إفادة الصُّحبة بما ورَد مِن أحاديث وآثار وأقوال في بَثِّ العلم والتحديث وإقامة الدرس قبْل صلاة الجمعة
الحمد لله الذي بنعمتِه تَتِم الصالحات، وصلَّى الله على النبي محمد أفضلِ البَرِيَّات، وعلى آله وأصحابه الأئمة السَّادات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا في سائر الأوقات.
وبعد، أيُّها الفُضلاء النُّبلاء ــ جمَّلكم الله بالفقه في دِينِه، وأكرمَكم بالازدياد مِن العلم الشَّرعي، والرُّسوخ فيه ــ:
فهذه رسالة في بيان أمرين مُهمَّين، أحدهما يتعلق بالحديث، والآخَر بالفقه.
ــــ أمَّا ما يتعلَّق بالحديث، فهو:
بيان ضَعف حديث: (( نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ )).
ــــ وأمَّا ما يتعلَّق بالفِقْه، فهو:
بيان ثُبوت بَث العلم وتدريسه ونشره قبْل صلاة الجمعة وخروج الخطيب على الناس عن جمْع عديد مِن الصحابة، والتابعين، ومَن بعدهم.
وقد أسمَيت هذه الرسالة:
«إفادة الصُّحبة بما ورَد مِن أحاديث وآثار وأقوال في بَثِّ العلم والتحديث وإقامة الدرس قبْل صلاة الجمعة».
وأرجو أنْ تكون مُعينَة لِطالب العلم في زيادة الإلمام بهذه المسألة مع ما عنده مِن علم فيها، والخروج مِنها بفقه طيِّب يَفرَح بِه، واختيار تطمئن له نفسه ويُثبِّته.
وأسأل الله ــ جلَّ وعلا ــ: أنْ يَنفع بِها الكاتب، والقارئ، والناشِر لَهَا، إنَّه سميعٌ مُجِيب، واسع الفضل والعطاء، عظيم الإكرام والإحسان.
وسوف يكون الكلام عن موضوع هذه الرسالة في ثلاث وقفات، تسهيلًا لِضبطِه، وتقوية لِفهمِه، وإعانة على إتمام مُطالعته.
فأقول مُستعينًا بالله العزيز القدير ــ تبارَك وتقدَّس ــ:
الوقفة الأولى:
عن الحديث النَّبوي الوارد في النَّهي عن التحلُّق في المسجد قبل خطبة وصلاة الجمعة، وبيان ضَعفِه.
وسوف يكون الكلام عن هذا الحديث في أربعة فروع:
الفرع الأوَّل: عن تخريج وألفاظ هذا الحديث.
أخرج هذا الحديث:
1 ــ أحمد (6676) وأبو داود (1079)، والنسائي (714)، وابن خُزيمة (1304)، والخطيب البغدادي في كتابه “الجامع لأخلاق الرَّاوي” (1189)، وأبو موسى المَديني في كتابه “اللطائف” (76)، وغيرهم، مِن طريق:
يحيى بن سعيد القطان.
2 ــ والترمذي (322)، واللفظ له، وغيره، مِن طريق:
الليث بن سعد.
3 ــ وابن ماجه (749)، وابن أبي شيبة في “مُصنَّفه” (5408)، وابن خُزيمة (1036)، وأبو موسى المَديني في كتابه “اللطائف” (77)، وغيرهم، مِن طريق:
أبي خالد الأحمر.
4 ــ والفاكهي في كتابه “أخبار مكة” (1267)، مِن طريق:
صفوان بن عيسى.
5 ــ والخطيب البغدادي في كتابه “الجامع لأخلاق الرَّاوي” (1188)، مِن طريق:
حاتم بن إسماعيل.
6 ــ والخطيب البغدادي في كتابه “الجامع لأخلاق الرَّاوي” (1187)، مِن طريق:
يحيى بن أيوب.
7 ــ والقاسم بن موسى الأشيب في “جزئه” (72)، مِن طريق:
أبي صالح.
وجميع هؤلاء السَّبعة مِن الرُّواة، قد روَوا هذا الحديث عن:
ابن عَجْلان، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(( أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الأَشْعَارِ فِي المَسْجِدِ، وَعَنِ البَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِيهِ، وَأَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ فِيهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ )).
وفي لفظ أحمد:
(( وَعَنِ الْحِلَقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ )).
وفي لفظٍ لأبي موسى المَديني:
(( نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ لِلْحَدِيثِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الإِمَامِ )).
الفرع الثاني: عن درجة هذا الحديث.
إسناد هذا الحديث عند مَن تقدَّم مِن الأئمة، وعند غيرهم يَدور على:
1 ــ محمد بن عَجْلان.
وقد وثقة جمْع مِن كبار الأئمة.
وقال عنه الحافظ ابن حَجَر العسقلاني ــ رحمه الله ــ في كتابه “تقريب التهذيب” (6136):
«صدوق، إلا أنَّه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة».اهـ
قلت:
ولم أجد زيادة: (( وَنَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ )) إلا مِن طريقه فقط.
وقد قال الحافظ أبو موسى المَديني ــ رحمه الله ــ في كتابه “اللطائف مِن علوم المعارف” (76)، في تقوية ذلك:
«هذا حديث مشهور مِن حديث ابن عجلان، عن عمرو بن شُعيب».اهـ
2 ــ وعمرو بن شُعيب.
وهو صَدوق، وله مناكير.
ورواية عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عمومًا:
قد اختلَف العلماء ــ رحمهم الله ــ فيها.
والصواب: أنَّها حسَنة ما لم يَتفرَّد، أو يُخالف الثقات.
وقد تفرَّد عمرو بن شعيب بهذا الحُكم: (( وَنَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ )).
فلَم يُتابَع عليه، لا في هذا الحديث، ولا في غيره.
وقد قال الحافظ الذهبي ــ رحمه الله ــ في كتابه “سِيَر أعلام النُّبلاء” (5/ 177)، عن رواية الثقات عن عمرو بن شُعيب:
«فالأَوْلَى: أنْ يُحتجَّ بذلك إنْ لم يكن اللفظ شاذًا، ولا مُنكرًا، فقد قال أحمد بن حنبل إمام الجماعة: “له أشياء مناكير”».اهـ
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الجامع لأخلاق الرَّاوي” (2/ 63 ــ رقم:1189)، بعد هذا الحديث:
«وهذا الحديث يَتفرَّد بروايته عمرو بن شُعيب، ولم يُتابِعُه أحدٌ عليه، وفي الاحتجاج بِه مَقال».اهـ
قلت:
ورَوى هذا الحديث أيضًا عن عمرو بن شُعيب:
أسامة بن زيد الليثى.
ولم يَذكر فيه: (( وَنَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ )).
وقد أخرجه عنه:
1 ــ أحمد (6991)، مِن طريق: عبد الله بن المُبارك.
2 ــ وأبو الفضل الزُّهري في “حديثه” (535)، مِن طريق: عبد الله بن وهْب.
جميعهما ــ أي: ابن المُبارك، وابن وهْب ــ:
عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أنَّه قال:
(( نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ )).
وقال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني ــ رحمه الله ــ في كتابه “تقريب التهذيب” (317)، عن أسامة بن زيد الليثي:
«صَدوقٌ يَهِم».اهـ
ــــ وكذلك الرُّواة عن ابن عجلان، عن عمرو بن شُعيب، قد اختلفوا أيضًا في ألفاظ هذا الحديث.
فبعضهم: يذكر فيه أربعة أشياء.
وهي: النَّهي عن البيع والشِّراء في المسجد، والنَّهي عن تناشد الأشعار في المسجد، والنَّهي عن نَشْد الضَّالة في المسجد، والنَّهي عن التَّحلُّق قبل صلاة الجمعة في المسجد.
وبعضهم: يَذكر فيه ما تقدَّم، وبدون ذِكر إنشاد الضَّالة في المسجد.
وبعضهم: لا يَذكر فيه إلا النَّهي عن البيع والشراء في المسجد.
وبعضهم: لا يَذكر فيه إلا النَّهي عن تناشُد الأشعار في المسجد.
وبعضهم: لا يَذكر فيه إلا النَّهي عن البيع والشراء في المسجد، والنَّهي عن إنشاد الضَّالة في المسجد.
وبعضهم: لا يَذكر فيه إلا النَّهي عن التَّحلُّق في المسجد.
وبعضهم: لا يَذكر فيه إلا النَّهي عن التَّحلُّق في المسجد، وشيء آخَر معه مِن الأمور الثلاثة المُتقدِّمة.
وقد أشار إلى هذا الاختلاف في الألفاظ أيضًا:
الحافظ المِزِّي ــ رحمه الله ــ في كتابه “تُحفة الأشراف بمعرفة الأطراف” (6/ 335 ــ حديث رقم: 8796)، وغيره.
قلت:
وقد صحَّح هذا الحديث: ابن خُزيمة، والسُّيوطي.
وحسَّنه: الترمذي، والنَّووي، وابن قيِّم الجوزية، وابن حَجَر العسقلاني، والألباني.
والصواب:
أنَّ زيادة: (( وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ )) معلولة لا تَصح، بل الحديث جميعه لا يَثبت.
ويَدُل على ذلك عدَّة أمور:
الأمر الأوَّل:
تفرُّد عمرو بن شُعيب بهذا الحُكم الوارد فيها، بل وبالحديث جميعه.
وحديثه حسنُ ما لم يَتفرَّد كما تقدَّم، لأنَّ له مناكير، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ــ رحمه الله ــ، وغيره.
وقد قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ بعد هذا الحديث في إعلاله:
«وهذا الحديث يَتفرَّد بروايته عمرو بن شُعيب، ولم يُتابِعُه أحدٌ عليه، وفي الاحتجاج بِه مَقال».اهـ
وقال الحافظ الذهبي ــ رحمه الله ــ عن رواية الثقات عن عمرو بن شُعيب:
«فالأَوْلَى: أنْ يُحتجَّ بذلك إنْ لم يكن اللفظ شاذًا، ولا مُنكرًا، فقد قال أحمد بن حنبل إمام الجماعة: “له أشياء مناكير”».اهـ
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “شرح عِلل الترمذي” (2/ 582)، عن إعلال الأئمة الحديث بالتفرُّد:
«وأمَّا أكثر الحُفاظ المُتقدِّمين:
فإنَّهم يقولون في الحديث إذا انفرَد بِه واحد، وإنْ لم يَرو الثقات خلافه:
“أنَّه لا يُتابَع عليه“، ويجعلون ذلك عِلَّة فيه.
اللهمَّ إلا أنْ يكون مِمَّن كثُر حفظُه، واشتهرت عدالتُه وحديثُه، كالزُّهري، ونحوه.
ورُبَّما يَستنكرون بعض تفرُّدات الثقات الكبار أيضًا».اهـ
قلت:
وعمرو بن شُعيب ــ رحمه الله ــ ليس مِن هؤلاء الذين هُم كالإمام الزُّهري وأمثاله.
بل ولا هو مِن الثقات، فكيف بكبارهم.
ــــ وتفرَّد أيضًا بِهذا الحديث عن عمرو بن شُعيب:
محمد بن عَجلان.
وقد تقدَّم قريبًا قول الحافظ أبي موسى المَديني ــ رحمه الله ــ:
«هذا حديث مشهور مِن حديث ابن عجلان، عن عمرو بن شُعيب».اهـ
الأمر الثاني:
أنَّ أسامة بن زيد الليثي لم يَذكر هذه الزيادة في حديثه عن عمرو بن شُعيب، ــ وهو وإنْ كان ابن عجلان أقوى مِنه ــ لكن قد حصل اختلاف في ألفاظ رواية ابن عجلان عن عمرو بن شُعيب.
فلم يذكر هذه الزِّيادة بعضُهم، وبعضُهم رُوي عنه ذِكرها، وبعضهم نُقل عنه ذكرها وعدمه.
الأمر الثالث:
ثبوت واشتهار بَث العلم والسُّنة والتحديث قبْل صلاة الجمعة وخروج الخطيب للخطبة عن جمْع كثير مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
كما سيأتي نقله عنهم قريبًا في الوقفة الثانية.
ولم أجد بعد بحث مُتكرِّر مَن ذكر مُخالفًا لهم في ذلك مِن الصحابة، فمَنَع.
الأمر الرابع:
أنَّه قد ورَد في حديث عمرو بن شُعيب هذا النَّهي عن تناشد الأشعار في المسجد، وهو أيضًا مِمَّا تفرَّد بِه أيضًا، ولم يُتابع عليه.
وقد صحَّ الشعر في المسجد مِن حسان بن ثابت ــ رضي الله عنه ــ في زمَن النبي صلى الله عليه وسلم وبوجوده، كما عند البخاري (3212)، ومسلم (2485)، وغيرهما.
وعند أبي داود (5015)، والترمذي (2846)، واللفظ له، وغيرهما عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت:
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُ لِحَسَّانَ مِنْبَرًا فِي المَسْجِدِ يَقُومُ عَلَيْهِ قَائِمًا يُفَاخِرُ ــ أَوْ قَالَتْ: يُنَافِحُ ــ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )).
وقال الترمذي، وابن حجَر العسقلاني، ومُقبل الوادعي ــ رحمهم االله ــ: «حسن صحيح».اهـ
وصحَّحه: الحاكم، والذهبي.
وحسَّنه: الألباني.
قلت:
وهذا الحديث مِن طريق عبد الرحمن ابن أبي الزِّناد.
وقد قال عنه الحافظ ابن حجَر العسقلاني ــ رحمه الله ــ عقب حديثه هذا:
«وهو ثقة عند الجمهور، وتكلَّم فيه بعضهم بما لا يَقدح فيه، ولبعض حديثه شواهد في “الصَّحيحين” عن البَراء، وغيره».اهـ
وقال عنه العلامة مُقبل بن هادي الوادعي ــ رحمه الله ــ:
«وعبد الرحمن بن أبي الزِّناد مُتكلَّم فيه، لكن قال ابن مَعِين: “إنَّه أثبت الناس في هشام بن عُروة”»اهـ.
وقد تابعه على هذا الحديث عن هشام بن عُروة:
هُشيم بن بَشير.
كما عند ابن جَرير الطبري ــ رحمه الله ــ في كتابه “تهذيب الآثار” (ص:445 ــ رقم: 787 ــ مِن “الجزء المفقود” أو 2/ 228 رقم: 787 ــ مِن “مُسند عمر).
فائدتان:
الفائدة الأولى:
ضعَّف الفقيه ابن حزم الظاهري ــ رحمه الله ــ هذا الحديث.
حيث قال ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُحلَّى” (7/ 571-572 ــ مسألة رقم: 1568):
«وقد رُويَت في ذلك آثار لا تَصح:
ومِن طريق يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: (( نَهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التَّحلُّق في المسجد قبل الصلاة، وعن البيع، والشراء في المسجد ))، هذه صحيفة».اهـ
وقال أيضًا (3/ 162 ــ مسألة رقم: 499):
«والخبَر الذي فيه النَّهي عن إنشاد الشعر: لا يصح، لأنَّه مِن طريق عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، وهي صحيفة».اهـ
الفائدة الثانية:
ترَكَ العمل بهذا الحديث الإمام الثقة الثَّبت يحيى بن سعيد القطان ــ رحمه الله ــ، وهو أحد رواة هذا الحديث عن ابن عجلان، حيث كان يَبُث العلم في حلقة قبْل صلاة الجمعة.
وترَكَ العمل بِه أيضًا كثير مِن الأئمة حيث كانوا يتحلَّقون للدرس قبل صلاة الجمعة، ويستمعون لِمَن يَبُثُّه، ويَحضرون مجلسه.
حيث قال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المشهور بالخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الجامع لأخلاق الرَّاوي” (2/ 63 ــ رقم:1189 و 1190):
«أخبرني عُبيد الله بن عبد العزيز بن جعفر البَرْذَعي، أنا محمد بن المُظفَّر الحافظ، نا أبو الفضل العباس بن إبراهيم القَراطِيسي، نا عمرو بن علي بن بَحْر بن كثير أبو حفص، نا المُعتمِر بن سليمان التَّيمي، نا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن عَجلان، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه:
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ )).
قال أبو حفص ــ وهو: عمرو بن علي بن بَحْر بن كثير، أحد رُواة هذا الحديث ــ:
ورأيت عبد الرحمن بن مَهدي جاء إلى حلَقة يحيى بن سعيد، ومعاذ بن معاذ العنبري، فقَعَد خارجًا مِن الحلقة.
فقال له يحيى: “ادخل في الحلقة”.
فقال له عبد الرحمن: “أنت حدَّثتني عن ابن عجلان، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه عن جدِّه: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ )).
فقال له يحيى بن سعيد: فأنا رأيت حبيب بن حسَّان كذا قال، وفي رواية غيره: “أنا رأيت هشام بن حسَّان، وحبيب بن الشهيد، وسعيد بن أبي عَرُوبة يَتحلَّقون يوم الجمعة قبل خروج الإمام”.
فقال عبد الرحمن: فهؤلاء بلَغهم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عنه ففعلوه.
قال أبو بكر ــ أي: الخطيب البغدادي ــ:
وهذا الحديث يَتفرَّد بروايته عمرو بن شُعيب، ولم يُتابعه أحد عليه، وفي الاحتجاج بِه مَقال.
فيُحتَمل أنْ يكون يحيى بن سعيد ومَن وافقه تركوا العمل بِه لذلك.
أو يكون النَّهي مصروفًا إلى مَن قارب مِن الإمام خوفًا أنْ يُشْغَل عن سماع الخطبة.
فأمَّا مَن بعُد مِنه بحيث لا يَبلُغه صوته، فتجوز له المُذاكرة بالعلم في وقت الخطبة.
أنبأنا أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب، أنا محمد بن حميد المُخَرَّمِي، نا علي بن الحسين بن حِبَّان، قال: وجدت في كتاب أبِي قال: أبو زكريا ــ يعني: يحيى بن مَعين:
(( رَأَيْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، وَمُعَاذَ بْنَ مُعَاذٍ، وَحَمَّادَ بْنَ مَسْعَدَةَ: يَتَحَلَّقُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَمَعَهُمْ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا يَتَحَدَّثُونَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، وَمُعَاذٌ يُحَدِّثُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَدِيثِ قَالَ لِيَحْيَى: أَلَيْسَ هَكَذَا يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَيَقُولُ لَهُ: نَعَمْ، وَمَا يُصَلُّونَ الْبَتَّةَ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ )).
قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا: (( وَكَانَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَأَصْحَابُهُ يَتَحَلَّقُونَ أَيْضًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: زَعَمُوا مَا فَعَلَتْ حَلْقَتُكُمْ يَا أَبَا عُمَرَ قَالَ: «هِيَ عَلَى حَالَتِهَا» ))».اهـ
وبنحوه نَقل الحافظ أبو موسى المَديني ــ رحمه الله ــ في كتابه “اللطائف مِن علوم المعارف” (76).
الفرع الثالث: عن معنى التَّحلُّق الوارد في هذا الحديث.
قول الرَّاوي: (( نَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ ))، أو (( أَنْ يُحَلَّقَ ))، أو (( عَنِ الحِلَقِ )).
أي: نَهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القُعود حِلَقًا حِلَقًا، بحيث يجلس الناس على هيئة حلقة ودائرة، قد توجَّه بعضهم إلى بعض، ووسطهم خالي.
1 ــ حيث قال ابن سِيدَة المُرسي ــ رحمه الله ــ وهو مِن أهل اللغة، في كتابه “المُحكم والمُحيط الأعظم” (3/ 6):
«والحَلْقَة: كل شيء استدار كحلقة الحديد والفضة والذهب، وكذلك هو مِن الناس».اهـ
2 ــ وقال الفقيه مَجد الدِّين ابن الأثير الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “النهاية في غريب الحديث والأثر” (1/ 426):
«الحِلَق ــ بكسر الحاء وفتح اللام ــ: جمْع الحلقة، وهي: الجماعة مِن الناس مستديرون، كحلقة الباب، وغيره، والتَّحَلُّق تفعُّلٌ مِنها، وهو: أنْ يتعمَّدوا ذلك».اهـ
3 ــ وقال الفقيه الحسين بن محمود المُظْهِري الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المفاتيح في شرح المصابيح” (2/ 84):
«قوله: (( وأنْ يَتحلَّق النَّاس يوم الجمعة قبْل الصلاة )), التَّحَلُّق: جلوس الناس في الحلْقة، يَتوجَّه بعضهم بعضًا».اهـ
الفرع الرابع: عن بعض الأمور التي يَذكرها العلماء ــ رحمهم الله ــ عند الكلام على فقه هذا الحديث.
الأمر الأوَّل:
النَّهي الوارد في هذا الحديث ــ لو قِيل بثبوته ــ إنَّما هو عن التَّحَلُّق قبل صلاة الجمعة للعلم أو لِغيره مِن الأشياء، وليس عن منع بَث العلم والتدريس والتحديث بدون تحلُّق.
ويَدُل على ذلك عدَّة أشياء، مِنها:
أوَّلًا: أنَّ التحلُّق هو منطوق ومشهور لفظ هذا الحديث.
وعليه: فلا يُحمَّل نصُّه أكثر مِن النَّهي عن هذا التَّحلُّق إلا بدليل آخَر.
وقال الفقيه بدر الدِّين العَيني الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “نُخب الأفكار” (16/ 490):
«ومَورد الحديث في التحليق قبل الصلاة يوم الجمعة.
ولِهذا بوَّب أبو داود ــ رحمة الله عليه ــ قال: “باب التحليق يوم الجمعة قبل الصلاة”، ثم رَوى الحديث المذكور».اهـ
ثانيًا: ثبوت بَثِّ العلم قبل صلاة الجمعة إلى قُرب خروج الخطيب على الناس عن كثير مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ، والتابعين، ومَن بعدهم مِن الأئمة.
ثالثًا: أنَّ هذا الفَهم بترْك الدخول في الحلقة العلمية قبل صلاة الجمعة منقول عن بعض الأئمة الأوائل، إذ حضَروا مجلس العلم القائم حينها واستمعوا إلى مَن يَبُثُّه، دون التحلُّق مع أهله.
حيث تقدَّم عن الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الجامع لأخلاق الرَّاوي” (2/ 63 ــ رقم:1189 و 1190) أنَّه قال:
«قال أبو حفص: ورأيت عبد الرحمن بن مَهدي جاء إلى حلَقة يحيى بن سعيد، ومعاذ بن معاذ العنبري، فقَعَد خارجًا مِن الحلقة.
فقال له يحيى: “ادخل في الحلقة”.
فقال له عبد الرحمن: “أنت حدَّثتني عن ابن عجلان، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه عن جدِّه: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ )).
فقال له يحيى بن سعيد: “أنا رأيت هشام بن حسَّان، وحبيب بن الشهيد، وسعيد بن أبي عَرُوبة يَتحلَّقون يوم الجمعة قبل خروج الإمام” …».اهـ
وبنحوه نَقل الحافظ أبو موسى المَديني ــ رحمه الله ــ في كتابه “اللطائف مِن علوم المعارف” (76).
رابعًا: أنَّ النَّهي عن التحلُّق والحلقة قبل صلاة الجمعة هو الفهْم المشهور عن شُراح الحديث المُتأخِّرين مِن فقهاء ومُحدِّثين، ولِهذا أخذوا يتلمَّسون عِلل هذا النَّهي.
وهل هي تضييق التحلُّق على الناس في المسجد لاسيَّما مَن بكَّر مِنهم، أو إخلال الحلقة بإتمام الصفوف الأوَّل فالأوَّل، أو أنَّ الحلقة تَجمع الناس حول بعض وقد ترتفع أصواتهم بالكلام فيَحصل تشويش على بعض مَن في المسجد، أو جميعها، أو بعضها.
الأمر الثاني:
النَّهي عن التَّحَلُّق الوارد في هذا الحديث للكراهة، وليس للتحريم عند جماهير أهل العلم، ولم أقف بعد بحث كثير على نصٍّ عن أحدٍ مِن الفقهاء الأوائل ومَن بعدهم في التحريم.
وقد نَسبه إلى الأكثر:
1 ــ الفقيه العراقي الشافعي ــ رحمه الله ــ كما في كتاب “مرقاة الصُّعود إلى سُنن أبي داود” (1/ 374)، للسيوطي.
2 ــ والفقيه جلال الدِّين السيوطي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “قوت المُغتذي على جامع الترمذي” (1/ 145).
3 ــ والفقيه محمد بن علي الشوكاني ــ رحمه الله ــ في كتابه “نيل الأوطار” (2/ 186).
4 ــ والفقيه السهارنفوري الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بذْل المجهود في حَل سُنن أبي داود” (5/ 94).
5 ــ والفقيه محمود خطاب السُّبكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المَنهل العذْب المورود شرح سُنن أبي داود” (6/ 234).
6 ــ والفقيه الجكني الشنقيطي ــ رحمه الله ــ في شرحه على “سُّنن النسائي” (5/ 1483).
7 ــ والفقيه محمد علي آدم الإتيوبي ــ رحمه الله ــ في شرحه على “سُنن النسائي” (9/ 26)، وغيرهم.
الأمر الثالث:
النَّهي عن التَّحلُّق الوارد في هذا الحديث عام.
فيدخل فيه التَّحلُّق لِبَث العلم والسُّنة، ومُراجعةِ العلم والحفظ، وقراءةِ وإقراء القرآن، والتشاور في الأمور، وحَلِّ مُشكِلة، وعقدِ نكاح، وكلام دنيوي مُباح، وغير ذلك.
وقد ذَكر ذلك عدد مِن شُراح هذا الحديث مِن أهل العلم المُتأخِّرين والمُعاصرين.
وقال الفقيه عبد الحق الدِّهلوي الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح” (2/ 485):
«وقوله: (( أنْ يتحلَّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد )).
وهو: أنْ يجلسوا مُتحلِّقين حلقة واحدة، أو أكثر، وإنْ كان لِمُذاكرة عِلم».اهـ
الأمر الرابع:
وقت التَّحلُّق المَنهي عنه للعلماء ــ رحمهم الله ــ فيه كلام أو اختلاف.
ــــ فقيل: إنَّ النَّهي يَبدأ مِن قبَل خروج الإمام للخطبة بقليل.
ويَدُل عليه لفظ: (( نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الإِمَامُ )).
ولفظ: (( نَهَى أَنْ يُحَلَّقَ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ )).
وقال الفقيه السهارنفوري الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بذْل المجهود في حَل سُنن أبي داود” (5/ 94):
«(( ونَهَى عن التحلِيق قبل الصلاة ))، أي: قريبًا مِن الزَّوال».اهـ
ــــ وقيل: إنَّ النَّهي إنَّما هو في أثناء الخطبة وقبَل الشُّروع في صلاة الجمعة لِمَن لا يَسمعون خطبة الإمام.
حيث قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الفقيه والمُتفقِّه” (2/ 272):
«(( وَنَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ )).
قُلْتُ: هذا الحديث محمول على أنْ تكون الحلقة بقُرب الإمام, بحيث يَشغل الكلام فيها عن استماع الخطبة.
فأمَّا إذا كان المسجد واسعًا والحلْقة بعيدة مِن الإمام, بحيث لا يُدركها صوته فلا بأس بذلك.
وقد رأيت كافة شيوخنا مِن الفقهاء والمُحدِّثين يفعلونه, وجاء مِثله عن عِدَّة مِن الصحابة والتابعين ــ رضي الله عنهم ــ».اهـ
ويُنظر لذلك أيضًا هذان الكتابان:
“الكافي في فقه الإمام أحمد” (1/ 337)، و “كشاف القِناع عن متن الإقناع” (2/ 48)
قلت:
ولم أجد بعد بحث مُتعدِّد، ولا مَرَّ بي مَن ذَكر أنّ النَّهي يَبدأ مِن:
طلوع فجْر الجمعة، أو طلوع الشمس، أو أوَّل ساعة مِن ساعات الجمعة، أو قبل خروج الإمام للخطبة بوقت طويل، أو وقت عدم وجود الناس في المسجد.
إلا لأفرادٍ يسيرة جدًا مِن المُعاصرين، أو قل مِن المُتأخِّرين جدًّا.
ومَن وجَد، فشَكر الله له وبارَك وأكرَم وسدَّد إنْ هو نفعني بِه، فالمَرء يقوى بإخوانه، والعلم يزداد بإفادات مُحبِيِّه.
الأمر الخامس:
اختلف العلماء مِن المُتأخِّرين ــ رحمهم الله ــ في سبب النَّهي عن التَّحلُّق قبل الجمعة.
ــــ فقيل: نُهوا لأنَّ القوم إذا تحلَّقوا فالغالب عليهم التكلم، ورفع الصوت، والنظر لبعض، وإذا كانوا كذلك فسَينشغلون عن سماع الخطبة، وهُم مأمورون بالإنصات والاستماع.
وقيل: لأنَّ التَّحلق والحِلَق تقطع الصُّوف، وتُضيِّق على المُصلِّين، والناس مَدعوَّون إلى التبكير والتَّراص وإتمام الصَّف الأوَّل فالأوَّل، والحلقة وسطها خالي، وبسببها يَمتنع أنْ يجلس فيها مَن لا مكان له، أو مِن كان مُبكرًا والحلقة في مُقدِّمة المسجد.
وهذا التعليل كأنَّه قول الأكثر.
وقد نقله عن الأكثر:
الفقيه الجكني الشنقيطي ــ رحمه الله ــ في شرحه على “سُّنن النسائي الصغرى” (5/ 1483)، وغيره.
ــــ وقيل: لأجل هذين المَعنَيين جميعًا.
ــــ وقيل: نُهوا ــ أي: الذين لا يَسمعون الخطيب، أو لا يَعرفون لُغتَه التي يَخطب بِها ــ حتى لا يُشوِّشوا على مَن يَسمعون الخطيب مِمَّن يدخلون في الأُمر بالإنصات له ولِخُطبته.
ــــ وقيل: إنّما المكروه مِن التحلُّق قبل الصلاة إذا عمَّ المسجد وغلَب عليه، لأنَّه هو الذي يُضيِّق على مَن في المسجد.
1 ــ حيث قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “شرح معاني الآثار” (4/ 360 ــ رقم: 7317- 7318):
«والتحلُّق فيه قبل الصلاة مِمَّا عمَّه مِن ذلك فهو مكروه, وما لم يَعُمُّه مِنه, ولم يَغلِب عليه, فليس بمكروه».اهـ
2 ــ وقال الحافظ البيهقي الشافعي ــ رحمه الله ــ كما في كتاب “نور اللمعة في خصائص الجمعة” (ص: 56)، للسيوطي:
«يُكرَه التحلُّق في المسجد إذا كانت الجماعة كثيرة، والمسجد صغير، وكان فيه منع المُصلِّين عن الصلاة».اهـ
3 ــ وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (16/ 159):
«ورَد عن النبي ــ عليه الصلاة والسلام ــ أنَّه نَهى عن التحلُّق يوم الجمعة.
وذلك: لأنَّ التحلُّق يوم الجمعة يُؤدي إلى تضييق المسجد على المُصلِّين القادمين إليه، لاسيَّما إذا كانت الحِلَق قريبًا مِن كثرة الحضور، وكان المسجد ضيِّقًا، فإنَّ ضرَرها واضح جداً.
أمَّا إذا لم يكن فيها مَحذور، فإنَّه لا محظور فيها، لأنَّ الشَّرع إنَّما يَنهى عن أشياء لِضرِرها الخالص أو الغالب».اهـ
ــــ وقال أيضًا (16/ 157):
«الظاهر: أنَّ التحلق قبل أنْ يَحضر الناس إلى المسجد لا بأس بِه، وإنَّما نَهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن التحلق، لِئلا يُضيِّقوا على الناس الذين يأتون إلى الصلاة».اهـ
الوقفة الثانية:
عن الآثار الواردة عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ في جواز التدريس والتحديث وبَث العلم ونفع الناس بِه في المسجد قبل خطبة وصلاة الجمعة.
الأثر الأوَّل:
أثر معاوية بن قُرَّة ــ رحمه الله ــ عن ثلاثين رجلًا مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهم كانوا يَبُثُّون العلم والسُّنة في المسجد قبل صلاة الجمعة حتى يَخرج عليهم الخطيب لِيخطُب فيهم.
حيث قال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (5547):
حدثنا وكيع، عن شدَّاد أبي طلحة، عن معاوية بن قُرَّة، قال:
(( أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ مُزَيْنَةَ، كُلُّهُمْ قَدْ طَعَنَ أَوْ طُعِنَ، أَوْ ضَرَبَ أَوْ ضُرِبَ، إِذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اغْتَسَلُوا وَلَبِسُوا مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِمْ وَتَطَيَّبُوا، ثُمَّ رَاحُوا وَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسُوا فَبَثُّوا عِلْمًا )).
وإسناده صحيح، وعلى أقل الأحوال حسن.
1 ــ فوكيع بن الجرَّاح، إمام جبل ثقة ثبْت.
2 ــ وشدَّاد بن سعيد الرَّاسِبي.
قد وثقه: أحمد بن حنبل، وابن مَعين، والنسائي، وأبو خيثمة، والبَزَّار، وابن شاهين، وغيرهم.
وذُكِر عن الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: «هو صدوق في الأصل».اهـ
وذَكره ابن حِبَّان، وابن خلفون، في “الثقات”.
وقال الحافظ ابن عَدِي ــ رحمه الله ــ: «وشدَّاد ليس له كثير حديث، ولم أَرَ له حديثًا مُنكرًا، وأرجو أنَّه لا بأس به».اهـ
وقال الحافظ الذهبي ــ رحمه الله ــ: « صدوق»، وقال مرَّة: «صالح الحديث».اهـ
وقال الحافظ ابن حَجر العسقلاني ــ رحمه الله ــ: «صدوق يُخطِئ».اهـ
وقال الإمام الدارقطني ــ رحمه الله ــ: «بَصْريُّ يُعتبَر به».اهـ
وقال الحافظ أبو أحمد الحاكم ــ رحمه الله ــ: «ليس بالقوي عندهم».اهـ
وضعَّفه: عبد الصَّمد بن عبد الوارث.
قلت:
وهذا التليين لِشدَّاد بن سعيد ــ رحمه الله ــ مَردود بتوثيق كبار وأكثر الأئمة له.
ولِهذا قال الحافظ الذهبي ــ رحمه الله ــ: «وثقه أحمد، وغيره، وضعَّفه مَن لا يَعلم».اهـ
3 ــ ومعاوية بن قُرَّة.
قد وثقه: ابن مَعين، وأبو حاتم، والنسائي، والعِجلي، وابن سعد، وابن حِبَّان، وابن حَجَر العسقلاني، وغيرهم.
وأخرجه أيضًا:
ــــ الخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الفقيه والمُتفقِّه” (2/ 272 أو رقم:959)، فقال:
أنا أبو سعيد الحسن بن محمد بن عبد الله بن حسنويه الكاتب بأصبَهان, نا أبو جعفر أحمد بن جعفر بن أحمد بن مَعبد السِّمسار, نا يحيى بن مُطرِّف, نا مسلِم بن إبراهيم, نا شدَّاد بن سعيد الرَّاسِبي أبو طلحة, نا معاوية بن قرَّة, قال:
(( أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُزَيْنَةَ، لَيْسَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ طَعَنَ أَوْ طُعِنَ, أَوْ ضَرَبَ أَوْ ضُرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ اغْتَسَلُوا, وَلَبِسُوا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِمْ, وَنَسَمُوا مِنْ طِيبِ نِسَائِهِمْ, ثُمَّ أَتَوَا الْجُمُعَةَ, وَصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ جَلَسُوا يَبُثُّونَ الْعِلْمَ وَالسُّنَّةَ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ )).
ــــ وابن عساكر ــ رحمه الله ــ في كتابه “تاريخ دمشق” (59/ 268-269)، مِن طريق:
أبي بكر محمد بن إبراهيم المَروزي، أنا مُسلم، هو: ابن إبراهيم، نا شدَّاد بن سعيد أبو طلحة الرَّاسِبي، نا معاوية بن قُرَّة، قال:
(( أدركت ثلاثين مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا، ولبسوا مِن صالح ثيابهم، ومسوا مِن طيب نسائهم، ثم أتوا الجمعة فصلوا ركعتين، ثم جعلوا يَبُثون العلم والسُّنة حتى يَخرج الإمام )).
ــــ وأخرج أوَّله أبو نُعيم ــ رحمه الله ــ في كتابه “حلية الأولياء” (2/ 299)، مِن طريق:
يحيى بن مُطرِّف، قال: ثنا مُسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شدَّاد بن سعيد أبو طلحة الرَّاسِبي، قال: ثنا معاوية بن قُرَّة، قال:
(( أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ طَعَنَ أَوْ طُعِنَ أَوْ ضَرَبَ أَوْ ضُرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )).
الأثر الثاني:
أثر أبي هُريرة ــ رضي الله عنه ــ في تحديث الناس في المسجد قبل صلاة الجمعة حتى يَسمع صوت مَجيء الخطيب فيُمسِك.
حيث قال الحافظ ابن سعد ــ رحمه الله ــ في كتابه “الطبقات الكبرى” (5/ 309 أو 326):
حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر قال: حدثنا سفيان، عن زياد بن سعد، قال: قلت لثابت الأعرج: أين سمعت مِن أبي هريرة؟ قال:
(( كَانَ مَوَالِيَّ يَبْعَثُونَنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِذًا مَكَانًا، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَجِيءُ فَيُحَدِّثُ النَّاسَ قَبْلَ الصَّلاةِ )).
وإسناده صحيح.
فعلِي بن عبد الله المَديني، وسفيان بن عُيينة، وزياد بن سعد، وثابت بن عياض الأعرج جميعهم أئمة ثقات.
وأخرجه أيضًا:
ــــ أبو عوانة في كتابه “المُسنَد الصَّحيح المُخَرَّج على صحيح مسلم” (4207 أو 4644)، فقال:
حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا زياد بن سعد، قال: سمعت ثابتا الأعرج، فذَكره.
وإسناده صحيح كسابقه، رجاله جميعهم أئمة ثقات.
ــــ وقال الحافظ أبو عبد الله الحاكم ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُستدرَك” (6173):
حدثنا أحمد بن كامل بن خلَف القاضي، ثنا عبد الله بن رَوح المَدايني، ثنا شَبَابَة بن سَوَّار، ثنا عاصم بن محمد، عن أبيه، قال:
(( رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ــ يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَقْبِضُ عَلَى رُمَّانَتَيِ الْمِنْبَرِ قَائِمًا وَيَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «فَلَا يَزَالُ يُحَدِّثُ حَتَّى إِذَا سَمِعَ فَتْحَ بَابِ الْمَقْصُورَةِ لِخُرُوجِ الْإِمَامِ لِلصَّلَاةِ جَلَسَ» )).
قلت:
ورجال إسناده، هُم:
1 ــ أحمد بن كامل بن خلَف.
ولم أجد فيه غير قول الإمام الدارقطني ــ رحمه الله ــ: «كان مُتساهلًا رُبَّمَا حدَّث مِن حفظه بِما ليس مِن كتابه».اهـ
وقد صحَّح أسانيد مِن طريقه:
الحاكم، والخطيب البغدادي، والذهبي، والألباني، وغيرهم.
2 ــ وعبد الله بن رَوح.
وقد وثقه: ابن جَرير الطبري، والذهبي.
وقال عنه الإمام الدارقطني ــ رحمه الله ــ: «ليس به بأس».اهـ
3 ــ وشَبَابَة بن سَوَّار الفَزَاري.
وقد ثقه جمْع، وقال بعضهم إنَّه: «صدوق».
4 ــ وعاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله العُمَري، ووالده: ثقتان.
وصحَّح هذا الحديث:
الحاكم، والذهبي، وغيرهما.
ويُقويه ويشهد له أيضًا:
ما قبله وما بعده مِن آثار عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ بمعناه.
ــــ وقال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مصنَّفه” (5411):
حدثنا جدِّي أبو عامر العَقَدِي، عن محمد بن هِلال، عن أبيه، قال:
(( كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ )).
وفي إسناده ضعف.
ولكنَّه يُقوِّي ما قبله، ويتقوَّى به.
1 ــ فأبو عامر العقدي، ثقة.
2 ــ ومحمد بن هلال، ثقة أو صدوق.
3 ــ وأمَّا هلال بن أبي هلال التابعي والد محمد:
فرَوى عنه ثلاثة، وذكره ابن حِبَّان في كتابه “الثقات”.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد ــ رحمهما الله ــ:
«سُئل أبي: عن محمد بن هلال المَدني؟ قال: ليس بِه بأس، قيل: أبوه؟ قال: لا أعرفه».اهـ
وقال الحافظ الذهبي ــ رحمه الله ــ: «لا يُعرَف».اهـ
وقال الحافظ ابن حَجَر العسقلاني ــ رحمه الله ــ: «مقبول».اهـ
الأثر الثالث:
أثر عبد الله بن بُسْر ــ رضي الله عنه ــ في تحديث الناس في المسجد قبل صلاة الجمعة حتى يَخرج عليهم الخطيب.
حيث قال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مصنَّفه” (5410)، تحت باب “الحديث يوم الجمعة قبل الصلاة”:
حدثنا حمَّاد بن خالد، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزَّاهرية، قال:
(( كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنِي حَتَّى خَرَجَ الْإِمَامُ )).
وإسناده حسن أو صحيح.
1 ــ فحمَّاد بن خالد الخياط: ثقة.
2 ــ ومعاوية بن صالح: ثقة أو صدوق.
3 ــ وأبو الزَّاهرية حُدَير بن كُرَيب: ثقة.
ــــ وأخرجه ابن خُزيمة (1811)، مِن طريق عبد الله بن الهاشم، واللفظ له، والحاكم (1061)، مِن طريق يحيى بن يحيى.
جميعهما:
عن عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزَّاهرية، قال:
(( كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى خَرَجَ الْإِمَامُ, فَجَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَقَالَ لِي: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ, فَقَالَ لَهُ: «اجْلِسْ, فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ» )).
وصحَّحه:
ابن خُزيمة، والحاكم، والنَّووي، والذهبي، والألباني، وغيرهم.
وذَكره الحافظ ضياء الدِّين المقدسي ــ رحمه الله ــ في كتابه:
“الأحاديث المُختارة أو المُستخرَج مِن الأحاديث المُختارة مِمَّا لم يُخرِّجه البخاري ومسلم في صحيحيهما” (25).
ــــ وأخرجه أيضًا:
ابن الجارود في “مُنتقاه” (294)، والطحاوي في كتابه “شرح معاني الآثار” (2156)، فقالا:
حدثنا بَحر بن نصْر، قال: ثنا ابن وهْب، قال: وسمعت معاوية بن صالح، يُحدِّث عن أبي الزاهرية، عن عبد الله بن بُسْر، فذَكر نحوه.
وإسناده كسابقه، حسن أو صحيح.
1 ــ فبَحر بن نَصر، ثقة.
وقد وثقه: يونس بن عبد الأعلى، وابن خُزيمة، ومسلَمة بن القاسم، والذهبي، وابن حَجَر العسقلاني.
وقال عنه الإمام أبو حاتم الرَّازي ــ رحمه الله ــ: «صدوق ثقة».اهـ
2 ــ وابن وهَب، ثقة حافظ.
والباقون تقدَّموا.
الأثر الرابع:
أثر عبد الله بن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنهما ــ.
حيث قال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مصنَّفه” (5412)، تحت باب “الحديث يوم الجمعة قبل الصَّلاة”:
حدثنا زيد بن حُبَاب، قال: أخبرنا الضَّحاك بن عثمان، قال: أخبرني نافع:
(( عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَتَرَبَّعُ وَيَسْتَوِي فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ )).
وإسناده حسن، ورواته ما بين ثقة، وما بين مَن قيل فيه: ثقة أو صدوق.
والظاهر أنَّ ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ كان يَستوي للتحديث أو بعد الانتهاء مِن التحديث.
ولأجل ذلك أورَده الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ تحت باب:
«الحديث يوم الجمعة قبل الصَّلاة».
الأثر الخامس:
أثر السَّائب بن يزيد ــ رضي الله عنه ــ في تَحلُّق الصحابة بالمسجد قبل صلاة الجمعة لِبث العلم ونشره في الناس.
حيث قال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مصنَّفه” (5409)، تحت باب “الحديث يوم الجمعة قبل الصلاة”:
حدثنا ابن مُبارك، عن أسامة بن زيد، عن يوسف بن السَّائب، عن السَّائب، قال:
(( كُنَّا نَتَحَلَّقُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ )).
1 ــ وابن مُبارك، هو الإمام عبد الله بن المُبارك الثقة الثبت.
2 ــ وأسامة بن زيد، هو الليثي.
وقد قال عنه الحافظ ابن حَجَر العسقلاني ــ رحمه الله ــ: «صدوق يَهم».اهـ
3 ــ ويوسف بن السَّائب.
صوابه: محمد بن يوسف بن السَّائب.
كما عند:
ابن أبي حاتم الرَّازي في كتابه “العِلل” (2/582)، وأبي الشيخ الأصبهاني في كتابه “طبقات المُحدِّثين” (4/ 190)، وابن أبي شيبة في موضع وحديث آخَر مِن مُصنَّفه (7712).
ــــ حيث قال الحافظ عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرَّازي ــ رحمه الله ــ في كتابه “العلل” (2/ 582 ــ رقم: 610):
«وسمعت أبا زُرعة:
وحدثنا عن ابن أبي شيبة، عن ابن المُبارك، عن أسامة بن زيد، عن يوسف بن السَّائب، عن السَّائب قال:
(( كُنَّا نَتَحَلَّقُ يوم الجُمُعَة قبل الجُمُعَة )).
وسمعت أبا زُرعة يقول: هكذا قال، وإنَّما هو: أسامة بن زيد، عن محمد بن يوسف، عن السَّائب».اهـ
ــــ وقال الحافظ ابن أبي الشيخ الأصبهاني ــ رحمه الله ــ في كتابه “طبقات المُحدِّثين” (4/ 190):
«حدثنا عبد الله بن أبي عمرو, قال: ثنا هارون بن ظريف المكي, قال: ثنا ابن وهْب, قال: ثنا أسامة بن زيد, أنَّ محمد بن يوسف حدَّثه، أنَّه سمع السَّائب بن يزيد, يقول:
(( كُنَّا نَتَحَلَّقُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ النِّدَاءِ الأَوَّلِ، فَإِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ قُمْنَا ))».اهـ
ــــ وقال الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في موضعٍ وحديث ولفظ آخَر مِن “مُصنَّفه” (7712):
«حدثنا وكيع، قال: ثنا أسامة بن زيد، عن محمد بن يوسف الأعرَج، عن السَّائب، قال: قال عمر:
(( إِنَّكُمْ تَدْعُونَ أَفْضَلَ اللَّيْلِ آخِرَهُ ))».اهـ
ومحمد بن يوسف هذا، هو:
ابن عبد الله بن يزيد الكِندي المَدني الأعرَج ابن بنت السائب بن يزيد ــ رضي الله عنه ــ.
وقد قال عنه الحافظ ابن حَجَر العسقلاني ــ رحمه الله ــ: «ثقة ثبْت».اهـ
قلت:
وهذا الإسناد حسن عند عديدين مِن أهل العلم ــ رحمهم الله ــ، لأجل أسامة بن زيد الليثي.
وقد قال عنه الحافظ ابن حَجَر العسقلاني ــ رحمه الله ــ: «صدوقٌ يَهِم».اهـ
بل يَتقوَّى هذا الأثر عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ بما قبله مِن آثار مُتعدِّدة عنهم في تقرير نفس ما جاء فيه.
قلت:
وهذه الآثار الثابتة عن الجَمع الكثير مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صريحة في جواز التدريس وبَث العلم ونشره في المسجد ونفع الناس بِه يوم الجمعة قبل صعود الخطيب على المنبر للخطبة.
ولم أجد لهم بعد بحث طويل ومُتكرِّر، وفي أوقات مُختلفة، مُخالفًا لَهُم مِنهم ــ رضي الله عنهم ــ.
والتدريس وبَث العلم في هذا الوقت في المسجد أمر ظاهر ومُشاهد في المسجد، وتراه الأعداد الكثيرة مِن الصحابة والتابعين.
ولو كان ممنوعًا مِنه شرعًا، وثبَت فيه حديث لاشتهر الإنكار، أو ظهر وجود مُخالِف، وليس ظهور واشتهار الإقرار.
وحديث النَّهي المُتقدِّم ضعيف، وهو عن التَّحلُّق لا بَث العلم، والتحلُّق فيه للكراهة عند الجمهور، وهي تزول بالحاجة وأدْنَى عارض.
قلت:
وقد بقيت آثار في بَث الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ للعلم قبل صلاة الجمعة لم أذكرها هُنا، لأنَّ فيها ضعفًا أو اختلافًا في الألفاظ، أو تحتاج إلى وقت أطول في دراستها.
الوقفة الثالثة:
عن بعض كلام العلماء ــ رحمهم الله ــ في جواز بَثِ العلم والسُّنة في المسجد قبل صلاة الجمعة وخروج الخطيب للخطبة بالناس.
1 ــ قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الفقيه والمُتفقِّه” (2/ 272-274):
«وأسْتَحِبُّ للفقيه:
أنْ لا يُخِّلَ بعقْد الحلَقة في المسجد الجامع في أيَّام الجُمعات.
أخبرني أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن بشَّار السَّابوري بالبصرة, أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق التَّمَّار, نا أبو داود سليمان بن الأشْعث, نا مُسدَّد, نا يحيى ــ هو ابن سعيد القطان ــ، عن ابن عَجْلان, عن عمرو بن شُعيب, عن أبيه, عن جدَّه:
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ, وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ, وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ, وَنَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ )).
قلت ــ أي: الخطيب البغدادي ــ:
هذا الحديث محمول على أنْ تكون الحلقة بقُرب الإمام, بحيث يَشغل الكلام فيها عن استماع الخطبة, فأمَّا إذا كان المسجد واسعًا والحلقة بعيدة مِن الإمام, بحيث لا يُدركها صوته فلا بأس بذلك.
وقد رأيت كافة شيوخنا مِن الفقهاء والمُحدِّثين يفعلونه.
وجاء مِثله عن عِدَّة مِن الصحابة والتابعين ــ رضي الله عنهم ــ.
أنا أبو سعيد الحسن بن محمد بن عبد الله بن حسْنَوَيْه الكاتب بأصبهان, نا أبو جعفر أحمد بن جعفر بن أحمد بن مَعْبد السِّمسار, نا يحيى بن مُطرِّف, نا مسلم بن إبراهيم, نا شدَّاد بن سعيد الرَّاسبي أبو طلحة, نا معاوية بن قًرَّة, قال:
((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُزَيْنَةَ لَيْسَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ طَعَنَ أَوْ طُعِنَ, أَوْ ضَرَبَ أَوْ ضُرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ اغْتَسَلُوا, وَلَبِسُوا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِمْ, وَنَسَمُوا مِنْ طِيبِ نِسَائِهِمْ, ثُمَّ أَتَوَا الْجُمُعَةَ, وَصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ جَلَسُوا يَبُثُّونَ الْعِلْمَ وَالسُّنَّةَ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ )).
أنا محمد بن أحمد بن رِزْقَوَيْه , أنا عثمان بن أحمد الدَّقاق, نا حنبل بن إسحاق, نا عفان, نا مَهدي بن ميمون, قال:
(( رَأَيْتُ أَبَا الْعَلَاءِ، وَالْجُرَيْرِيَّ، وَأَبَا نَعَامَةَ السَّعْدِيَّ، وَأَبَا نَعَامَةَ الْحَنَفِيَّ، وَمَيْمُونَ بْنَ سِيَاهٍ، وَأَبَا نَضْرَةَ: يَتَحَلَّقُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ )).
قال عفَّان: (( وَذَكَرَ مَهْدِيٌّ أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ أَحْفَظْهُمْ ))».اهـ
ــــ وقال أيضًا في كتابه “الجامع لأخلاق الرَّاوي” (2/ 63 ــ رقم:1189 و 1190):
« أخبرني عُبيد الله بن عبد العزيز بن جعفر البَرْذَعي، أنا محمد بن المُظفَّر الحافظ، نا أبو الفضل العباس بن إبراهيم القَراطِيسي، نا عمرو بن علي بن بَحْر بن كثير أبو حفص، نا المُعتمِر بن سليمان التَّيمي، نا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن عَجلان، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه:
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ )).
قال أبو حفص ــ وهو: عمرو بن علي بن بَحْر بن كثير، أحد رواة هذا الحديث ــ:
ورأيت عبد الرحمن بن مَهدي جاء إلى حلَقة يحيى بن سعيد، ومعاذ بن معاذ العنبري، فقَعد خارجًا مِن الحلْقة.
فقال له يحيى: “ادخل في الحلْقة”.
فقال له عبد الرحمن: “أنت حدَّثتني عن ابن عجلان، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه عن جدِّه: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّحَلُّقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ )).
فقال له يحيى بن سعيد: فأنا رأيت حبيب بن حسان كذا قال، وفي رواية غيره: “أنا رأيت هشام بن حسان، وحبيب بن الشهيد، وسعيد بن أبي عَرُوبة يَتحلَّقون يوم الجمعة قبل خروج الإمام”.
فقال عبد الرحمن: فهؤلاء بلَغهم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عنه ففعلوه.
قال أبو بكر ــ أي: الخطيب البغدادي ــ:
وهذا الحديث يَتفرَّد بروايته عمرو بن شُعيب، ولم يُتابعه أحد عليه، وفي الاحتجاج بِه مَقال.
فيُحتَمل أنْ يكون يحيى بن سعيد ومَن وافقه تركوا العمل بِه لذلك.
أو يكون النَّهي مصروفًا إلى مَن قارب مِن الإمام خوفًا أنْ يُشْغَل عن سماع الخطبة.
فأمَّا مَن بعُد مِنه بحيث لا يَبلُغه صوته، فتجوز له المُذاكرة بالعلم في وقت الخطبة.
أنبأنا أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب، أنا محمد بن حميد المُخَرَّمِي، نا علي بن الحسين بن حِبَّان، قال: وجدت في كتاب أبِي قال: أبو زكريا ــ يعني: يحيى بن مَعين:
(( رَأَيْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، وَمُعَاذَ بْنَ مُعَاذٍ، وَحَمَّادَ بْنَ مَسْعَدَةَ: يَتَحَلَّقُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَمَعَهُمْ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا يَتَحَدَّثُونَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، وَمُعَاذٌ يُحَدِّثُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَدِيثِ قَالَ لِيَحْيَى: أَلَيْسَ هَكَذَا يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَيَقُولُ لَهُ: نَعَمْ، وَمَا يُصَلُّونَ الْبَتَّةَ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ )).
قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا: (( وَكَانَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَأَصْحَابُهُ يَتَحَلَّقُونَ أَيْضًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: زَعَمُوا مَا فَعَلَتْ حَلْقَتُكُمْ يَا أَبَا عُمَرَ قَالَ: «هِيَ عَلَى حَالَتِهَا» ))».اهـ
قلت:
وقول الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي ــ رحمه الله ــ المُتقدِّم عن التدريس وبَث العلم يوم الجمعة قبل صعود الخطيب:
«وقد رأيت كافة شيوخنا مِن الفقهاء والمُحدِّثين يفعلونه.
وجاء مِثله عن عِدَّة مِن الصحابة والتابعين ــ رضي الله عنهم ــ».اهـ
ظاهر في اشتهار فِعل ذلك في زمَنه عن الفقهاء والمُحدِّثين، وعمَّن قبلهم مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ، وتلامذتهم مِن التابعين.
2 ــ وجاء في كتاب “المُدونة” (1/ 330)، مِن أشهر كتب المالكية:
«قال ابن القاسم: رأيت مالكًا والإمام يوم الجمعة على المنبر قاعد، ومالك مُتحلِّق في أصحابه قبْل أنْ يأتي الإمام، وبعدما جاء يَتحدَّث ولا يَقطع حديثه ولا يصرف وجْهه إلى الإمام، ويُقبِل هو وأصحابه على حديثهم كما هُم حتى يَسكت المؤذن، فإذا سَكت المؤذن وقام الإمام للخطبة تحوَّل هو وجميع أصحابه إلى الإمام فاستقبلوه بوجوههم.
قال ابن القاسم: وأخبرني مالك:
(( أنَّه رَأى بعض أهل العلم مِمَّن مضَى يَتحلَّق في يوم الجمعة ويتحدَّث )).
فقلت لِمالك: متى يجب على الناس أن يستقبلوا الإمام بوجوههم؟
قال: إذا قام يَخطب وليس حين يخرج.
قال ــ أي: ابن القاسم ــ: ورأيت مالكَا يَتحدَّث وحوله حلقة، والإمام جالس على المنبر والمؤذنون في الأذان.
قال ــ يَعني: مالك ــ: وإنَّما يَستقبل الناس الإمام بوجوههم إذا أخذ في الخطبة ليس حين يَجلس على المنبر والمؤذنون في الأذان».اهـ
3 ــ وجاء في كتاب “ديوان الأحكام الكبرى” (ص: 662)، مِن كتب المالكية، لابن الأصْبَغ الجياني ــ رحمه الله ــ:
«في المُتحلِّقين للمسائل يوم الجمعة في الجوامع:
مِن أحكام ابن زياد:
سألتنا ــ وفقك الله وأعانك على ما قلدَك ــ:
عن قوم يحُلِّقون في المسجد الجامع للفُتيا، ومذاكرة العلم، والخوض فيه، وذكرْت أنَّ رافعًا رفع إليك أنَّ المُتحلِّقين فيه ليسوا مِمَّن يَستحق ذلك، وأنَّ إقامتهم واجب، إذ المساجد إنَّما اتُخِذت للصلاة، وتحلُّقهم فيها مِمَّا يَضُر بالمُصلَّين.
فالذي نَراه، ونقول بِه في ذلك ــ والله الموفق ــ:
أنَّ المساجد وإنْ اتُّخِذَت للصلاة، فإنَّ الخوص فيها في العلم وضروبه جائزة من فعل الأئمة.
وقد جاء عن مالك ــ رحمه الله ــ أنَّه كان يَتحلَّق يوم الجمعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يَخرج الإمام، فإذا خرج قطع الفتيا واستقبل الإمام.
والعلم ــ أكرمك الله ــ أفضل شيء اجتُمع لِمُذاكرته والتكلم فيه بعد كتاب الله ــ عزَّ وجلَّ ــ.
وقد رأيت مساجد الأمصار يَتحلَّق فيها الأئمة، ومَن دونهم مِن المُتفقِّهين، ولا يُنكَر ذلك عليهم، ولا يُقام أحد مِنهم.
وترْك المُتحلِّقين في الجامع على ما هُم عليه واسع إنْ شاء الله.
قال بذلك: عُبيد الله بن يحيى، وابن لبابة، ومحمد بن وليد، وسعد بن معاذ».اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.
الفهارس
الوقفة الأولى:
عن الحديث النَّبوي الوارد في النَّهي عن التحلُّق في المسجد قبل خطبة وصلاة الجمعة، وبيان ضَعفِه.
[2 ــ 19 ]
الوقفة الثانية:
عن الآثار الواردة عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ في جواز التدريس والتحديث وبَث العلم ونفع الناس بِه في المسجد قبل خطبة وصلاة الجمعة.
[ 19 ــ 29 ]
الوقفة الثالثة:
عن بعض كلام العلماء ــ رحمهم الله ــ في جواز بَثِ العلم والسُّنة في المسجد قبل صلاة الجمعة وخروج الخطيب للخطبة بالناس.
[ 29 ــ 33 ]