شيء مِن أحكام الليل إذا دخل
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي جعلَ الليلَ لِباسًا وسَكنًا، والنَّومَ سُباتًا، والنَّهارَ نُشورًا، آيةً وعِبرَةً وتفضُّلًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ما بَقِيَ اليلٌ معَ نَهار.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمونَ:
فقد أمرَ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ بالاستعاذةِ بِهِ سُبحانَهُ مِن الليلِ إذا أقبلَ بظلامِهِ فدخلَ في كلِّ شيءٍ وجِهَةٍ، فأذهبَ اللهُ بظُلمَتِهِ ضوءَ النَّهارِ وأزالَهُ، فقالَ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }.
والسَّببُ الذي لأجلِهِ أُمِرْنا بالاستعاذةِ باللهِ من شَرِّ الليلِ إذا دخلَ هوَ:
أنَّ الليلَ محلُ سُلطانِ الأرواحِ الشِّريرَةِ الخَبيثَةِ، وفيهِ تَنبَعِثُ الشياطينُ والجِنُّ وتَنتشِرُ، وتخرجُ السِّبَاعُ والهَوامُّ المُؤذِيَةُ مِن أماكِنها وجُحُورِها، ويزدادُ الإجرامُ والفسادُ والإفسادُ والإرهابُ والفُجُورُ والعُهرُ في الأرض، إذِ الليلُ محلُ الظلامِ، وظلامُهُ يَستُرُ أكثرَ الشُّرورِ وأهلَهَا، ويُعِينُ عليها، ويعوقُ عن الاستِصراخِ والاستنجادِ، ووقتُ الليلِ أكثرُ الناسِ لا يعملونَ فيهِ، فيتفرَّغونَ للذهابِ أو مشاهدةِ أو فِعلِ ما يَحرُمُ ويُفسِد، والليلُ ليسَ شرًّا في نفسِهِ، ولا الشَّرُ مِن عملِهِ، وإنَّما هو ظرْفٌ تكثُرُ فيهِ الشُّرور.
أيُّها المسلمونَ:
هذهِ جملةٌ مِن المسائلِ والأحكامِ النافعَةِ التي تتعلَّق بالليلِ إذا دخلَ:
المسألةُ الأولى:
إذا غرَبَتِ الشَّمسُ ودخلَ الليلُ بغُروبِها، فكُفُّوا أولادَكُم ذُكورًا وإناثًا عن اللعبِ في الطُرُقاتِ، وغيرِها، وكُفُّوا مواشِيَكُم عن الرَّعْيِّ في الأرضِ، حتى تذهبَ ظُلمَةُ وسوادُ الليلِ، لِنَهيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لكُم عن ذلكَ وأمرِهِ، حيثُ صحَّ أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَ: (( لاَ تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ ))، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( اكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً )).
المسألةُ الثانيةُ:
لا تترُكوا قراءةَ آخِرِ آيتَينِ مِن سُورةِ “البقرَةِ” في كلِّ ليلةٍ تعيشونَها، ففِي قراءَتِها دفعَ الشُّرورِ عنكُم، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ ))، أي: كفَتَاهُ مِن كُلِّ سُوء.
المسألةُ الثالثةُ:
أقِلُّوا الخُروجَ بالليلِ مِن منازِلِكُم عندَ سكونِ الناسِ في بُيوتِهِم، وقِلَّةِ وجودِهِم في الطُّرُقاتِ، ولا يوجدُ سَببٌ وحاجةُ لِذلِكَ، لِمَا ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( أَقِلُّوا الْخُرُوجَ إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ، إِنَّ اللَّهَ يَبُثُّ مِنْ خَلْقِهِ بِاللَّيْلِ مَا شَاءَ )).
المسألةُ الرابعةُ:
أغلقوا أبوابَ بُيوتِكُم إذا دخلَ الليلُ ولا تترُكوها مفتوحةً كالنَّهارِ، وسَمُّوا اللهَ على ذلكَ، حتى ولو كُنتُم تعيشونَ في مزرعةٍ أو قريةٍ أو مدينةٍ كبيرةٍ أو مكانٍ آمِنٍ، وذلكَ لِمَا صحَّ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ ))، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا )).
المسألةُ الخامسةُ:
غطوا ــ لاسِيَّما بالليلِ ــ الأوانِيَ التي فيها طعامٌ وشرابٌ، وسمُّوا اللهَ على ذلكَ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ قالَ: (( أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُ ))، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ ))، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ )).
المسألةُ السادسةُ:
أطفِئُوا بالليلِ قبلَ أنْ تناموا النَّارَ التي لَهَا لهَبٌ، أو يُخشَى مِنها ضرَرٌ على أنفُسِكُم أو بُيوتِكُم أو متاجِرِكُم أو مكانِ وجُودِكُم، وسمُّوا اللهَ على ذلكَ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ قالَ: (( لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ ))، وصحَّ أنَّه: (( احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَأْنِهِمْ، قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ» ))، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( وَأَطْفِئُوا المَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ، فَإِنَّ الفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتِ الفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ البَيْتِ))، والفُويسِقَةُ هيَ: أالفأرة، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: ((وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ )).
المسألةُ السابعةُ:
لا تدَعُوا الشيطانَ يَبيتُ في بيوتِكُم بالليلِ، وادفعوا ذلكَ بتسميةِ اللهِ عندَ دُخولِكُم إليها وعندَ أكلِكُم وشُربِكُم، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ قالَ: (( إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ )).
المسألةُ الثامنةُ:
يُستَحَبُّ للعبدِ إذا أوَى إلى فراشِهِ بالليلِ لِينامَ أنْ يَنفضَهُ أو يَكنِسَهُ أو يَمسَحَهُ بشيءٍ، ويُسَمِّ اللهَ مع النَّفضِ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَلْيُسَمِّ اللهَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ ))، وسَبَبُ هذا النَّفضِ للفراشِ أنَّهُ قد يكونُ بداخِلِهِ ما يُؤذيهِ مِن عَقرَبٍ أو نملٍ أو عودٍ صغيرٍ أو غيرِ ذلك.
{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الحليمِ الغافِرِ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ محمدٍ الأوَّاهِ المُنيبِ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وعنَّا معَهم يا توَّابُ يا رَحيم.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمونَ:
فاتقوا اللهَ حقَّ تقواهُ، واستمِرُّوا على تقواهُ باتِّباعِ أوامِرِهِ واجتنابِ نواهِيهِ إلى حينِ موتِكُم، فقد أمرَكُم ربُّكُم بذلك، فقال سُبحانَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }، وصحَّ أنَّ ابنَ مسعودٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ عن معنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { حَقَّ تُقَاتِهِ }: (( وَحَقُّ تُقَاتِهِ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى, وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى, وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ )).
وحافِظوا على أذكارِ الصَّباحِ والمَساءِ والنَّومِ ودُخولِ الحمَّامِ والخُروجِ مِنهُ والسَّفرِ ونُزولِ المَكانِ، وأذكارِ وأدعيَةِ الكرْبِ والغَمِّ والحَزَنِ والهَمِّ والعَجْزِ والكسَلِ، وتسميةِ اللهِ عندَ دُخولِ البيتِ، وعندَ الأكلِ والشُّربِ، وعندَ كشْفِ العَورةِ، مِمَّا وردَ وصحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
لأنَّ الأذكارَ والأدعيةّ النَّبويةَ حِصنٌ حصينٌ للعبدِ مِن الشُّرورِ والسُّوءِ والأذيَّةِ والتسلُّط، وفي ليلِهِ ونهارِه، وسَفرِهِ وإقامِتِهِ، وزادٌ كبيرٌ وعُدَّةٌ عظيمةٌ لأهوالِ ونعيمِ الدَّارِ الآخِرةِ.
وإيَّاكُم ومعصيةَ اللهِ بالشِّركياتِ والبِدَعِ والمُحرَّماتِ والمُنكراتِ، فإنَّها النَّارُ المُحرِقَةُ للنِّعَمِ، والجالِبَةُ في الدُّنيا للعقوباتِ والبَلاءِ والفِتَنِ والشُّرورِ وتسلُّطِ الأعداءِ، والمُمرِضَةُ للقلوبِ والعقولِ، والمُوصِلَةَ إلى غضَبِ اللهِ الجبَّار، والعذابِ الشديدِ في النَّار.
اللهمَّ: اغفرْ لنَا ما قدَّمنَا وما أخَّرْنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا وما أسرَفنا، وما أنت أعلمُ بِه مِنَّا، أنتَ المُقدِّمُ وأنتَ المُؤخِّرُ، لا إلهَ إلا أنت، اللهمَّ طهِّر قلوبَنا مِن الغِلِ والحِقدِ والحسَدِ والنِّفاق، وألسنتَنا مِن الشِّركِ والكذبِ واللعنِ والغِيبةِ والنَّميمةِ، اللهمَّ اغفرْ لنَا ولِمَن أسأَنا إليهِ بقولٍ أو فعلٍ، وتجاوز عنَّا وعنهُ، واجعلنا وإيَّاهُ ممَّن يَعفو ويَصفحْ، اللهمَّ فرِّجْ كرْبَ إخوانِنا المُستضعفينَ بفلَسطينَ، وأهلِكِ اليهودَ المُعتدِينَ، ووفِّقْ ولاةَ أمورِ المُسلمينَ إلى مراضِيكَ، إنَّكَ سميعٌ الدُّعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.