فضائل وأحكام وفوائد وتفسير سورة الفلق
الخطبة الأولى:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الواحدِ القهارِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ الرحمنُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ بالقرآنِ، اللهمَّ فصَلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِه.
أمَّا بعدُ، يَا أهلَ الإيمانِ والقرآنِ:
فإنَّ مِن أعظمِ ساعاتِ المُسلمِ هيَ التي يَقضِيها مع القرآن، فيَتلوَ، ويتدبَّرَ، ويتعلَّمَ الأحكامَ، ويأخذَ العِظةَ والعِبرَة، ولِهذا سأتدارَسُ معَكُم في هذهِ الخُطبةِ سورةً مِن أعظمِ سُورِ القرآن، ألَا وهيَ سورةُ: “الفلَقِ”، حيثُ قالَ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ: بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }، وسوفَ يكونَ الكلامُ عن هذهِ السورِة المُباركةِ في ثلاثِ وقفاتٍ:
الوقفةُ الأولى / عن فضلِها وأحكامِها.
سورةُ “الفلقِ” على قِلَّةِ آياتِها، وقِصَرِ كلماتِها، إلا أنَّها تُعدُّ مِن أفاضلِ سُوَرِ القرآنِ ، لِكثرةِ ما ورَدَ في فضلِها مِن أحاديثَ نبويَّة.
فمِن فضائِلِها: ما ثبتَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنَّكَ لَمْ تَقْرَأْ سُورَةً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ وَلَا أَبْلَغَ عِنْدَهُ مِنْ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } )).
ومِن فضائِلِها: ما صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } )).
ومِن فضائِلِها وأحكامِها: أنَّها تُقرأُ بعدَ السلامِ مِن كلِّ صلاةِ فريضَةٍ مرَّةً واحدةً فقط، لِلحديثِ الثابتِ: (( أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ))، والمُعوِّذاتُ: سورةُ الفلقِ والناسِ، وقيلَ: والإخلاص.
ومِن فضائِلِها وأحكامِها: أنَّها مِن أذكارِ الصَّباحِ والمساءِ، لِمَا ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (({ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِى وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ )).
ومِن فضائِلِها وأحكامِها: أنَّها مِن أذكارِ النومِ بالليلِ، لِمَا صحَّ : (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )).
ومِن فضائِلِها وأحكامِها: أنَّها رُقيةٌ للمريضِ، لِما صحَّ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم: (( كَانَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ )).
الوقفةُ الثانيةُ / عن موضوعِها.
وموضوعُ هذهِ السورةِ هوَ: الاستعاذةُ باللهِ مِن الشُّرورِ التي تَضُرُّ العبدَ في دِينِهِ ودُنياه.
الوقفةُ الثالثةُ / عن تفسيرِها وشرحِها.
اشتَملَتْ هذهِ السورةُ على ثلاثةِ أصولٍ، تُعرَفُ بأصولِ الاستعاذةِ:
الأصلُ الأوَّلُ: المُستعِيذُ، وقد جاءَ في قولِ اللهِ تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }، وقُل أمرٌ مِن اللهِ لِرسولِهِ صلى الله عليه وسلم، ولِجميعِ مَن آمَنَ بِهِ أنْ يَستعِيذَوا بِهِ سُبحانَهُ مِن الشُّرورِ المذكورةِ في السُّورةِ، وقد ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ عن سُورةِ الفلقِ: (( مَا تَعَوَّذَ الْمُتَعَوِّذُونَ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْهَا )).
الأصلُ الثاني: المُستَعاذُ بِهِ، وهوَ اللهُ المُتصرِّفُ في العالمِ السُّفليِّ والعُلويِّ بما يُريدُ، الذي يُعيذُ المُستعيذِينَ مِن شَرِّ ما استعاذُوا مِن شَرِّهِ، والمُستعيذُ بِه، مُستعيذٌ بالخالقِ مِن المخلوقِ، وبالقويِّ القديرِ مِن الضعيفِ، وأمَّا الاستعاذةُ بغيرِهِ كالجِنِّ والغائبينَ والموتَى، فعقيدةٌ جاهليةٌ كفريَّةٌ أبطلَها الإسلامُ بالأمرِ بالاستعاذةِ باللهِ وحدَهُ، وقد: أجمعَ العلماءُ على أنَّه لا يجوزُ الاستعاذةُ بغيرِ اللهِ، لأنَّ الاستعاذةَ عبادةٌ، والعبادةُ حقٌّ خالصٌ للهِ وحدَهُ، وأمَّا الفَلَقُ فهوَ: الصُّبحُ إذا طلعَ فأذهبَ اللهُ بنُورِهِ وضيائِهِ ظُلمَةَ الليلِ وسَوادَه.
الأصلُ الثالثُ: المُستعَاذُ مِنهُ، وهوَ: الشَّرُّ، والشَّرُّ الذي يُصيبُ العبدَ: إمَّا شَرٌّ واقعٌ بسبٍ مِن نفسِهِ، وما يقعُ مِنهُ مِن شِركٍ أو بدعٍ أو معاصِي، إذْ يُعاقبُ اللهُ عليها بأنواعٍ مِن العقوباتِ المُختلِفةِ، حيثُ قالُ اللهُ تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }، وإمَّا شَرُّ واقعٌ بالعبدِ مِن غيرِهِ، كالشرِّ الذي يَقعُ عليهِ مِن الإنسِ والجِنِّ والدَّوابِّ والهَوامِ والبُغاةِ والظَّلمةِ والخوارجِ والمُجرِمينَ والسَّحرةِ والأعداءِ، وغيرهم، والقِسمانِ جميعًا دخِلان في هذهِ السُّورة، فاللهمَّ: إنَّا نَعوذُ باللهِ مِن جميعِ الشُّرورِ، فأنتَ أرْحَمُ الرَّاحِمينَ، وواسعُ المَغفِرَةِ الرَّحمة.
الخطبة الثانية:ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ مُنزِلِ الكتابِ، والصلاةُ على النبيِّ محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ الأنجابِ.
أمَّا بعدُ، يَا أهلَ الإيمانِ والقرآنِ:
فاتقوا اللهَ ربَّكُمُ القائلَ آمِرًا: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }، واعلَموا أنَّ المُستعاذَ مِنهُ في هذهِ السُّورةِ أربعةُ شُرورٍ:
الشَّرُّ الأوَّل: شَرُّ المخلوقاتِ التي لها شَرٌّ عُمومًا، وقد جاءَ في قولِ اللهِ سبحانَهُ: { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ }، وهوَ يَعُمُّ الاستعاذةَ باللهِ مِن شُرورِ الدُّنيا والآخِرَةِ، وشرِّ أيِّ مخلوقٍ قامَ بِه الشرُّ، مِن الرِّجالِ والنِّساء، والجِنِّ والشياطين والحيواناتِ والأمطارِ والصَّواعِقَ والرياحِ والعواصِفِ والغُبارِ والأسلحةِ والذَّخائِر، والنَّارِ وعذابِها، وغيرِ ذلك.
الشَّرُّ الثاني: شَرُّ الغَاسِقِ إذا وقَبَ، وقد جاءَ في قولِ اللهِ سبحانَهُ: { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }، والغاسِقُ هوَ: الليلُ إذا أقبَلَ بظلامِهِ فدخلَ في كلِّ شيءٍ وجِهةٍ، وأذهبَ اللهُ بظُلمَتِهِ ضوءَ النَّهارِ وأزالَهُ، والليلَ إذا دخلَ انبعَثتِ الشياطينُ في الأرضِ وانتشرَت، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ ))، وفي لفظٍ: (( فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً ))، والمعنى: لا تُرسِلوا مواشِيَكُم للرعيِّ، ولا أولادَكُم للعبِ إذا غابتِ الشمسُ، وكذلكَ: أكثرُ جرائمِ القتلِ والسَّرقةِ والاختطافِ والاغتيالِ وهتْكِ الأعراضِ إنَّما تقوى بالليلِ، لأنَّ ظلامَهُ يَستُرُها، ويُعينُ عليها، ويَعوقُ عن النظرِ والاستنجادِ، وكذلك: أهلُ المُجونِ والخلاعةِ والخُمورِ والفُجورِ ومراقِصُهُم وقنواتُهُم وتجمُّعاتُهم يَشتدُّ سُلطانُها وسُلطانُهم بالليل، لأنَّهُ وقتُ راحةِ الناسِ وتفرُّغِهِم، والليلُ ليسَ شَرًّا في نفسِهِ، ولا الشَّرُّ مِن عملِهِ، وإنَّما هوَ وقت تكثرُ فيه الشُّرورِ، فمُناسِبٌ جدًّا أنْ يُستعاذَ باللهِ مِنه.
الشَّرُّ الثالث: شَرُّ النفَّاثاتِ في العُقَد، وقد جاءَ في قولِهِ سبحانَهُ: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ }، وهوَ: شَرُّ السِّحرِ والسَّحرَة، والنفَّاثاتُ في العُقَدِ هُنَّ: السَّوَاحِرُ مِن النساءِ اللاتِي يَعقِدنَ الخيوطَ ويَنفُثنَ بِرِيقِهنَّ على العُقَدِ مع تَمتَمَةٍ بِرُقًى شيطانيةٍ وأسماءٍ وأرواحٍ جِنِّيَّةٍ خبيثةٍ لِيَنعقدَ ما صَنعنَ مِن سِحْر.
الشَّرُّ الرابع: شَرُّ الحاسدِ إذا حَسَد، وقد جاءَ في قولِهِ سبحانَهُ: { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }، والحسدُ داءٌ مِن أمراضِ القلوبِ، ويُصابُ بِه الغنيُّ والفقيرُ والعالِمُ والجاهلُ والوجِيهُ والمُطيعُ والرئيسُ والمَرؤوسُ، ولِخطرِهِ يَجُرُّ صاحبَهُ إلى كبائرِ المُحرَّماتِ، فبسَببِهِ: قَتلَ قابيلُ شقيقَهُ هابيلَ، وعقَّ إخوةُ يوسفَ أباهُم، وأضاعوا أخاهُم الصغيرَ، ويَدخلُ في الاستعاذةِ باللهِ مِن الحسدِ: العَينُ، ومِن أسبابِها: رؤيةُ الشيءِ عن حسَدٍ، وقد صحَّ أنَّ جَبريلَ قالَ: (( يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ )).
هذا وأسألُ اللهَ: أنْ يُعينَنِي وإيَّاكم على حفظِ القرآنِ، وتلاوتِه، وتدبُّرِه، وتعلُّمِ أحكامِه، والعملِ به، وأنْ يكفيَنا الشُّرورَ في الدُّنيا والبَرزخِ ويومَ القيامة، اللهمَّ طهِّرَ قلوبَنا مِن الغِلِّ والحِقدِ والحسَدِ، واهدِنَا لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ لا يَهدي لأحسنِها إلا أنت، واصْرِف عنّاَ سَيِّئَهَا لا يَصرفُ عنَّا سَيِّئَهَا إلا أنت، إنَّكَ سميعٌ مُجيب، وأقولُ هذا وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.