إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > الخطب المكتوبة > خطبة مكتوبة بعنوان: ” الحلم والأناة خصلتان يحبهما الله جل وعلا من عباده ” ملف [word-pdf] مع نسخة الموقع.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” الحلم والأناة خصلتان يحبهما الله جل وعلا من عباده ” ملف [word-pdf] مع نسخة الموقع.

  • 12 أكتوبر 2023
  • 4٬282
  • إدارة الموقع

الحِلمُ والأَنَاةُ خَصلَتان يُحبُّهما الله جلَّ وعلا مِن عبادِه

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، خالقِ الخلقِ أجمعينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ مالكِ يومِ الدِّينِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الصادقُ الأمينُ، اللهمَّ فصَلِّ وسلِّم وبارِكْ عليهِ وعلى آلِهِ وأزواجِهِ وذُريَّتِهِ وأصحابِهِ في كُلِ حِين.

أمَّا بعد، أيُّها الناسُ:

فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لِلْأَشَجِّ، أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: (( إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ )).

أمَّا الحِلْمُ ــ يا عبادَ اللهِ ــ فهوَ: «أنْ يَملِكَ الإنسانُ نفسَهُ عندَ الغضَبِ حينَ يُستَثارُ ويُستفَزُّ أو يُعتدَى عليهِ بقولٍ أو فِعلٍ أو يُظلَمُ، فلا يُعاقِبُ مَن أخطأَ في حقِّهِ، ويُقابِلهُ بالعَفوِ والصَّفْحِ».

وصاحبُ هذا الخُلقِ العظيمِ هوَ الإنسانُ القويُّ حقًّا وصِدْقًا، لِمَا صحَّ أنَّ  النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأصحابهِ ــ رضِيَ اللهُ عنهُم ــ: ((«مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قَالَوا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» ))، ولمَّا ذَكرَ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ المُتقينَ الذينَ أُعِدَّتْ لهُمُ جنَّاتُ النَّعيمِ، قالَ في وصْفِهِم: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }.

وصحَّ عن جارِيَةَ بنِ قُدامَةَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ: قُلْ لِي قَوْلًا يَنْفَعُنِي، وَأَقْلِلْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعِيهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَغْضَبْ» ))، ثمَّ كرَّرَ نفسَ السؤالِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم عدَّةَ مرَّاتٍ، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعيدُ عليهِ نفسَ الإجابةِ: (( لَا تَغْضَبْ )).

وصحَّ أنَّ صحابيًّا قالَ بعدَ هذهِ الواقعةِ: (( فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ )).

ومَن لا يَملِكُ نفسَهُ إذا غضِبَ فسَيقعُ في شُرورٍ عظيمةٍ، ومضارٍّ كبيرةٍ، وفِتَنٍ شديدةٍ، إذْ يَقتلُ نفسًا أو نُفوسًا بغيرِ حقٍّ، أو يتجاوَزُ في الاقتصاصِ والانتقامِ مِمَّن ظلمَهُ أو أخطأَ عليهِ، أو يُطلِّقُ زوجتَهُ، أو يقطَعُ رَحِمَهُ وقرابَتَهُ، أو يتسبَّبُ في قتلِ نفسِهِ أو الاعتداءِ عليها أو سَجْنِها ومُعاقبةِ قضاءِ الدَّولَةِ لَه، أو يُحدِثَ فتنًا وانقساماتٍ في أهلِه أو قرابتِهِ أو رِفاقِهِ أو مسجِدِه، أو بينَ الناسِ، أو يقعُ في بُهتانٍ وافتراءٍ وأذيَّةٍ وظُلمٍ أشد مِمَّا وقعَ عليه.

وأمَّا الأَنَاةُ ــ يا عبادَ اللهِ ــ فالمُرادُ بِها: «أنْ يَتَأنَّ الإنسانُ وَيَترُكَ التَّعجُّلَ والتَّسرُّعَ  في التفاعُلِ والحُكمِ والنَّقلِ واتِّخاذِ المواقفِ معَ ما يَسمَعُ أو يَقرأُ أو يُشاهدُ أو يُعايِشُ مِن أُمورٍ وأحداثٍ وأخبارٍ ووقائع، وسواءٌ كانتْ تتعلَّقُ بِهِ، أو بَمَن حولَهُ، أو ببلدِهِ، أو بالبلدانِ الأُخْرى، حتى يَتثبَّتَ ويَعرِفَ حُكمَ الشريعةِ، ويَنظرَ مُراعيًا المصالحَ والمفاسِدَ المُترتِّبةَ على ذلك، وهلِ الأمرُ يَخصُّهُ أمْ أنَّ مرَدَّهُ إلى جهاتٍ أُخْرى، كالحاكمِ والعلماءِ وجِهاتِ الاختصاصِ في الدَّولَة».

ولأنَّ الأمورَ في أحيانٍ كثيرةٍ تظهرُ للإنسانِ بوجْهٍ يَراهُ مُستقيمًا، وليس كذلك، لِنقصِ علمِهِ، وقلَّةٍ تجرُبَتِهِ، وشديدِ عاطفتِهِ، وقصورٍ عقليَّتِه، وضَعفِ تفطُّنِهِ، وكثرةِ المُلبِّسينَ، ولا يَنظرُ حِينَها إلى عواقبِها ونتائجِها ومآلاتِها في المُستقبَلِ، وما شابَهَها في الماضِي، ولا ما وراءَها وما في بواطِنِها وأسبابِها مِن مَكْرٍ وكيدٍ وتخطيطٍ وأهدافٍ ومقاصدَ وغاياتٍ لأشخاضٍ أو أحزابٍ وجماعاتٍ أو هيئاتٍ ومُنظَّماتٍ أو أعداء.

وقد ذمَّ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ العجلةَ في كتابِهِ القرآنِ، فقالَ سبحانهُ: { وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا }، وجاءَ في حديثٍ حسَّنهُ العلامةُ الألبانيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ وغيرُهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ ))، وفي حديثٍ صحَّحه جمعٌ مِن أهلِ العلمِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ )).

والتّؤُدَةُ هيَ: «التأنِّي والتَّثبُّتُ وعدمُ العجَلَة».

وقال الحافظُ ابنُ حِبَّانَ ــ رحمه الله ــ: «والعَجِلُ تَصحَبُهُ النَّدامَةُ، وتَعتزِلُهُ السلامَةُ، وكانتِ العربُ تُكنِّي العَجلَةَ: “أُمَّ النَّدَامَاتِ”».

ومَن ترَكَ التأنِّيَ، وتعجَّلَ وتسرَّعَ فسَيقعُ في شُرورٍ عظيمةٍ، ومضارٍّ كبيرةٍ، إذْ سيُحدِّثُ بكُلِ ما سمعَ، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ))، وسَيَضُرُ بإسلامِهِ حينَ يُدخِلُ نفسَهُ فيما لا يَعنِيهِ مِن الأُمورِ، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ ))، وسَتَصْدُرُ عنهُ أحكامٌ وأفعالٌ محرَّمةٌ حَوَتِ الافتراءَ والبُهتانَ، والظُّلمَ والأذيَّةَ، والقولَ على اللهِ وفي دِينهِ وشرعِهِ بغيرِ علمٍ، والافتياتَ على حاكمِهِ وجهاتِ الاختصاصِ في دَولَتِه، وسيُدخِلُ نفسَهُ وأهلَهُ ورِفاقَهُ والناسَ أو بلدَهُ في فتنٍ عديدةٍ، ومشاكلَ مُتنوِّعةٍ، وأضرارٍ مُستمِرَّة.

أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيمِ: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي بنعمَتِهِ تَتِمُّ الصالحاتُ، وبتقواهُ يُفلِحُ العِبادُ، وبرِضاهُ يعظُمُ النَّعيمُ في الجنَّاتِ، والصلاةُ والسلامُ على جميعِ الأنبياءِ، وآلِ كُلٍّ وصحَابتِهِم وأتباعِهِم مِن المؤمنين.

أمَّا بعد، أيُّها الناسُ:

فإنَّ الحِلْمَ بترْكِ الغضَبِ، ومُجاهدةِ النفسِ على كظمِهِ، والأَناةَ بترْكِ العَجَلةِ في الأمورِ لَمِن أعظمِ الأخلاقِ، وجليلِ الصِّفاتِ، ومكارِمِ الأفعالِ، وأجْمَعِهِا للخيرِ، وأجلَبِهِا للرَّاحةِ، وأبعَدِهِا عن الشَّرورِ، وأدفَعِهِا للفِتن.

وأهلُهُما هُم أهلُ العقولِ الراجِحةِ السَّديدَةِ، والنُّفوسِ الكريمةِ الزَّاكيَةِ، والمكانةِ الجميلةِ الرَّفيعَة، فكونوا مِن أهلِهِما.

أيُّها الناسُ:

مَن دخلَهُ الغضبُ مِنكُم، فليَستعِذْ باللهِ مِن الشيطانِ، فإنَّ الاستعاذةَ باللهِ تُضعِفُ الغضَبَ، لِمَا صحَّ أنَّه: (( اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» )).

ومَن غضِبَ مِنكُم، فلا يتجاوَبُ مع هذا الغضَبِ، وليَسكُتْ ويَهدأ، لِمَا جاءَ بإسنادٍ حسَّنَهُ العلامةُ الألبانيُ ــ رحمهُ اللهُ ــ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: (( إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ)).

ومَن اشتدَّ بِه الغضَبُ، فليَتذَكَّرْ فضلَ كظْمِ الغيظِ، وما فيهِ مِن أجْرٍ كبيرٍ، ومالَهُ مِن فوائدَ طيِّبَةٍ في دُنياهُ وأُخْرَاهُ،حيثُ ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ ))، وقالَ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ مُرغِّبًا ومُبشِّرًا: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }، وقالَ اللهُ سبحانهُ آمِرًا: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.

اللهمَّ يا حَيُّ يا قيومُ يا بديعُ السماواتِ والأرضِ: ارفعِ الضُّرَ والكرْبَ والبَلاءَ عن المُستضعَفِينَ مِن المسلمينَ في فلسطينَ، وفي كلِّ أرضٍ وبلاد.

اللهمَّ سلِّم لهُم أنفسَهم وأهلِيهِم وأموالَهُم وديارَهُم ومساكِنَهُم، وادفعْ عنهمُ الجَلاءَ والنُّزوحَ مِن بيوتِهم وديارِهِم.

اللهمَّ ارْحَم موتاهُم، واشفِ مرضاهُم والجَرْحَى مِنهُم، واربطْ على قلوبِهم فلا يقولوا ويفعلوا إلا ما يُرضيكَ عنهُم، ومُنَّ علينا وعليهِم بالأمِنِ والرِّزقِ والعافيةِ وراحةِ النفسِ وطُمأنينَةِ القلب.

اللهمَّ اجبُرْ مُصيبَةَ مَن أُصِيبَ مِنهم بشيءٍ في بدَنِهِ أو أهلهِ أو مالهِ، وتفضَّلْ عليهِ بالخلَفِ العاجلِ، والخيرِ المِدرار.

اللهمَّ قاتلِ اليهودَ الصَّهاينَةَ المُعتدِينَ، وخالِفْ بينَ كلمتِهم، وألقِ الرُّعبَ في قلوبِهم، وأنزِلْ عليهِم رجزَكَ وعذابكَ إلهَ الحق.

اللهمَّ سدِّد ولاةَ أُمورِ المسلمينَ إلى مراضيكَ، وأقِم بِهِم شريعَتَكَ، وأصلِح بِهِم عبادَكَ وأرضَكَ، وانصُرْ بِهم الإسلامَ والمسلمين.

اللهمَّ أجِرْنا ووالِدِينا وأهلِينا مِن خِزْيِ الدُّنيا وعذابِ الآخِرةِ، واغفرْ لَنَا، وثبِّتنَا بالقولِ الثابتِ في الحياةِ وعندَ المماتِ، إنَّكَ سميعُ الدُّعاءِ.

وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولَكُم.