إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > الفقه > خطبة مكتوبة بعنوان: « شيء من أحكام تعزية أهل الميت ». ملف [ word – pdf ] مع نسخة الموقع.

خطبة مكتوبة بعنوان: « شيء من أحكام تعزية أهل الميت ». ملف [ word – pdf ] مع نسخة الموقع.

  • 16 نوفمبر 2023
  • 4٬571
  • إدارة الموقع

شيء من أحكام تعزية أهل الميت

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ العظيمِ أسْمَاءً، الجميلِ أوصَافًا، الحكيمِ أفعالًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ مَولَانا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ أتقانَا للهِ وأعظمُنا جِهادًا وإخلاصًا، اللهمَّ صَلِّ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أفضلِ الأُمَّةِ بعدَهُ إيمانًا.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمونَ:

فإنَّ الموتَ كأسٌ لا بُدَّ مِن شُرْبِهِ، وواقِعٌ ما لَهُ مِن دافِعٍ، وإنْ طالَ بالعبدِ المَدَى، وعُمِّرَ سِنينَ، حيثُ قالَ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }.{ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ }.{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }، وهذه ِالآياتِ: تعزيةٌ لِجميعِ الناسِ، بأنَّهُ لنْ يَبقَى أحدٌ على وجْهِ الأرضِ حتى يموتَ، وقد وصحَّ في الحديثِ النَّبويِّ: (( أنَّ اللَّهَ قَالَ: مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ))، ألَا فاتقوا اللهَ بالاستعدادِ لِلموتِ بالتوبةِ النَّصوحِ الصادِقَةِ، والإكثارِ مِن الأعمالِ الصالحةِ، والمُسارعَةِ إليها، والقيامِ بالفرائضِ الواجبةِ، وترْكِ المُحرَّماتِ والفواحشِ والمُنكرَاتِ، ومُجانبَةِ أهلِ الشِّركياتِ والبِدَعِ والفسادِ والفُجورِ والتغريبِ والإلحادِ، والتكميلِ بالسُّننِ المُستحبَّات، فإنَّ حُصولَ ووقتَ الموتِ بيدِ اللهِ وإليهِ لا بأيدِيكُم ولا إلَيكُم، وعِلمَ حالِكُم ساعةَ وقُوعِهِ عندَ اللهِ لا عندَكُم، فقد تموتونَ على طاعةٍ، وقد تموتونَ على معصية، وقد تموتونَ قبلَ التوبَةِ، وقد تموتونَ بمَرضٍ أو قتلٍ أو بِلاهُما، وقد ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ)).

أيُّها المسلمونَ:

إنَّ تعزيةَ المُسلمِ لأخيهِ المُسلمِ بميِّتِهِ المُسلمِ مشروعةٌ بنصِ السُّنةِ النَّبويةِ، واتفاقِ العلماءِ، حيثُ جاءَ في حديثٍ نصَّ على ثُبوتِهِ جمْعٌ مِن العلماءِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقدَ رجلًا مِن أصحابِهِ، فقالَ: (( «مَالِي لَا أَرَى فُلَانًا»؟ قَالُوا:   بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ ــ أي: مات ــ فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ ))، وقال الفقيهُ المَنْبِجِيُّ ــ رحمه الله ــ: «يُستحَبُّ تعزيةُ أهلِ الميِّتِ، وهيَ مسألةٌ مُتَّفَقٌ عليها».

والغرَضُ مِن التعزِيَةِ: تسليَةُ أهلِ الميِّتِ، والتَّخفيفُ عنهُم ومُواساتُهُم، بحثِّهِم على الصَّبرِ، وتَرغِيبِهِم في أجْرِهِ، وتَحذِيرِهِم مِن الإثْمِ بالجَزَعِ والنِّياحةِ، والدُّعاءُ للميِّتِ بالمغفرَةِ، ولأهلِهِ بجَبْرِ مُصيبَتِهِم بفَقدِه.

وتجوزُ التعزِيةُ عندَ العلماءِ: مِن حينِ وقوعِ الموتِ، وقبلَ الصلاةِ على الميِّتِ ودَفْنِه، وبعدَ الصلاةِ والدَّفنِ، إلَّا أنَّ الأفضلَ عندَ أكثرِ العلماءِ أنْ تكونَ التعزِيَةُ بعدَ الصلاةِ على الميِّتِ ودفنِهِ.

ووقتُ التعزِيَةِ المُستَحَبِّ عندَ أكثرِ العلماءِ مِن أهلِ المذاهبِ الأربعةِ: أنْ لا يَتجاوزَ ثلاثةَ أيَّامٍ إلا في حقِّ غائبٍ أو حاجةٍ، دفعًا لِعدَمِ تجديدِ وإطالةِ الحُزْنِ على أهلِ الميِّتِ.

والجلوسُ للتعزِيَّةِ: بأنْ يجلِسَ أهلُ الميِّتِ في بيتِهِم لأجلِ أنْ يَقصِدَهُم الناسُ للتعزيَةِ مكروهٌ عندَ أكثرِ الفقهاءِ مِن أهلِ المذاهبِ الأربعةِ، وغيرِهِم، وبعضُهُم ذهبَ إلى تحريمِهِ، واحتجُّوا لِذلِكَ بأنَّهُ قد ماتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأصحابُهُ ــ رضيَ اللهُ عنهُم ــ ولم يُنقَلْ أنَّهُم جُلِسَوا مِن أجْلِ استقبالِ التعزيَةِ والمُعزِّينَ، ولو نُقِلَ لاشتَهرَ ذلكَ في الناسِ، وعرَفَهُ القاصِي والدَّانِي.

وأمَّا إذا كانَ معَ هذا الجلوسِ إطعامٌ وضيافةُ غيرُ مُعتادةُ: فمَكروهٌ عندَ أهلِ المذاهبِ الأربعةِ، وغيرِهِم، وبعضُهم نصَّ على التحريمِ، لِمَا جاءَ بسندٍ صحَّحَهُ كثيرٌ مِن العلماءِ، عن جَريرٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: ((كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ))، والنِّياحَةُ: مِن كبائر الذُّنوب، وإذا كانَ مع ذلكَ إقراءٌ للقرآنِ وفواتحٌ، فالمنعُ عندَهُم أشد، وهيَ سُنَّةُ الشِّيعةُ الرافضَةُ، لا السَّلفُ الصَّالح أهلُ السُّنة.

والسُّنةُ النَّبويةُ: أنْ يَصنعَ الجيرانُ أو غيرُهُم الطعامَ لأهلِ الميَّتِ لِيأكلوهُ هُم، وليسَ لأجلِ المُعزِّينَ، وقد خالفَ هذهِ السُّنةَ أكثرُ الناسُ وأصبَحوا يُشغِلونَ أهلَ الميِّتِ بإعدادِ الطعامِ وخسارةِ المالِ والوقتِ الكثيرِ فيهِ، حيثُ صحَّ أنَّهُ لمَّا بلَغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم موتُ جعفرٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ ))، وتكونُ سُنَّةُ هذا الطعامِ: في يومِ الموتِ وليلَتِهِ عندَ أكثرِ العلماءَ، ورَخصَّ بعضُ الفقهاءِ فيهِ ثلاثةُ أيَّام.

وقد جوَّزَ الجلوسَ للعزاءِ في البيتِ لأهلِ الميِّتِ خاصَّةً ــ إذا خَلا عن الإطعامِ والضِّيافة للمُعَزِّينَ، والبدَعِ كإقراءِ القرآنِ والفواتحِ ــ: الإمامُ أحمد، وبعضُ الفقهاءُ مِن الأحنافِ، وهذا القولُ فيه قوَّةٌ لأمرين:

الأوَّلُ: مَا صحَّ عن عائشةَ ــ رضيَ اللهُ عنها ــ: (( أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ المَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا، فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا ))، والثاني: الحاجة، لأنَّهُ بسببِ تَوسُّعِ المُدُنِ والقُرَى، زيادَةِ السُّكانِ والمساجدِ أصبحَ يَصعُبُ تعزيَةُ أهلِ الميتِ إذا لم يكونوا في بيتِهِم، إذ يَتعذَّرُ أنْ تجدَهُم في طريقٍ أو مسجدٍ، كما كانَ في السَّابقِ.

وتصِحُّ التعزِيَةُ عندَ العلماءِ: بأيِّ لفظٍ مُباحٍ تَحصُلُ مِنهُ المُواساةُ لأهلِ الميِّت وتَصبيرُهِم، كقولِ: «أحسنَ اللهُ عزَاءَك، وجبَرَ مُصيبَتكَ، وأعظمَ أجرَكَ، وغفرَ لِميِّتِكَ»، ونحوِ ذلكَ، ومِن أفضلِ الصِّيَغِ قولُ: (( إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ )).

وتكونُ التعزيَةُ عندَ أكثرِ الفقهاءِ: لِجميعِ أهلِ وقرابَةِ الميِّتِ صغارًا وكبارًا، وأصدقائِهِ، وجيرانِهِ، لأنَّ جميعَهُم مَحزونٌ لِفقدِهِ، ومِن العلماءِ: مِن أباحَ المُصافحَةِ مع التعزيَةِ، ومِنهُم: مِن استحبَّها، ومِنهم: مَن سهَّل في المُعانقة.

{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ، وسلامٌ على عبادِهِ الذينَ اصْطفَى، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمونَ:

فإنَّ تعزيةَ المُسلمِ الحَيِّ بمَيِّتِهِ الكافرِ: جائزَةٌ عندَ أكثرِ العلماءِ، كالحنفيةِ والشافعيةِ والحنابلةِ والمالكيةِ في قولٍ، وغيرِهم، لأنَّهُ مُسلمٌ قد عَزَّى مُسلِمًا وواساهُ بحُزْنٍ حصلَ لهُ، وهوَ المقصودُ مِن التعزيَةِ في الشريعَةِ، ولم يَرِدْ في نَصوصِ الشريعةِ ما يَمنعُ مِن هذهِ التعزيَةِ، والمُسلمُ يقعُ له الحُزْنُ والألَمُ بموتِ قريبِهِ الكافرِ أكثرَ مِن قريبِهِ المُسلمِ، لأمرين:

الأوَّل: مَا كان بينَهما مِن صِلَةٍ وإحسانٍ ومُواساةٍ وقتَ الحياةِ، والثاني: لِموتِهِ على الكُفرِ المُسبِّبِ للعذابُ في النَّارِ، معَ الخلودِ فيها.

وإذا كانَ الميِّتُ أحدُ الوالدينِ أو الأولادِ أو الإخوة فسيكون الحُزْنُ أشَدّ.

ويجوزُ للمُسلمِ تعزيةُ الكافرِ بمَيِّتِهِ الكافرِ عندَ أكثرِ العلماءِ، لاسيَّما إذا كان فيهِ مصلَحةٌ أو كانَ جارًا، لأنَّه لم تَرِدْ في الشريعةِ نُصوصٌ تَمنعُ مِن هذهِ التعزيَة، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم زارَ يهوديًّا في مرضِهِ، وقبِلَ ضيافةَ يهوديٍّ على طعامٍ مُباح، فتُقاسُ التعزيَةُ على ذلكَ، ولأنَّ اللهَ لم يَنهَنا عن البِرِّ والإحسانِ للكافرِ غيرِ الحَربي.

ويجوزُ للمُسلمِ أنْ يَقبلَ ويَتلقَّى التعزيةَ مِن الكافرِ إذا عزَّاهُ بمَيِّتِهِ المُسلمِ أو ميِّتِهِ الكافر، قياسًا على ما ورَدَ في النُّصوصِ الشرعيةِ الصَّحيحةِ مِن جوازِ قَبولِ سَلامِ الكافرِ وهديَّتِهِ، وإجابةِ ضيافتِهِ المُباحةِ، وقد نصَّ على ذلكَ فقهاءُ الشافعيةِ، وغيرُهم.

أيُّها المسلمونَ:

إذا عزَّى المُسلمُ كافرًا بمَيِّتِهِ الكافرِ، فإنَّه يَنتبِهُ إلى أمرين:

الأوَّل: أنْ لا يكونَ هذا الكافرُ المُعزَّى مِن قِبَل المُسلم حربيًّا، أي: بينَنا وبينَ بلدِهِ حرْبٌ قائِمةٌ، وقد نصَّ على ذلكَ جمعٌ مِن الفقهاءِ، لأنَّ المطلوبَ شرعًا إيلامُهُ، لا التخفيفَ عنهُ بالتعزيَةِ، والثاني: أنْ لا يَدعوَ المُسلمُ للميِّتِ الكافرِ المُعزَّى فيهِ بالرَّحمةِ والمغفرةِ، وإنَّما يُعزِّي بألفاظٍ فيها حَثٌ للمُعزَّى على الصَّبرِ والاعتبارِ بالموتِ وتذكُّرِ الآخِرةِ، كقولِ: «ألهَمَكَ اللهُ الصَّبرَ، وعوَّضَكَ خيرًا مِنهُ»، وقالَ العلامةُ ابنُ بازٍ ــ رحمهُ الله ــ: «التعزيةُ في الكافرِ ذكرَ أهلُ العلمِ أنَّهَ لا بأسَ أنْ يقولَ: “أحسنَ اللهُ عزاءَكُم، أو جبَرَ اللهُ مُصيبَتكُم»، لأنَّ الدُّعاءَ للميِّتِ الكافرِ بالمغفرةِ والرَّحمةِ، مُحرَّمٌ بنصِّ القرآنِ، ونصِّ السُّنةِ النَّبويةِ الصَّحيحةِ، واتفاقِ العلماءِ.

هذا وأسألُ اللهَ لِي ولكُم: رِضَا الرحمنِ ودخولَ الجِنَانِ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ عِيشةً سَويَّة، ومِيتَتةً نقيَّة، ومَرَدًّا غيرَ مُخْزٍ، واكفِنا بالحلالِ عن الحرامِ، وأجِرْنَا مِن خِزْيِ الدُّنيا وعذابِ الآخِرةِ، وفرِّجْ كرْبَ إخوانِنا المُستضعَفينَ بفلَسطينَ، وأهلِكِ اليهودَ المُعتدِينَ، ووفِّقْ الحُكَّامَ لِمَا يُصلِحُ الإسلامَ والمُسلمينَ وبلادَهُم، إنَّكَ سميعٌ الدُّعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.