أمور نحتاج إلى معرفتها عند ذكر الله أو دعائه
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ المُتابِعِ لأهلِ طاعتِهِ إعانتَهُ وإمدَادَهُ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ محمدٍ خيرِ بَرِيَّاتِهِ، وأتقَى عبادِهِ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، وكلِّ مَن اتَّبعَ إرشادَه.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناسُ:
فإنَّ ذكرَ اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ مِن أجلِّ العباداتِ، وأيسرِها عملًا، وأكثرِها أجرًا، وقد أمرَكُم ربُّكُم بالإكثار مِنه، فقالَ سبحانَه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصيلًا }، وثبتَ أنَّ رَجُلًا قالَ: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، فقَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» )).
وهذهِ ــ يا عِبادَ اللهِ ــ أمورٌ ثلاثةٌ يَنبغِي أنْ تتنبَّهوا لَها، وتعرفوا حُكمَها، وتعملوا بِها، وتُعْمِلوها عندَ ذِكرِكُم لِربِّكُم ــ جلَّ وعلا ــ:
الأمرُ الأوَّل: الأصلُ في ذِكرِ العبدِ للهِ أنْ لا يَرفع بَه صوتَه.
ويُقرِّرُ هذا الأصلَ قولُ اللهِ سبحانَه: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }، وصحيحُ حديثِ أبي موسى ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّه قالَ: (( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لاَ نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلاَ نَعْلُو شَرَفًا، وَلاَ نَهْبِطُ فِي وَادٍ إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ))، وقالَ الإمامُ الطَّبرِيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ بعدَ هذا الحديثِ: «في هذا الحديثِ: كراهيةُ رفعِ الصَّوتِ بالذِّكرِ، وبِه قالَ عامُّة السَّلفِ مِن الصَّحابةِ والتابعين»، وصحَّ عن قيسِ بنِ عبَّادٍ أنَّهُ قالَ: (( كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الذِّكْرِ ))، وإلى عدمِ رفعِ العبدِ صوتَهُ بالذِّكرِ ذهبَ الأئمةُ الأربعةُ، وغيرُهُم.
ويُسْتثنَى مِن هذا الأصلِ: المواضعُ التي ورَدَتِ السُّنَّةُ النَّبويةُ بأنْ يُجْهَرَ فيها ببعضَ الأذكار، فالمُستَحبُّ حينَها أنْ يَجهرَ الذَّاكر، وهيَ مواضِعُ قليلة.
الأمرُ الثاني: قولُ الأذكارِ جماعيًّا بصوتٍ واحدٍ مُرتفعٍ، يُوافقُ الناسُ فيهِ بعضُهم بعضًا، مِن البِدعِ المُحرَّمَةِ التي حصلَتْ في العُصورِ المُتأخِّرَة.
ومِن أمثلةِ هذه البِدعِ اليوم:
أولًا ــ النُّطقُ جماعِيًّا بالأذكارِ التي تُقالُ بعدَ السلامِ مِن صلاةِ الفريضَة.
ثانيًا ــ أنْ يجلسَ الناسُ في مسجدٍ أو بيتٍ أو زاويةٍ فيَذكرونَ اللهَ ذِكرًا جماعيَّا.
ثالثًا ــ ذِكرُ اللهِ جماعِيًّا في الطوافِ حولَ الكعبةِ، أو السَّعيِّ بينَ الصَّفا والمَروةٍ أو صَعيدِ عرَفَة أو مَوقِفِ مُزدَلِفَة.
رابعًا ــ تِكبيرُ الناسِ جماعيًّا في يومِ عيدِ الِفطرِ، ويومِ عيدِ الأضحَى، وأيَّامِ التشريق.
ومَن بحثَ عن ذِكرِ اللهِ جماعيَّا بصوتٍ مُتوافقٍ ومُرتفعٍ في هذهِ المواضعِ المذكورةِ وغيرِها، فلنْ يجدَهُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِهِ، ولا عن التابعينَ، وباقِي سَلفِ الأُمَّةِ الصالحِ، ولا عن الأئمةِ الأربعة.
الأمرُ الثالث: الحِرصُ الشَّديدُ على الأذكارِ الصَّحيحةِ الواردةِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أهمِّ الأشياءِ، وأفضلِها، وأكثرِها أجْرًا، ولا خطأََ فيها.
بحيثُ: تُحفَظُ، ويُذكرُ اللهُ بها، وما قُيِّدَ مِنها بزمانٍ أو مكانٍ أو عددٍ فيُقالُ كما ورَدَ، وما أُطْلِقَ مِنها فيُذكرُ اللهُ بِه على كلِّ حال، وفي أيِّ وقتٍ، إلا عندَ البولِ والغائطِ والجماعِ فيُكرَه.
لأنَّ أذكارَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ألفاظُها جامعةٌ، ومعانِيها شاملةٌ، ومعصومةٌ مِن الخطأ، إذْ جاءَتْ مِن عندِ اللهِ، وسَهلةُ الحِفظ ِوالنُّطق، ومعلومٌ: فضلُها في نفسِها، وعلى غيرِها، وأنَّها أفضلُ الذِّكرِ وأعظَمُهُ وأجملُهُ، ومعروفٌ: كبيرُ أجرِها، وجزيلُ ثوابِها.
وإنَّ مِمَّا يُؤسَفُ لَهُ: أنْ تجدَ كثيرًا مِن الناسِ قد أهمَلوا حفظَ النَّبويةِ، وضَعُفَ ذِكرُهُم لِلهِ بها، واعتاضُوا عنها بأورادٍ وأذكارٍ كتبَها أُنَاسٌ، بل وتَعُجُّ بالألفاظِ المُحرَّمةِ، والأمورِ المُخالفةِ للعقيدة، والبٍدع ِالمُنكَرةِ، وهؤلاءِ مُهدَّدُونَ بقولِ اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ }، حيثُ استبدَلُوا الذِّكرَ والوِرْدَ النَّبويَّ الذي جاءَ مِن عندِ اللهِ بغيرِه.
ألَا فاتقوا اللهَ ــ عبادَ اللهِ ــ وكونوا مِن الذَّكرينَ اللهَ كثيرًا، واجعلوا أذكارَكُم موافقةً للسُّنةِ النَّبويةِ في جميعِ ما يَختَصُّ بِها مِن أحكام، فإنَّ الاعتصامَ بالسُّنَةِ نجاةٌ وفلاح.
أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيمِ: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ العظيمِ الحليمِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ الجوادُ الكريمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المَبعوثُ رحمة لِلعالَمينَ.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناسُ:
فقد ثبتَ عن الفُضيلِ بنِ عِياضٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( الدُّعاءُ سِلاح المُؤْمِنِ ))، وقالَ اللهُ سبحانَهُ آمِرًا لكُم بدُعائِهِ ومُبشِّرًا: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }، وثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:(( إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي أَنْ يَمُدَّ عَبْدُهُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ خَيْرًا ثُمَّ يَرُدَّهُمَا صِفَرًا )).
وهذهِ ــ يا عِبادَ اللهِ ــ أمورٌ ثلاثةٌ يَنبغِي أنْ تتنبَّهوا لَها، وتعرفوا حُكمَها، وتعملوا بِها، وتُعْمِلوها عندَ دُعائِكُم لِربِّكُم ــ عزَّ وجلَّ ــ:
الأمرُ الأوَّلُ: الدعاءُ حقٌّ للهِ وحدَهُ، فلا تَصرِفُوهُ إلا إليهِ سُبحانَه.
حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:(( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ ))، والعِبادةُ حقُّ خالصٌ للهِ وحدَه، لا تُصرَفُ إلا إليهِ، وبذلكَ حَكَمَ على جميعِ الخلقِ، فقالَ سبحانَه: { إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ }، وقالَ ــ جلَّ وعلا ــ مُحرِّمًا صرْفَهُ لِغيرِه: { فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }.
وإنَّ مِن أكثرِ صُوَرِ الشِّركِ والكُفر المُنتشرةِ بينَ النَّاسِ في الماضِي والحاضِرِ: صَرْفَ عبادةِ الدُّعاءِ للملائكةِ، أو الأنبياءِ والرُّسلِ، أو الصحابةِ، أو الأولياءِ والصَّالحينَ، أو غيرِهم.
حيثُ يُشرِكونَهم مع اللهِ فيها، فيَدعونَهُم معضهُ قائلين: “فَرِّجْ عنَّا يا رسول الله”، “مدَد يا بَدوي”، “أغِثنا يا جَيْلاني”، “اشفِنا يا حُسين”، “احمِنا يا عَيدرُوس”، “اكشِف ما أصابَنا يا مِيرغَنِي”، “شيئًا للهِ يا رِفاعِي”.
الأمرُ الثاني: الدعاءُ بعدَ الانتهاءِ مِن صلاةِ الفريضةِ مشروعٌ باتفاقِ العلماءٍ، بحيثُ يَدعو الإنسانُ لِوَحدِهِ سِرًّا لا جهرًا، بينَهُ وبينَ نفسِهِ، بمَا ورَدَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ مِن أدعيةٍ في هذا المَوضِعِ، وإنْ زادَ ما تيسَّرَ فلا حرَج.
وقد قال الإمامُ ابنُ جَريرٍ الطبريُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «كراهيةُ رفعِ الصوتِ بالدعاءِ هوَ قولُ عامَّةِ السَّلفِ مِن الصَّحابةِ والتابعين».
وأمَّا دعاءُ الإمامِ مع المأمومينَ جهرًا وجماعيًا بعدَ السلامِ مِن صلاةِ الفريضة، بحيثُ يَدعو ويُؤمِّنونَ خلْفَه: فلا يُعرَفُ في شريعةِ الإسلامِ، ولا فعلَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابُهُ، ولا أهلُ القُرونُ الأولى، ولا أئمةُ المذاهبِ الأربعةِ، ولا تلامذتُهم، بل هو مِن البدعِ الممنوعةِ عندَهُم
وقد قال الفقيهُ الشاطِبيُّ المالكيُّ ــ رحمهُ الله-: «دعاءُ الإمامِ للجماعةِ في أدبارِ الصلواتِ ليس في السُّنةِ مَا يَعضُدُهُ، بل فيها ما يُنافيهِ، فإنَّ الذي يجبَ الاقتداءُ بهِ سيِّدُ المُرسَلينَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والذي ثبتَ عنه مِن العملِ بعدَ الصلوات: إمَّا ذِكرٌ مُجرَّدٌ لا دُعاءَ فيهِ، وإمَّا دعاءٌ يَخُصُّ بهِ نفسَهُ، ولم يَثبُتْ أنَّهُ دعا للجماعةِ، وما زالَ كذلكِ مُدَّةَ عُمُرِهِ، ثم الخلفاءُ الرَّاشدونَ بعدَهُ، ثم السَّلفُ الصالح».
الأمرُ الثالثُ: مِن الأمورِ المُحرَّمةِ في الدُّعاءِ عندَ أهلِ العلمِ مِن أهلِ السُّنةِ والحديث، وعُمومِ الفقهاءِ: «دعاءُ اللهِ وسؤالُهُ بجاهِ أو حقِّ أحدٍ مِن الخلقِ والمخلوقاتِ».
كقولِ بعضِهم حينَ يَدعو اللهَ: “اللهمَّ إنِّي أسألُكَ بِجاهِ أو بحقِّ نبيِّكَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أو بجاهِ الأنبياءِ، أو بِجاهِ عبادِكَ الصالحين، أو بحقِّ هذهِ الجُمعةِ أو رمضان، أو بحقِّ الكعبةِ”.
لأنَّ إدخالَ الجاهِ أو الحقِ في الدُّعاء، لم يأتِ بهِ نصٌّ مِن القرآنِ، ولا نصُّ صحيحٌ في السُّنةِ النَّبويةِ، ولا عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ والتابعينَ، وما كانَ كذلكَ فالعلماءُ يَحكمونَ عليهِ بأنَّهُ: “بدعةٌ”، والبدعةُ مُحرَّمةٌ وضَلالَةٌ، بل هيَ أعظمُ مِن المَعصيةِ باتفاقِ العلماء.
هذا وأسألُ اللهَ لِي ولكُمُ: المغفرةَ والرَّحمةَ ودخولَ الجنَّة، ربَّنا هَبْ لنَا مِن أزواجَنا وذُرِّياتِنا قُرَّةَ أعيُن، واجعلنا للمتقينَ إمامًا، ربَّنا لا تُزغ قلوبَنا بعد إذ هديتَنا وهَبْ لنَا مِن لدُنكَ رحمةً إنَّك أنت الوهاب، اللهمَّ ارفعِ الضُّرَ عنِ المُتضرِّرينَ مِن المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، إنَّكَ سميعُ الدُّعاء، وأقولُ هذا وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.