الأحاديث النَّبوية بين قَبول وانقياد المؤمنين ورَدِّ ومُعارضَة التغريبيين والمُبتدِعين
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي بيدِهِ ملكوتُ كلِّ شيءٍ، يَهدِي مَن يشاءُ، ويُضِلُ مَن يشاءُ، ولا يَظلِمُ ربُّكَ أحدًا، أنزَلَ السُّنةَ والكتابَ، وعلَّمَ القرآنَ والحِكمَةَ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ محمدٍ المَبعوثِ بالحقِّ والهُدَى، الذي لم يَترُكْ شيئًا يُقرِّبُ مِن الجنَّةِ ويُباعِدُ عن النَّارِ إلَّا ودَلَّ أُمَّتَهُ عليهِ، ورَضِيَ اللهُ عن أصحابِهِ وأزواجِهِ وآلِ بيتَهِ وأتباعِه إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ، أيُّها المؤمنونَ بالسُّنَّةِ والقرآنِ:
فإنَّ السُّنَّةَ النَّبويةَ، هيَ: «أحاديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحَة»، وهيَ: «ما ثَبَتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم مِن أقوالٍ وأفعالٍ وتقريراتٍ»، وإنَّ هذهِ السُّنَّةَ اليومَ لَتُحارَبُ أشدَّ حرْبٍ، وتُغزَى غزوًا كبيرًا، وتُهاجَمُ مِن جهاتٍ كثيرةٍ، وبِسُبُلٍ شَتَّى، ويُسْعَى لِتعطِيلِ العملِ بِها باستمرارٍ، يقومُ بذلكَ التَّغرِيبِيُّونَ مِن العَلمانِيينَ واللبرَالِيينَ واليَساريينَ والإلِحادِيينَ والشيوعِيينَ مِن بَنِي جلدَتِنا، الذينَ يَنطقونَ بلُغَتِنا، ويَعيشونَ بينَنا، وفي أكنافِ بُلدَانِنا، ومَعَهُم صُنوفٌ مِن أهلِ البدعِ والأهواءِ، الذينَ تفرَّقوا في دِينِهِم شِيَعًا وأحزابًا وجماعاتٍ وطُرقًا، حيثُ فعلوا فِعلَهُم، وعاونُوهُم ونَصَرُوهُم، وفتَحوا لَهُم الأبوابَ بإيجادِ السُّبُلِ والطُّرقِ المُؤدِّيَةِ إلى ذلكَ، والمُسَهِّلَةِ لَه، ومِن ورَاءِ هؤلاءِ اليومَ يَؤُزُّهُم عليهِ أزًّا، ويَدفَعُهُم إليهِ كثيرًا، ويَنصُرُهُم عليهِ شديدًا، ويَعِدُهُم ويُمَنِّيهِم فيهِ باستمرارٍ أهلُ الكُفرِ، ودُعاةُ التنصيرِ، وطوائفُ الشُّذوذِ والانحلال، والزَّاعِمونَ بأنَّهُم لادِينِيُّونَ، والدَّولةُ الماسُونيَّةُ العَميقَة، والإعلامُ القبيحُ الفاسِدُ الذي تُحرِّكُهُ أيدِي رُؤوسِ الصُّهيونيَّةِ العالميةِ، ومَن تحتَ سَقفِها مِن أصحابِ الأموالِ الكُبرى، وتحتَ حضانَتِها ومُفكِّرِيها مِن جامعاتٍ، ومُنظَّماتٍ، وجمعيَّات، وقومِيَّات، وشُعوبيَّة، وطائفيَّةٍ.
وُكلُّ هذا لأجلِ هدْم الإسلام، لأنَّهُ إذا هُدِمَتْ السُّنَّةُ النَّبويةُ التي هيَ: «أحاديثُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحة»، في نُفوسُ أهلِ الإسلامِ بأنواعِ الحِيَلِ والشُّبَهِ والتشويهاتِ والافتراءات والتشكيكاتِ، وأُغْرِقَ المسلمونَ بالشِّركياتِ والبدعِ والمعاصِي والفسادِ والفُجورِ والمُنكَرات، سَهُلَ عليهِمُ الوصولُ إلى القرآنِ، وهدْمِ أحكامِهِ ومعانِيهِ والعملِ بِهِ في نفوسِ المسلمين، حتى إنَّ القرآنَ في آخِرِ الزَّمانِ بأسبابِ ذلكَ ومِن جرَّائِهِ لَيُرفَعُ مِن الأرضِ، ويَذهبُ ويَزولُ مِن صُدورِ الرِّجالِ، فلا يُوجَد مَن يَحفظُ مِنهُ شيئًا، حيثُ صحَّ أنَّ ابنَ مسعودٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( لَيُسْرَيَنَّ عَلَى الْقُرْآنِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَلَا يُتْرَكُ آيَةٌ فِي مُصْحَفٍ، وَلَا فِي قَلْبِ أَحَدٍ إِلَّا رُفِعَتْ ))، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا )).
ألَا فاتقوا اللهَ ــ عِبادَ اللهِ ــ في سُنَّةِ وأحاديثِ نبيِّكُم صلى الله عليه وسلم، اعتصِموا بِها، وتمسَّكوا بما جاء فيها، واعملوا بأحكامِها، فإنَّها سَببُ نجاتِكُم، ومِن آخِرِ ما عهِدَ إليكُم ووَصَّاكُم بِهِ نبيِّكُم صلى الله عليه وسلم، حيثُ صحَّ أنَّ العِرباضَ بنَ سارِيَة ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ))، وصحَّ أنَّ الإمامَ الزُّهرِيَّ تلميذَ الصحابةِ قال: (( كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: «الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ» )).
أيُّها المؤمنونَ بالسُّنَّةِ والقرآنِ:
إنَّ مِن مَعاوِلِ هدْم السُّنةِ النَّبويةِ، والتي هيَ «الأحاديثُ النَّبوية»: الرَّدَ لكثيرٍ مِن أحادِيثِها معَ صِحَتِّها بأنَّها تُخالِفُ العقلَ، وأيُّ عقلٍ هذا؟ إنَّها عقولُ هؤلاءِ الرّاَدينَ وحدَها، وعقولُ مَن كانوا أذنابًا لهُ مِن الكافرينَ، وأمَّا عقولُ مئاتِ ملايينِ المسلمينَ التي آمَنَتْ بهذهِ الأحاديثِ، وقبِلَتْها، مِن حينِ نطقَ بِها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وحتى اليومَ، فهيَ غيرُ مُعتبَرةٍ عندَهُم، ومُلغَاةٌ لا وزَنَ لهَا مع عُقولِهِم، فأيُّ دِكتاتُورِيَّةٍ يسيرُ عليها هؤلاءِ؟ حتى معَ دِينِ اللهِ يُريدونَ أنْ نَقِفَ معَهُ على وِفْقِ عُقولِهِم، وما يَشتهيهِ سادَتُهُم مِن الكافرينَ، ولا تَزالُ كُتبُ التاريخِ تَشهدُ، ورُدودُ العلماءِ تَزْخَرُ بخبَرِ ذلكَ الشيخِ الأزهريِّ المُعمَّمِ الذي كانَ مُترَبِّعًا على عرْشِ الافتاءِ والتدريسِ في بعضِ القنواتِ التِّلفزِّيُونيَّةِ والإذاعاتِ والمَجلَّاتِ، حينَ قالَ عن حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحِ الذي أخرجَهُ البُخاريُّ في “صحيحه” (( إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً )): «هذا الحديثُ لا أقبَلُهُ، وأضَعُهُ تحتَ قدَمِي»، لأنَّهُ عرَضَهُ على عقلِهِ الناقصِ القبيحِ اعتقادًا فلَم يَقبَلْهُ واستَهجَنْه، معَ قَبولِ عقولِ أهلِ السُّنةِ والإيمانِ لَهُ، وتصدِيقِهِم بخبَرِهِ، حتى جاءَ الطِّبُ الحديثُ فأخزَاهُ زيادةً وفضَحَهُ، حيثُ درَسَ الذُّبابَ وأجنِحتَهُ مِخبَرِيًّا، فوجدَ الأمرَ في جناحَيهِ كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبلَ أكثرِ مِن ألفٍ وأربَعِمِئَةِ سَنَة.
ومِن مَعاوِلِ هدْم السُّنةِ النَّبويةِ، والتي هيَ «الأحاديثُ النَّبوية»: الرَّدُ لكثيرٍ مِن أحادِيثِها في بابِ العقيدةِ معَ صِحَّةِ أسانيدِها بأنَّها أحاديثُ آحادٍ، وليسَتْ بِمُتواتِرَةٍ، ويَعنونَ بذلكَ: «أنَّه لم يَروِهَا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم جمْعٌ مُتعدِّدٌ مِن الصحابةِ»، تَحَكُّمًا في الدَّينِ بعُقولِهِم، لِتَمشِيَ مذاهِبُهم في الناسِ، ويَقبلونَها، ويُتَّبِعونَ عليها، ويَروجَ باطلُهُم وفِرَقُهُم، معَ أنَّ هذا التفريقَ باطلٌ شرعًا، ولم يأتِ في القرآنِ، ولا عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرَفُ عن الصحابةِ، ولا عن التابعينَ لَهُم، ولا عن باقِي سَلفِ الأُمَّةِ الصالحِ، ولا عن أئمةِ المذاهبِ الأربعة، ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يُثبِتَ عنهُم شيئًا في ذلكَ أبدًا.
وقد رَدَّ اللهُ تفريقَهُمُ الباطلَ هذا، فقالَ سُبحانَه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }، حيثُ لم يَشترِطْ سُبحانَهُ في خَبَر الفاسقِ الواحدِ إلا التَّثبت، فدَلَّ على قَبولِ خبَرِ الواحدِ الثقةِ، وهذا يُبطِلُ اشتراطَ التَّواتُر، فكيف إذا كانَ هذا الواحدُ صحَابيًّا، إذِ الصحابةُ جميعًا عُدُولٌ ثقاتٌ أثباتٌ باتفاقِ العلماء.
ورَدَّت السُّنةُ النَّبويةُ تفريقَهُمُ الباطلَ هذا، فأخرَجَ البُخاريُّ ومسلمٌّ، عن ابنِ عباسٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ ))، وهذا الحديثُ في بابِ العقائدِ وبابِ العباداتِ، بل في الأصولِ الكُبرى للإسلامِ التي عليها مدارُ الدِّينِ، ومع ذلكَ أرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأجلِ إعلامِهِم بِها وتعليمِهِم إيَّاها رجلًا واحدًا مِن أصحابِهِ، فدَلَّ على بُطلانِ اشتراطِ التَّواتُر.
ومِن مَعاوِلِ هدْم السُّنةِ النَّبويةِ، والتي هيَ «الأحاديثُ النَّبوية»: الرَّدُ لكثيرٍ مِن أحادِيثِها معَ صِحَتِّها بأنَّها لم تَرِدْ أحكامُها في القرآنِ، وهذا معناهُ: أنَّهُم يُنكِرونَ حُجِّيَّةَ السُّنةِ النَّبوية، وإنكارُ حُجِّيَّتِها كُفرٌ باتفاقِ العلماءِ، وقد قالَ الفقيهُ ابنُ حزْمٍ: «لو أنَّ امْرَأً قالَ: “لا نأخذُ إلا ما وجدْنا في القرآنِ” لكانَ كافرًا بإجماعِ الأُمَّةِ».
وباطِلُهُم هذا منقوضٌ بالقرآنِ والسُّنةِ وإجماعِ العلماءِ، لا خلافَ بينَهُم في ذلك، لأنَّ السُّنةّ النَّبويةَ الصَّحيحةَ وحْيٌ مِن اللهِ لِرسولِهِ صلى الله عليه وسلم كالقرآنِ، يجبُ تصديقُها واتِّباعُها والعملُ بها، حيثُ قالَ اللهُ سُبحانَهُ في شأنِ ما جاءَ بِهِ رسولُهُ صلى الله عليه وسلم: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }، وصحَّ أنَّ حسَّانَ بنَ عطيَّةَ تلميذَ الصحابةِ قال: (( كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ ))، وقالَ اللهُ سُبحانَهُ آمِرًا نساءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ }، والحِكمةُ هُنا هيَ: «سُنَّةُ وأحاديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحَة»، كما قالَ علماءُ التفسيرِ والفقهِ والحديثِ والأُصولِ، وصحَّ عن قتادةَ تلميذِ الصحابةِ، وقد قالَ إمامُ أهلِ التفسيرِ ابنُ جريرٍ الطبريُّ عن معنى هذهِ الآية: «ويَعنِي بالحِكمَة: ما أُوحِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أحكامِ دِينِ اللهِ، ولم يَنزِلْ بِهِ قُرآنٌ، وذلكَ السُّنة»، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في الكشْفِ عن حالِ هؤلاءِ ورَّدِ باطلِهِم هذا: (( لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَا نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ )), وقالَ الإمامُ الشافعيُّ ــ رحمه الله ــ في نقضِ باطلِهم هذا: «أجمعَ المسلمونَ على أنَّ مَن استبانَتْ لهُ سُنَّةُ رسولِ الله ِصلى الله عليه وسلم لم يَكنْ لهُ أنْ يَدَعَها لِقولِ أحدٍ مِن الناسِ».
ومِن مَعاوِلِ هدْم السُّنةِ النَّبويةِ، والتي هيَ «الأحاديثُ النَّبوية»: التَّعرُّضُ لأصَحِّ كتابَينِ في السُّنةِ النَّبويةِ باتفاقِ العلماء بالطعنِ والقدْحِ والتشويهِ والتلبيسِ والتشويشِ والتشكيكِ، وهُما: «صَحِيحَا البُخاريّ ومُسلِم»، لأنَّهُم: إذا أسقَطوا منزِلَتَهُما في نفوسِ المُسلمينَ، ومَن يأتِي بعدَهُم مِن الأجيَالِ، وشكَّكُوهُم فيهما، سَهُلَ عليهِم بعدَ ذلكَ إسقاطُ باقِي كُتبِ السُّنةِ التي أورَدتْ أحاديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبالتالي تسقطُ أكثرُ أحكامِ الشريعةِ، فيَسقُطَ الإسلام.
نفعَنِي اللهُ وإيَّاكُم، بما سمعتُم، وأحيانا باتِّباعِ السُّننِ، واجتنابِ البدعِ.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي بنعمَتِهِ تَتِمُّ الصالحاتُ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، ورَضِيَ اللهُ عن الصحابةِ أجمعين.
أمَّا بعدُ، أيُّها المؤمنونَ بالسُّنَّةِ والقرآنِ:
فإنَّ مِن مَعاوِلِ هدْم السُّنةِ النَّبويةِ، والتي هيَ «الأحاديثُ النَّبوية»: نَشرَ البدعِ المُخالِفةِ للسُّنةِ النَّبويةِ في الناسِ في المساجدِ والمجالسِ والمدارسِ وبرامجِ التواصلِ، وغيرها، لأنَّ البدعَ مع مُرورِ الأيَّامِ، وتعاقُبِ الأجيال، وموتِ علماءِ أهلِ السُّنةِ أو قِلَّتِهِم في بلادٍ: سَتُزِيحُ السُّننَ، وتُقلِّلُ مِن عملِ الناسِ بِها، وتزيدُ في جهلِهم لَهَا، ولِهذا تَرَى دُولًا واستخباراتٍ ومُنظَّماتٍ وجمعيَّاتٍ وجامعاتٍ لأهل الكُفر تدعَم وبأشياءٍ مُتعدِّدَةٍ ومُختلِفَةٍ كثيرًا مِن أهلِ البدعِ، كرجالاتٍ ورُؤوسٍ في الطُّرقِ الصوفيةِ، وجماعاتٍ تكفيريَّةٍ مُتعدِّدةٍ، وأحزابٍ مُختَلِفَة سمَّتْ نفسَها بإسلامية، وتدعَمُ مذاهبَهُم وطُرقَهُم وجماعاتِهِ، وسَببُ ذلك: أنَّ البدعَ وأهلَها ودُعاتَها يَعودُونَ على الإسلامِ الصِّافِي الذي كانَ عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ بالضَّررِ والإضعافِ والهَدْم وجهلِ الناسِ لَهُ، وقد قالَ حُذيفَةُ بنُ اليَمانِ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ مُرهِّبًا مِن ذلكَ، ومؤكِّدًا وقوعَهُ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَظْهَرَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى لَا يُرَى مِنَ الْحَقِّ إِلَّا قَدْرُ مَا تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ, وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ قَالُوا: «تُرِكَتِ السُّنَّةُ» ))، وصحَّ أنَّ حسَّانَ بنَ عطيَّةَ تلميذَ الصحابةِ قال: (( مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا لَا يُعِيدُهَا عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))، وثبتَ عن ابنِ عمرٍو ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّه قال: (( مَا ابْتُدِعَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا ازْدَادَتْ مُضِيًّا, وَلَا تُرِكَتْ سُنَّةٌ إِلَّا ازْدَادَتْ هَوِيًّا )).
هذا وأسألُ اللهَ ــ جلَّ وعزَّ ــ: أنْ يَنفعَنا بِما علَّمَنا، وأنْ يَزيدَنا فقهًا وعملًا بشرعِه، اللهمَّ اغفر لنَا، ولآبائِنا، وأُمهاتِنا، وجميعِ أهلينا، وعُمومِ المسلمينَ، اللهمَّ، وفِّق الوُلَاةَ ونُوّاَبَهُم وعُمَّالَهُم إلى ما فيه خيرُ الإسلامِ والمسلمين، اللهمَّ أحْيِنَا وتوفَّنا على التوحيدِ والسُّنة، ومُفارَقةِ الشِّركِ والبِدعَة، إنَّكَ سميعٌ مُجِيب، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولَكم.