الأُسْرة بين بِناءِ الأخيارِ العُقلاءِ وهدْمِ الأشرارِ السُّفهاء
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ المُنفردِ بكلِّ الحمدِ والثناءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ الذي إليهِ المَرجِعُ والحِسابُ والجَزاءُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ سيِّدُ ولدِ آدَمَ وحتَّى الأنبياءَ، اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وجميعِ الأتقياء.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فإنَّ دُنْيا الأُمَمِ والشُّعوبِ والبُلدانِ والمُجتمعاتِ المُسلِمَةِ لا تقومُ أحسنَ قيامِ، وتستَمِرُ قويَّةً شامِخَةً، وتَبْقَى في رَخاءٍ وهَيبَةٍ وازدِهارٍ إلا بِبِناءٍ وغرْسٍ صالحٍ عاقلٍ نافعٍ مِن أبنائِها وبناتِها جِيلًا بعدَ جِيلٍ، وإنَّ جنَّةَ الآخِرةِ لا يَنالُها إلا مُؤمِنٌ باللهِ ورُسُلِهِ مُوحِّدٌ للهِ في عبادَتِهِ مِن ذَكَرٍ أو أُنثَى.
فاللهَ اللهَ في إصلاحِ آخِرةِ ودُنيا ودِينِ وأخلاقِ وأقوالِ وأفعالِ وعاداتِ وطِباعِ وتوجُّهاتِ أبنائِكُم وبناتِكُم، مع البَدءِ بأنفُسِكُم في ذلكَ كُلِّهِ، لِتكُونوا قُدوَةً صالِحةً لهُم، فقد قالَ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ آمِرًا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ))، والرِّاعِي هوَ: الحافِظُ المُؤتَمَنُ بإصلاحِ ما قامَ عليهِ، وما هوَ تحتَ يدِهِ ونظرِه.
وثبتَ أنَّهُ قيلَ للحسَنِ البَصريِّ: (( يَا أَبَا سَعِيدٍ: قَوْلُ اللَّهِ: { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } مَا هَذِهِ الْقُرَّةُ الأَعْيُنِ؟ أَفِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الآخِرَةِ؟ فقَالَ: لا وَاللَّهِ بَلْ فِي الدُّنْيَا, قِيلَ: فَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَنْ يُرِيَ اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ زَوْجَتِهِ, مِنْ أَخِيهِ, مِنْ وَلَدِهِ, مِنْ حَمِيمِهِ: طَاعَةَ اللَّهِ, لا وَاللَّهِ مَا شَيْءٌ أَقَرُّ لَعِينِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَرَى وَالِدًا أَوْ وَلَدًا أَوْ أَخًا أَوْ حَمِيمًا مُطِيعًا لِلَّهِ ))، وقالَ اللهُ تعالى في شأنِ اليَتِيمَينِ في سُورةِ “الكهفِ”: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ }، وثبتَ أنَّ ابنَ عباسٍ ــ رضي الله عنهما ــ قالَ عندَ هذهِ الآيةِ: (( حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُمَا صَلَاحًا ))، وثبتَ عن ابنِ المُنكَدِرِ أنَّهُ قالَ: (( إِنَّ اللهَ لِيُصْلِحُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ ))، وثبتَ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أنَّهُ قالَ: (( إِنِّي لَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي مِنْ أَجْلِ ابْنِي هَذَا )) رجاءَ أنْ يُحفَظَ فيه.اهـ
أيُّها المسلمون:
اغرِسُوا في قلوبِ وعُقولِ أبنائِكُم وبناتِكُم: أنَّ الدُّنيا ليستْ كُلَّ شيءٍ، ولا هِيَ هَمُّ المُؤمِنِ، بل الآخِرَةُ هيَ الأصلُ والمَرجِعُ، وفيها الخُلودُ الأبدِيُّ نعيمًا أو عذابًا، والعملُ لأجلِها يَفتحِ خيرَ الدُّنيا ونَعيمَ الآخِرَةِ، وأنَّ الدُّنيا مَمَرُّ وزادٌ للآخِرةِ، وليست بمَقرٍّ، ولا للتَّمتُّعِ فقط، وقد قالَ اللهُ سُبحانَهُ مُذَكِّرًا: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }، وثبتَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ )).
وأعلِموهُم: أنَّ أرزاقَهُم على اللهِ وحدَهُ وبيدِهِ، فليَطلبُوها مِنهُ، وليَقنَعُوا ويَرضَوا بما كَتبَ لهُم، وجاءَهُم مِنها، ففِي ذلكَ سعادَةُ القلبِ، وراحةُ النَّفسِ، وهُدوءُ البالِ والذِّهنِ والتفكيرِ، وذهابُ الخوفِ والوساوِس، حيثُ قالَ اللهُ تعالى آمِرًا: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ))، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ دعا لِمَن كانَ مِن آلِ بيتِهِ، فقالَ:(( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا ))، والقُوتُ هوَ: الكَفافُ، والكَفَافُ مِن الرَّزقِ هوَ: ما يَسُدُ الحاجةَ، فلا يُعرِّضُ صاحِبَهُ للمسألةِ، ولا يُخرِجُهُ إلى التَّرَفِ في الدُّنيا، والانكِبابِ عليها.
أيُّها المسلمون:
إنَّنا نعيشُ في زمانٍ قد كثُرَ فيهِ الفسادُ والإفسادُ في الأرضِ، ومِن جهاتٍ كثيرةٍ ومُختلِفةٍ، وباستمرارٍ، ومِن أشدِّها ما يتعلَّق بالأعرَاضِ، والزِّنا والسِّحاقِ وعملِ قومِ لوطٍ، حتى وصَلوا إلى زواجِ الرَّجلِ بالرَّجلِ، والمرأةِ بالمرأةِ، والآنَ يسعونَ إلى فتحِ البابِ إلى زِنَا المَحارِمِ، ويَغزونَ شُعوبَ العالَمِ بِها، وبقوَّةِ المالِ والإعلامِ والسُّلطَةِ والمُنظَّماتِ الحُقوقِيَّة.
ألَا فاكسِّروا شرَهُم هذا، وأضْعِفوهُ وادفعوهُ، وقاوِموهُم وجاهِدُوهُم بهذهِ الأمورِ الخمسَةِ في بابِ الزَّواجِ والتَّزويجِ:
الأمرُ الأوَّلُ: بتزويجِ أبنائِكُم وبناتِكُم مُبكِّرًا إنْ استطعتُم، ولو قبلَ إكمالِ الدِّراسةِ، وقبلَ العملِ، وحتى لو دفعتُم مالًا مِن عِندِكُم لِتحقيقِ ذلك.
الأمرُ الثاني: بتسهيلِ وتخفيفِ أمورِ الزَّواجِ مِن خطوبةٍ ومهْرٍ وسكَنٍ ومعيشَةٍ وولِيمَةِ عُرْسٍ وهدايا وشُروطٍ وحفلاتٍ مِن قِبَلِ الزَّوجِ وأهلِهِ، والزَّوجةِ وأهلِها، والوجهاءِ والعُقلاءِ مِن الطرَفَين.
الأمرُ الثالثُ: بعدمِ الخُضوعِ لِعاداتِ الأُسْرةِ والعائلةِ والقَبيلةِ والمُجتمعِ والبيئَةِ المُكْلِفَةِ التي تتسبَّبُ في تأخيرِ الزَّواجِ وتصعيبِهِ وتقليلِه.
الأمرُ الرابعُ: بتَرْكِ جعلِ الزَّواجِ محلًا للمُباهاةِ والمُفاخَرةِ والاستعراضِ والبَذَخِ والمُنافَسَةِ والتَّحدِّي في صُنعٍ الأفضلِ والأشهرِ والأغرَبِ والجديدِ، لأنَّه يحتاجُ إلى مالٍ كثيرٍ، ولا فائدةَ مِنهُ للدِّينِ والدُّنيا، ولا للزَّوجين.
الأمرُ الخامسُ: بأنْ لا يُجعَلَ أمرُ الزَّواجِ أو أكثَرُهُ بيدِ النِّساءِ، لأنَّ الرَّجلَ هوَ المَسئولُ الأوَّلُ أمامَ اللهِ عن أهلِهِ، وأكثرُ اللومِ والتَّبِعاتِ ستكونُ عليهِ شرعًا وعُرْفًا وعقلًا، ولَهُ القَوامَةُ على نساءِ بيتِه.
ونَهتَمُ شديدًا بتزويجِ أبنائِنا وبناتِنا: لأنَّ العالَمَ قد أصبحَ اليومَ يَموجُ بفسادٍ أخلاقِيٍّ عريضٍ، وتفسُّخٍ في الأعراضِ شديدٍ، ودعوةٍ كبيرةٍ للتَّهتُّكِ والتَّعريِّ والخَلاعةِ والمُجونٍ والتَّفلُّت والانحطاطِ باسمِ الحُرِّياتِ، بل صارَ العالَمُ كقريةٍ واحدةٍ عبْرَ أجهزةٍ الإعلامِ وبرامجِ التواصلِ، بحيثُ أنَّهُ إذا حصلَ فسادٌ في زاويةٍ مِن الأرضِ، انتَشرَ في جميعِها خلالَ دقائقٍ معدودةٍ.
وبهذهِ الأمورِ الخمسةِ وغيرِها: نُكافِحُ أهلَ الإفسادِ، ونُقلِّلُ مِن شرِّهِم علينا، ونُضعِفُ إفسادَهُم لِمُجتماعتِنا، ونَحمِي بيوتَنا مِن أنْ يدخُلَها الفسادُ، ويُؤثِّرَ فيها أهلُ الإفسادِ، ونُساهِمُ في حفظِ مُجتمعاتِنا وبُلدانِنا التي نحنُ وأبناؤُنا وبناتُنا جُزءٌ مِنها مِن كيدِهِم وإضرارِهِم وفِتَنِهِم.
هذا، والحمدُ للهِ أوَّلًا وآخِرًا، وهوَ ربُّنا المَحمودُ على كلِّ حالِ.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ العظيمِ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على رسولِهِ المبعوثِ بالخيرِ العَميمِ.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فإنَّ مِن المُهِمِّ جدًّا، والجَديرِ اهتمامًا، أنْ يَنتبِهَ الأبناءُ والبناتُ، ويُنبَّهوا مِن قِبَلِ الوالدَينِ، وغيرِهِما مِن العُقلاءِ إلى أنَّ الزَّواجَ بابُ خيرٍ عظيمٍ لُهُم ولأهلِيهِم ولِمُجتَمَعِهِم، ولِعُمومِ الناسِ، وفي الدُّنيا والآخِرَة، وليسَ بتسلِيَةٍ، وحياةٍ غيرِ جادَةٍ، وبِلا مسؤوليَّةٍ، ودُونَ هدَفٍ، ومِن غيرِ فوائدَ كبيرةٍ وجليلَة، ومعانٍ عظيمةٍ، ومكاسبٍ كثيرة رفيعَة.
بل في الزَّواجِ: حفظُ المُجتمع مِن الفواحشِ، وتَحلُّلِ الأخلاقِ، وحِمايةُ الأعراضِ مِن الفسادِ، وصِيانةُ الزَّوجينِ عن الحَرامِ، وبقاءُ النوعِ الإنسانيِّ على وجْهٍ سليمٍ لَهُ مَن يعولُهُ ويَرعاهُ ويَخافُ عليهِ، وسَكنُ نفوسِ الزَّوجينِ، وأُنْسُهُم ببعضٍ، وطُمأنِينَةُ قلوبِهِم، وراحةُ بالِهم، وإضعافُ دُخولِ الفسادِ والمُفسِدِينَ عليهِم، وتقليلُ الهُمومِ والأفكارِ السَّيِّئَةِ عنهُم، وقد قالَ اللهُ سُبحانَهُ مُتفضِّلًا: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ: مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ )).
هذا وأسألُ اللهَ: أنْ يُباعدَ بينَنا وبين ما حرَّمَ علينا، وأنْ يُعينَنا على ذِكرِه وشُكرِه وحُسنِ عبادته، اللهمَّ لا تُهلكنا بذُنوبِنا وآثامِنا، ولا تُلهِنا بدُنيانا عن دِينِنا وآخِرتِنا، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ عِيشةً هنيَّة، ومِيتتةً سوِّية، ومرَدًّا غيرَ مُخْزٍ، اللهمَّ وفِّق ولاتَنا لِحفظِ الإسلامِ ونُصرَتِهِ وتعزِيزِ أحكامِهِ، اللهمَّ فرِّج كرْبَ المُستضعَفينَ في فَلَسطينَ، وقاتلِ اليهودَ المُجرمينَ، إنَّكَ سميعُ مُجِيب، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهِ لِي ولَكم.