أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الرَّفيعة وآدابه الجميلة
الخطبة الأولى: ــــــــــــــ
أحمد الله الغني الكريم على إِفضاله، وأشكره على توالي آلائِه، وأشهد له بالإلهية واستحقاق العبادة، فأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نِد ولا نَظير، وأصلِّي وأسلِّم على أشرف مخلوقاته، وخاتم أنبيائه، وأشهد له بالعبودية والرسالة فأشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله إلى العالَمين رحمة، وأُثَنِّي بالصلاة والتسليم على أهل الإيمان مِن آل بيته، ومعهم أصحابه الأئمة الميامين البَررة، وأطلبها مِن الله لنا جمبعًا، فاللهم استجب.
أمَّا بعد، فيا أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم:
قد قال ربُّكم ــ جلَّ وعلا – داعيًا لكم ومُرغِّبًا في سورة الأحزاب: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ }.
فأبانت هذه الآية الجليلة: أنَّ مَن كان يرجو الله واليوم الآخر، فإنَّ ما معه مَن الإيمان، وخوفِ اللّه، ورجاءِ ثوابه، وخوفِ عقابه، يحثُّه على التأسِّي والاقتداءِ والاهتداء بالرسول صلى اللّه عليه وسلم في اعتقاداته وأقواله وأفعاله.
فاقتدوا وتأسَّوا واهتدوا بِه ــ صلوات ربِّي وسلامه عليه ــ في جميع أموره وأحواله، لاسِيَّما أخلاقه الشريفة الجميلة، وأدبَه الرَّفيع العالي، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا خُلق عظيم عالٍ كريم، وأدب طيِّب جليل، لا نظير له فيه ولا مثيل، شَهدَ له بذلك ربُّه سبحانه في أوَّل سورة القلم، فقال في تقرير ذلك: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }.
وشَهد له بذلك مَن عاشره وخالطه وجالسه، وهُم أصحابه ــ رضي الله عنهم ــ، فصحَّ عن البراء بن عازب وأنس بن مالك ــ رضي الله عنهما ــ أنَّهما قالا: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ))، وصحَّ عن سعد بن هشام ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( سَأَلْتُ عَائِشَةَ ــ رضي الله عنها ــ فَقُلْتُ: أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ )).
وتعني ــ رضي الله عنها ــ بذلك: أنَّه صلى الله عليه كان يتأدب بما جاء في القرآن مِن آداب طيِّبة، ويتخلَّق بِما ذُكِر فيه مِن أخلاق عالية، ويَعمل بما جاء فيه مِن مكارم ومحاسن وصفات طيِّبة جليلة، تُزيِّنه وترفعه في الدنيا والآخرة.
وشَهد له الناس بذلك قبل أنْ يُبعث، فصحَّ أنَّ ملك الروم هِرقل قال لأبي سُفيان قبل إسلامه: (( وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَزَعَمْتَ: أَنْ لاَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ))، وصحَّ أنَّه صلى الله عليه وسلم حين كان يتعبَّد في غار حِراء قبل أنْ يُبعث، نزل عليه المَلَكُ جبريل ــ عليه السلام ــ، فجَرى بينهما ما جَرى، ورجع إلى بيته في خوف شديد يرتَعد، يُخبِر زوجه أمّ المؤمنين خديجة ــ رضي الله عنها ــ بأنَّه خَشِي على نفسه، فقالت تُثَبِّتُه: (( كَلَّا أَبْشِرْ، فَوَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، وَاللهِ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ))، بل إنَّ تتميم صالحِ الأخلاق ومكارِمها مِن مقاصد بعثته العظيمة، وإرساله للناس هُدىً ورحمة، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ )).
فمِن أخلاقه صلى الله عليه وسلم الطيِّبة الجميلة الجليلة:
لِينُ الجانِب واستعمالُ اللِّين مع المؤمنين، فلا يُعاملهم بالخشونة والغِلظة، ولا يُقابلهم بالعُنف والشِّدة والفَظاظة، ولا يُهينهم بالسِّباب والشِّتائم، ولا يَعتدي عليهم بالأذية والضَّرب، بل تراه حسَنَ المعاشرة معهم، لطيفَ القول إنْ حادثهم، رفيقًا بِهم، سهلًا لا يُثقِل عليهم، سمحًا لا يغمهم، وقد وصف الله ــ عزَّ وجلَّ ــ خلقه هذا في سورة آل عمران مُمتنًّا عليه فقال سبحانه: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }.
وهذا خادمه أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ قد خدمه سِنين عديدة، ثم يقول في شأنه معه كما في الحديث الصحيح: (( خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟ وَلَا عَابَ عَلَيَّ شَيْئًا قَطُّ ))، وفي لفظ آخر بإسناد صحيح عنه ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، لَا وَاللَّهُ مَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ ))، وصح عنه ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ، يَا رَسُولَ اللهِ ))، وصحَّ عن أبي عبد الله الجَدلي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( سَأَلْتُ عَائِشَةَ ــ رضي الله عنها ــ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ )).
وجاء في حديث نبَوي حسَّنه التِّرمذيُّ والبغَوي والمُنذري والمُناوي والألباني ــ رحمهم الله ــ عن عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَوْ مَنْ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ )).
ومِن أخلاقه صلى الله عليه وسلم الطيِّبة الجميلة الجليلة:
الإعراضُ عن الجاهلين والسُّفهاء إذا خاطبوه بما لا يَليق مِن القول، أو عاملوه بما لا يَحسُن مِن المعاملة، فيَحتمِل أذاهم، ولا يَلتفِت إلى ما قالوا أو فعلوا، ولا يُعاملهم بالمثل، ولا يَمتنع عن مقابلتهم بعدها بالإحسان والعدل، امتثالًا لأمْر ربِّه ــ عزَّ وتقدَّس ــ في سورة الأعراف حيث قال سبحانه: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }.
فأمَر اللّه تعالى في هذه الآية الجليلة: أنْ يُقابَل الجاهل بالإعراض عنه، وعدمِ مقابلة جهله بجهلٍ مثله، فمَن آذاك بقوله أو فِعله لا تُؤذِه، ومَن حَرَمَك لا تَحِرِمه، ومَن قطعَك فَصِلْهُ، ومَن ظلمك فاعدل فيه أو اعْفُ عنه، ومَن تكلَّم فيك غائبًا أو حاضرًا فعامله بالقول اللِّين، ومَن هجَرك وترَك خطابك فطيِّب له الكلام، وابذُل له السلام.
وقد قال سبحانه في وصف عباده المُتقين المخلَصين: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا }، أي: خاطَبوهم بخطاب طيِّب جميل يَسْلمون فيه مِن الإثم، ويَسْلمون مِن مقابلة الجاهل بجهله، وهذا مدح لهم، بالحِلم الكثير، ومُقابلة المُسيء بالإحسان، والعفوِ عن الجاهل، ورَزانةِ العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال.
وقد صحَّ عن أمَّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))، وصح عن أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ ))، وصحَّ عن أمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلِمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ )).
واحتمالُ أذيةِ الناس، ودفعُها بالصفح والعفو، ومقابلتُها بالصَّبر والحِلم، ورأبُها بالقول اللِّين والفِعال الطيِّبة ــ مع ما فيه مِن أجْرٍ كبير، وثوابٍ عظيم، وحسَناتٍ مُتزايدة ــ، فهو يُصلِح النفوس، ويُزيِل أحقادها وأضغانها، فينقَلِب العدو إلى صديق، والمُبغِض إلى مُحٍب، ومتتبِّع الزَّلات إلى سَادّ لها، وساتِر عليها، وقد قال الله ــ جلَّ وعزَّ ــ مُحرِّضًا ومُشوِّقًا إلى هذا الخلق الطيِّب الجميل في سورة فُصِّلت: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }.
وهذه الخصلة الحميدة التي هي مِن خصال خواص الخَلق، ومِن أكبر مكارم الأخلاق، وهي الدفعُ بالتي هي أحسن، ومقابلةُ الإساءة بالإحسان ما يُلَقَّاها ويُوفَّق لها إلا الذين صَبروا نفوسهم على ما تَكره، وأجبروها على ما يُحَبه الله، فإنَّ النفوس مجبُولةٌ على مُقابلة المُسيء بإساءته، وعدم ِالعفو عنه، فكيف بمقابَلة إساءته بالإحسان إليه، فإذا صَبَر الإنسان نفسه، وامتثل أمْر ربِّه، وعرَف جزيل الثواب، وعلِم أنَّ مقابلتَه للمسيء بجِنس عمله، لا يُفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شِدَّة، وأنَّ إحسانه إليه ليس بواضعٍ قدْرَه، بل مَن تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر، وفعَل ذلك، مُتلذِّذًا مُستحلِيًا له.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ مِن تقواه أنْ تتخلَّقوا بكل خُلق جميل، وتنُزِّهوا أنفسكم عن كل خُلق رذيل، فإنَّ العبد لا يَزال يترقَّى بأخلاقه العالية، ويرتفع بآدابه السَّامية، ويَثْقُل ميزانه بمكارمه، ولا يزال يَسْفُل في أخلاقه، ويَنزل في آدابه، ويَنحطُّ في مكارمه، حتى يَهبِط إلى أسْفل الدَّركات، وتَثْقُل صحيفته بالآثام والخطيئات.
فاللهم اغفر لنا وتجاوز عن سيئاتنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــ
الحمد لله العليمِ الحليم، الودودِ الغفور، الذي جعلَ الأدب الشَّرعيَّ عنوان التوفيق، ومَنَّ بِه على مَن شاء مِن عباده فهداهم إلى جميل الأخلاق، وأكمل الآداب، وخَذَلَ مَن شاء مَنهم بحكمته فانحطوا في أسافل الأخلاق، ورذائل الأحوال، وشَرِس الطباع، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد أحسَنِ الناس خُلقُا، وأعلاهم أدبًا، وأفضلهم طِباعًا، الذي أدَّبَه ربُّه فأحسنَ تأديبَه، وأثنى على خُلقه ووصفه بالعظيم ليُقتدى بِه فيه، ويُنسَجَ على مِنواله، وعلى آله وأصحابه إلى يوم الحشر والمعاد.
أمَّا بعد، فيا أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم:
إنَّكم لتعلمون ما للأدب الجميل، والخُلق الحسن الرفيع، مِن آثار طيِّبة جليلة، وقَبولٍ واحتفاء، وذِكر ٍعاطرٍ ظاهر، وتشريفٍ وتكريم، ومنزلةٍ عالية رفيعة عند الله سبحانه، وعند عباده، صغيرِهم وكبيرِهم، ذكرهِم وأنثاهم، وفي الدين والدنيا والآخرة، وتعلمون كثرة النُّصوص النَّبوية المُرغِّبة في حُسن الأخلاق وتتميمها، والمُحرِّضة على التخلُّق بِها وتطييبها، والمُرهِّبة مِن سوء الأخلاق، ومِن التلوُّث بِها، والوقوع في أوحالها، وقد ثبت أنَّ أحد الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ طلب مِن النبي صلى الله عليه وسلم الوصية، فقال له صلى الله عليه وسلم: (( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ))، وصحَّ أن رجلاً من الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِرِّ والإثم، فأجابه بقوله: (( الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ))، وثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم سُئِل عن أكثر ما يُدخِل الناس الجنَّة، فقال صلى الله عليه وسلم: (( تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ ))، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ أحسن الناس أخلاقًا مِن خِيار الأمَّة، فقال صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقاً ))، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه أعلَم عن حُسن الخُلق وما له مِن ثِقلٍ في ميزان العبد يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم: (( مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ ))، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه أبَان عن المؤمن وما يُدركه مِن الدرجة العالية بسبب حُسن خُلقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ))، وثبت أنَّ أحبَّ الأمَّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقربَهم مجلسًا مِنه يوم القيامة أحسنهم خُلقًا، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً ))، وبيَّن صلى الله عليه وسلم منزلة حُسن الخُلق مِن الإيمان، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً ))، بل إنِ مَن حَسُن خُلقه موعود ببيت في أعلى الجنَّة، حيث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّاً، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحاً، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ )).
أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد ثبت أنَّ من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو بِه: (( اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي، فَأَحْسِنْ خُلُقِي ))، فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيئها لا يَصرف عنَّا سيئها إلا أنت، اللهم إنَّا نعوذ بك مِن الشِّقاق والنفاق وسوء الأخلاق، اللهم ارفع الضر عن المتضررين مِن المسلمين، اللهم ارفع عنهم القتل والاقتتال، وارفع عنهم الخوف والجوع والتشرد، وارفع عنهم الأوبئة والأمراض، وارزقهم إيمانًا متزايدًا، وصبرًا وثباتًا، وثقة بك، وتوكلًا عليك، وأعذنا وإيَّاهُم مٍن الفتن ما ظهر مِنها وما بطن، اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وسائر أهلينا ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، اللهم مَن كان مِنهم حيًّا فزده إيمانًا بك ويقينًا، وتقويةً على طاعتك وإقبالًا، ومَن كان مِنهم مَيْتًا فارزقه مِنك رحمة واسعة، تَفسح له بِها في قبره، وتجعله فيه مِن المثنعمِين، وتدخله بعد ذلك جنَّة عدن، وتعطيه فيها مُلكُا كريمًا، ورضوانًا مِنك أكبر، اللهم أصلح ولاتنا ونوَّابهم وجندَهم، وأعنهم على الخير، وسدِّدهم إلى مراضيك، إنك سميع الدعاء.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.