهِيَ عِدَّتُها، لِقولِ اللهِ سبحانه: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }.
ويَجبُ على الزَّوجِ نفقَتُها وسُكناها في عِدَّة هذا الطلاقِ الرَّجَعِيِّ، حامِلًا كانتْ أو غيرَ حاملٍ، لأنَّها لا تَزالُ زوجةً، وذلكَ لأمرِ اللهِ تعالى في شأنِ المُطلقاتِ: { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ }، وعلى هذا اتفقَ العلماءُ، حيثُ قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ المالِكيُّ ــ رحمه الله ــ: «اللواتِي لأزواجِهنَّ عليهنَّ الرجعةُ لا خلافَ بينَ علماءِ الأُمَّةِ: في أنَّ النفقةَ لهنَّ، وسائرَ المَؤنةِ على أزواجهنَّ، حوامِل كُنَّ، أو غيرَ حواملَ، لأنَّهن في حُكم الزَّوجاتِ في النفقةِ والسُّكنَى والميراثِ ما كُنَّ في العِدَّة».
وكذلك المرأةُ الحامِلُ المُطلَّقة طلاقًا بائنًا مبتوتًا، يجبُ على الزَّوجِ أنْ يُنفِقَ عليها ويُسكِنَها حتى تضعَ حمْلها، لِقولِ اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ في المُطلَّقاتِ المَبتوتَاتِ: { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ }»، وباتفاقِ العلماء، حيثُ قالَ الإمامُ ابنُ قُدامَةَ الحنبليُّ ــ رحمه الله ــ: «الرَّجلُ إذا طلَّقَ امرأتَهُ طلاقًا بائنًا، فإمَّا أنْ يكونَ ثلاثًا، أو بِخُلْعٍ، أو بانَتْ بِفَسْخٍ، وكانت حاملًا: فلَها النَّفقةُ والسُّكنَى بإجماعِ أهلِ العلمِ، ولأنَّ الحمْلَ ولدُه، فيَلزمُهُ الإنفاقُ عليه، ولا يُمكِنُهُ النَّفقةُ عليه إلا بالإنفاقِ عليها، فوجَب».
وأمَّا المُطلَّقة طلاقًا بائنًا ــ إذا لم تكن حاملًا ــ وهيَ في العِدَّة، فلا نفقةَ لَها عندَ أكثرِ أهل العلمِ، ولا سُكنَى لَها أيضًا في أصحِّ قولَيِّ العلماء، لِمَا أخرجهُ الإمامُ مسلمٌ في “صحيحه”، عن فاطمةَ بنتِ قيسٍ ــ رضي الله عنها ــ: (( أَنَّهُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: وَاللهِ لَأُعْلِمَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ لِي نَفَقَةٌ أَخَذْتُ الَّذِي يُصْلِحُنِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِي نَفَقَةٌ لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَا نَفَقَةَ لَكِ، وَلَا سُكْنَى» )).
هذا وأسألُ اللهَ تعالى: أنْ يُؤلِّفَ بينَ الأزواج، ويزيدَهُم أُلفَةً ورحمَة، ويجعلَ زواجَهم سعادةً لهم، وعونًا على الخيرِ،، إنَّه سميعُ مُجيب.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ المُنفردِ بكلِّ الحمدِ والثناء، والصلاةُ والسلامُ الأفضلانِ على رسولِه خاتَمِ الأنبياء، وعلى آلِه وأصحابه النُّجَباء.
أمَّا بعدُ، أيَّها المسلمون:
فأوصيكُم ونفسِي بطاعةِ اللهِ وتقواهُ ومرْضاتِه، فهيَ سببُ كلِّ خيرٍ وفلاح، وأُحَذِّرْكُم مِن معصيتِه، فإنَّها سببُ كلِّ شَرٍّ وبلاء، حيثُ قالَ اللهُ سبحانهُ آمِرًا: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }، وقال تعالى مُرهِّبًا: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }.
واعلموا أنَّ العدلَ بينَ الزَّوجات في النَّفقة مطلوبٌ ومُتأكِّدٌ شرعًا، بل ذهبَ عديدٌ مِن العلماءِ إلى وجوبِه، لِقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي صحَّحهُ عديدٌ مِن العلماءِ: (( مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ ))، وقالُ أكثرُ العلماء: إذا قامَ الزَّوجُ المُعدِّدُ بالقدرِ الواجبِ مِن النَّفقة، والكفايةِ لكلِ واحدةٍ مِن زوجاتِهِ بالمعروفِ، فلا تَجبُ عليه التسويةُ بينَهُنَّ في ما زادَ على ذلكَ، ولكنْ يُستحَبُ، وهو الأفضلُ، والأسلَم.
والزَّوجةُ العاملةً أو الموظفةُ، يجبُ على الزَّوجِ أنْ يُنفِقَ عليها إذا كانَ خروجُها للعملِ بإذنِهِ ورِضَاهُ، أو بشرطٍ قبلَ الزَّواجِ قد وافقَ عليه، ورضِيَ بِه، لأنَّه قد أسقطَ حقَّهُ وحُقوقَهُ في وقتِ عملِها، ولا يجبُ عليها أنْ تُسهِمَ معهُ بشيءٍ مِن أُجرَةِ عملِها وراتِبِها في النَّفقة، لكن إنْ إذِن لَها بالعملِ بشرطِ مُساعدتِهِ في النَّفقة، والتخفيفِ عنه فيها، فهُما على ما اشترَطا، وعلى ما تصالحَا عليهِ واتَّفقا، وإنْ ساهمَتْ معهُ في النَّفقةِ مِن بابِ التطوُّعِ فحِسنٌ وجميل، وهوَ مِن طِيبِ عِشرَتِها لِزوجها، لاسِيَّما إذا كانَ قليلَ المالِ، لِما صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئلَ: (( أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي، وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ ، فَقَالَ: «نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ، أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ» )).
والزَّوجةُ المسافرةُ: إنْ كانَ سفرُها بغيرِ إذنِ زوجِها ورِضاهُ لأمرٍ مُستحَبٍّ أو مُباحٍ، فلا يَجبُ على الزَّوجِ نفقتُها في هذا السَّفر، ونُقلَ عليهِ اتفاقُ الفقهاءِ، وسببُ ذلكَ أنَّها بسفرِها مِن غيرِ إذنِهِ ورضاهُ قد منعَتهُ مِن حقوقهِ الواجبةِ عليها.
وإنْ كانَ سفرُها بإذنِهِ ورضاهُ، فمحَلُ خلافٍ بينَ العلماءِ، فمِنهُم مَن قال: تجبُ عليهِ النَّفقةُ، لأنَّه بإذنِهِ لَها قد أسقطَ حقوقَهُ الواجبةَ عليها، ومِنهُم مَن قال: لا تجبُ عليه نفقتُها في هذا السفر، لأنَّ سَفرها وقعَ لأجلِ مصلحةِ نفسِها، وفوَّتَت به حقوقَ زوجِها الواجبة، لكنَّ إنفاقَهُ مِن عِشرتِهِ الحسَنِة.
وإذا امتنعَتْ الزوجةُ مِن السفرِ مع الزَّوجِ مِن غيرِ عُذرٍ لَها، ولا ضررٍ عليها، فلا يَجبُ على الزَّوجِ نفقتُها مُدَّة سفرِه هذا عندَ أكثرِ العلماء، لتَعطِيلِها حقوقَهُ الواجبةَ عليها لهُ في هذهِ المُدَّة.
اللهمَّ ـ يا ذا الجلالِ والإكرامِ ــ: لا تجعلْ لَنَا ولا معَنَا أيِّمًا ولا أعزَبَ إلا زوَّجْتَه، ولا ذُرِّيَّةً إلا باركتَ لَنَا فيها، اللهمَّ اجعلْ زواجَ المسلمينَ زواجَ خيرٍ وبَركةٍ وتعاونٍ على البِرِّ والتقوى، اللهمَّ جنِّبنَا كيدَ الكائدين، ومَكرَ الماكِرين، وإفسادَ الفاجِرين، وأصلِحِ العبادَ والبلادَ، وسدِّدِ الوُلاةَ ونُوَّابَهُم، إنَّك سميعُ الدعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.