إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > التربية > خطبة مكتوبة بعوان: ” إلى الخائفين على أنفسهم وذويهم مِن الفقر “.

خطبة مكتوبة بعوان: ” إلى الخائفين على أنفسهم وذويهم مِن الفقر “.

  • 19 مارس 2015
  • 18٬437
  • إدارة الموقع

إلى الخائفين على أنفسهم وذويهم مِن الفقر

الخطبة الأولى:ـــــــــــــــــــ

  الحمد لله اللطيف الذي بلطفه تنكشف الشدائد، الرءوف الذي برأفته تتواصل النِّعم والفوائد، وبُحسن الظن به تجري الظنون على أحسن العوائد، وبالتوكل عليه يَندفع كيد كل كائد، وبالقيام بأوامره ونواهيه تحتوي القلوب على أجلِّ العلوم والفوائد، أحمده سبحانه وحمدي له مِن نِعمه، وأشكره على قمع كل شيطان مارِد، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي تعرَّف إلى خلقه بصفاته وأسمائه، وتحبَّب إليهم بإحسانه وآلائه، ودعاهم إلى مرضاته ومغفرته، فما تقرَّب إليه أحد إلا ورجع بالمكاسب، ولا بَعُد عنه أحد إلا رجع بالمصائب، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صاحب الآيات والمُعجزات والبصائر، أرسله رحمة للعالمين، وبعثه بالحنيفية السَّمْحة، وجعل عنده السَّعة والرحمة، وعند غيره الشِّدَّة والنِّقمة، فصلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى وآله وأصحابه المُحسنين في الأعمال والمقاصد، كلما أمطرت السَّحائب، وأنْبِتت الأجادِب.

أما بعد، أيها الناس:

اتقوا الله ربكم حقَّ تقواه، واخشوه حقَّ الخشية، وعظِّموه أحسن تعظيم، وأجِلُّوه أكبَر إجلال، واعلموا أنَّ مِن شواهد ذلك وصِدقه، وعلامات زيادته وقُوَّته، حصول هذه الأمور الثلاثة لكم:

الأمر الأول: طُمأنينة قلوبكم إلى أنَّ الرِّزق بيد الله وحده، وأنَّ ما كُتب لكم مِنه آتٍ، لنْ يَضيع مِنه دينار ولا درهم ولا أقلّ، ولنْ يتأخر عن وقته يومًا ولا ساعة ولا أقلَّ.

أعاش أجدادنا مِن غير رزق؟ لا والله، أعاش آباؤنا مِن غير رزق؟ لا والله، وكذلك نحن وجميع مَن نعول لنْ نعيش على هذه الأرض إلا بِرزق مِن الله وحده، وقد قال الله ــ عزَّ وجلَّ ــ  مُؤانسًا ومُطمئنًا لنا ـ: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا }.

أي: ما مِن مخلوق يَدُبُّ على وجه الأرض مِن آدمي أو حيوان بَرْيٍّ وبحري، يمشي أو يطير أو يَسبح أو يَزحف إلا على الله رِزقه، لا على شرق وغرب، ولا على حاكم وتاجر، وليس على كريم وجواد، أو قبيلة وعشيرة، أو شركة ومؤسَّسة، أو والد ووالده.

وقال الله ــ جلَّ وعلا ــ  آمرًا لنا ومُرغِّبًا في طلب الرِّزق مِنه: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.

وقال الله ــ عزَّ شأنه ــ مُذكِّرًا ومُنبِّهًا: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }.

ألا فلتهدأ النُّفوس، ولتبرُد الأكباد، ولتَطِب الخواطر، ولتَنتظِم ولا تتعكَّر العقول، فإنَّه ما مِن دابة في الأرض إلا والله مُتكفِلٌ برزقها وقُوتِها وغذائها وما بِه عيشها، وعليه هدايتها إلى أسبابه، وإعانتها في تحصيله.

أيها الناس:

إنَّ تَذَكُّر هذا الأمر والالتفاف إليه والتفكُّر فيه حينًا بعد حين، وساعة بعد ساعة، وفي الرَّخاء والشِّدَّة، ومع الغِنى والفقر، وحال العُسر واليُسر، يقطع على النَّفْس تعلقها بالمخلوقين في الرِّزق، ويُزيل طمعها عمَّا في أيديهم، ويَكُفُّ جشعها، ويِخمِد حسدها، ويَكسِر ضراوتها على الدنيا.

الأمر الثاني: قناعة قلوبكم بما يَسَّر الله تعالى لكم مِن هذا الرِّزق، وهذا القُوت، وهذا اللِّباس، وهذا المَركب، وهذا المسكن، وهذه الوظيفة، وهذا العمل، وهذه المَهنة.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ )).

فبيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم أنَّ مَن حصَلت له هذه الأشياء الثلاثة فقد أفلح:

أولها: أنْ يكون مِمَّن هُدي إلى الإسلام في دنياه، فآمَن بالله ورسوله، وصدَّق بالشرع، وانقاد له، وعمل الصالحات، واجتنب المحرمات،  وكان مِن المحسنين.

وثانيها: أنْ يكون رزقه في دنياه كَفافًا.

والكفاف مِن الرزق هو: ما يَسُدُّ الحاجة، فلا يَلحق صاحبه  الجَهد والضَّنك، ولا يُعرِّضه للذُّل والخِزي بمسألة الناس أو سرقتهم، ولا يُخرِجه إلى التَّرف والتَّنعم والتَّبسُّط في الدنيا، والانكباب عليها.

وأكثر مَن في الأرض لا يخرجون عن هذا الحال، ولا يَنزلون عن درجة الكفاف، وهو حال طيِّب ونفيس ومُسعد لِمَن عقِل وتفكَّر، وأنْصَف وشَكر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله لآل بيته في زمنه وباقي الأزمان أنْ يكونوا مَن أهل هذا الرَّزق، حيث صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً )).

والقوت من الرزق هو: الكفاف.

وقد أخذ كثير مِن أهل العلم مِن هذا الحديث: أنَّ الكفاف في المعيشة أفضل مِن الفقر، وأفضل مِن الغنى.

وصحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى )).

وثالثها: أنْ يكون مِمَّن قنَّعه الله تعالى بما آتاه مِن رِزق كفاف.

وهذا هو الغِنى الطَّيِّب المُسعِد، إنَّه غِنى النفس، ورضاها بما قَسَم الله لها، وراحتها وانشراحها لِمَا قُدِّر مِن عملٍ ومهنة وكسْب، وما قُدِّر مِن مسكن بأجرة أو بغير أجرة، وما قُدِّر مِن ملبوس ومطعوم ومركوب، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَة الْعَرَض، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْس )).

والعَرَضُ هو: ما في الدنيا مِن صنوف الأموال والمراكب والملابس والمساكن وغيرها.

وكان محمد بن المُنكَدِر التابعي ــ رحمه الله ــ يقول: (( القناعةُ مالٌ لا يَنفد )).

وكتب أحد بَني أُمَيَّة إلى أبي حازم ــ رحمه الله ــ يَعزم عليه أنْ يرفع إليه حوائجه ليقضيها له، فكتب إليه أبو حازم: (( أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ جَاءَنِي كِتَابَكَ تَعْزِمُ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَ إِلَيْكَ حَوَائِجِي وَهَيْهَاتَ قَدْ رَفَعْتُ حَوَائِجِي إِلَى رَبِّي، مَا أَعْطَانِي مِنْهَا قَبِلْتُ، وَمَا أَمْسَكَ عَنِّي مِنْهَا قَنِعْتُ )).

أيها الناس:

إنَّ مَن قَنع بما هو فيه قرَّت عينه، وعفَّ واستغنى عن الخلق، وذهب عنه داء الحسد، وطمع النفس، وترَك أكل الحرام، ولم يَغُش، ولم يَرتَش، ولم يَسرق، ولم يُدلِّس في البيع والشراء، ولم يُخن الأمانة.

وقد قال الحافظ ابن حِبَّان ــ رحمه الله ــ:

ومِن أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها القناعة، ولو لم يكن في القناعة خَصْلَة تُحمد إلا الراحة، وعدَم الدخول في مواضع السوء، لكن الواجب على العاقل أنْ لا يُفارق القناعة في حالة مِن الأحوال، ومَن عدِم القناعة لم يًزده المال غِنى، فتمَكُّن المرء بالمال القليل مع قِلَّة الهَمِّ أهنأ مِن الكثير ذِي التَّبِعَة، والعاقل يَنتقم مِن الحِرص بالقُنُوع، ومَن غَنِيَ قلبُه غَنِيَت يداه، ومَن افتقر قلبُه لم ينفعه غِناه، ومِن قنِع لم يتسخَّط، وعاش آمنًا مُطمئنًا.هـ

الأمر الثالث: عدم خوف الفقر في المستقبل، لا على النفس، ولا على الأهل والعيال، ولا على الوالدين والإخوان والأخوات، حتى ولو أرهف الاقتصاديون والسياسيون بضعف الاقتصاد، وغلاء الأسعار، وقِلَّة الوظائف، وانخفاض الرواتب، وتزايُد البَطالة، وارتفاع نِسبة الفقر، وفُشُّوا المجاعات، لأنَّ أرزاق العباد مكتوبة، ولنْ يعيش أحد إلا برزق يَقتات مِنه شاء أم أبى، ولنْ يُغادر الدنيا إلا وقد أخذ رزقه كاملًا غير منقوص، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ )).

أيها الناس:

إنْ كان بكم خوف فلا تخافوا مِن الفقر، وإنْ كنتم في قلق فلا تقلقوا مِن الفقر، بل لا تخافوا ولا تخشوا إلا مِن الدنيا أنْ تُبسط عليكم وتتوسَّعُوا فيها، فتنافسوها فتلتهوا بها وتهلكوا بسببها، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ )).

واعلموا أنَّكم لسْتُم والله بأحبَّ إلى الله مِن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أكرمَ وأفضل وأعظم منزلة عنده مِن مِنه، ومع ذلك فقد قَبض رُوحه الكريمة إليه وهو في عيشِ يَسير وقليل، حيث صحَّ عن أمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ )).

وثبت عنها أيضًا أنَّها قالت: (( كَانَ يَمُرُّ بِنَا هِلَالٌ وَهِلَالٌ مَا يُوقَدُ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ، فَقَالَ لَهَا عُرْوَةُ: قُلْتُ: يَا خَالَةُ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْأَسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ )).

ثم ماذا على الإنسان مِن ضَير، وماذا يلحقه مِن كَدَر، لو عاش بين الناس في دنياه فقيرًا، وعند الله في آخرته عزيزًا مَسرورًا، مُنعَّمًا مُكرَمًا، أما يَسُرُّه قول النبي صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الجَدِّ ـ أي: الغنى والوجاهة ـ مَحْبُوسُونَ )).

أما يُسْكن خَنين فؤاده، ويقطع تلهُّف نفسه، ويُوقف تقلُّب نظره إلى ما في أيدي الناس، قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه: (( يدخلُ الفقراءُ الجنةَ قبلَ الأغنياءِ بخمسِ مائةِ عامٍ )).

بارك الله لي ولكم فيما سمعتم، وجعلنا مِن المُتذكِّرين، والحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة الثانية:ـــــــــــــــــــ

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلَّى الله على سيِّدنا محمد النَّبي الأُمِّي، وآله وأصحابه وسلَّم، وبالله أستعين، وحسبي الله ونِعم الوكيل.

أما بعد، أيها الناس:

اتقوا ربَّكم العظيم، وتفكَّروا في نِعمه واشكروه، واذكروا آلاءَه وتَحدَّثوا بفضله ولا تكْفُروه، لعلَّ النِّعم تدوم، ولعلَّكم يوم القيامة تُرحمون، فقد قال سبحانه مُبشِّرُا لكم بتيسير الرِّزق بسبب تقواه: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }.

وقال ــ جلَّ وعلا ــ: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }.

وقال ــ عزَّ شأنه ــ: { وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }.

فاللهم اجعلنا مِن الشاكرين لنعمَائك، والصابرين على أقدارِك وبلائِك، واجعل ما أنعمت به علينا معونة لنا على الخير، وبارك لنا في أقواتنا ومساكننا ومراكبنا، وقنِّعنا بما رزقتنا، ولا تحرِمنا خير ما عندك مِن الإحسان بشرِّ ما عندنا مِن الإساءة والعصيان، وادفع عنا وعن المسلمين كل شر ومكروه، وأصلح فساد قلوبنا، وسدِّدنا في الأقوال والأفعال، وأجرنا مِن خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، وثبتنا بالقول الثابت في الحال والمآل، واغفر لنا الذنوب والأوزار، واحشرنا في زمرة نبيك، وأدخلنا في شفاعته، وأوردنا حوضه العذب الشَّهِيَّ الزُلال، إنك جواد كريم، واسع النَّوال، جليل القدْر، عظيم الإحسان، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.