تزكية النفس والإحسان فيما بقي من العمر
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ على إنعامِهِ بالإسلامِ، وتَفضُّلِهِ بشريعةٍ تُصلِحُ جميعَ الأنامِ، والخِتامِ لِلمؤمنِ بالتنعيمِ في الجِنانِ والإكرامِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ ذُو الصِّفاتِ العِظامِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صاحبُ المقاماتِ والخِصالِ الفِخَامِ، اللهمَّ فصَلِّ عليهِ وعلى آلِ بيتِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ مع جَزيلِ السلام.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناسُ:
فقد قالَ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ مُرهِّبًا لكُم ومُحذِّرًا: { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
ألَا فاتقوا اللهَ سُبحانَهُ بالاهتمامِ الكبيرِ، والعِنايَةِ الشديدةِ بأنفُسِكُم، والمُجاهدةِ المُستمرَّةِ، والمُسارعةِ الأكيدةِ إلى تزكِيَةِ النَّفسِ بالقيامِ بما فرَضَ اللهُ، واستُحِّبَ في شريعتِهِ، وترِكِ عِصيانِهِ وما نَهَى عنهُ، والتَّحَلِّي بمكارِمِ الأخلاقِ، وجميلِ الآدابِ، واجتنابِ الفواحشِ ورذائلِ الأقوالِ والأفعالِ، وهجرِ سَيءِّ الطِّباعِ، ومُنكرِ الأخلاقِ، وذّميمِ العاداتِ، وإصلاحِ الظاهرِ بأحكامِ الإسلامِ، والاستقامةِ عليها، وإعمارِ الباطنِ بخشيةِ اللهِ، وخوفِ عقابِهِ، ورجائِهِ، والإخلاصِ لَهُ، ومحبَّةِ الخيرِ للمؤمنينَ كأنفُسِكُم، وتجنيبِهِ الغِلَّ والحِقدَ والحسدَ والرِّياءَ والعُجْبَ وحُبَّ الشُّهرَةِ، وبلُزومِ الرِّفقِ واللينِ والسُّهولَةِ والسماحَةِ والصِّدقِ والأناةِ والحِلمِ عندَ المُعامَلَةِ، وتجَنُّبِ الغِلظَةِ والقسوةِ والشراسَةِ والظُّلمِ والأذيَّةِ والمَكرِ والكيدِ والخَديعَةِ، وكسْرِ طمعِ القلبِ، وحرصِهِ على ملاذِّ الدُّنيا وطمعِها، وملئِهِ بالقناعَةِ والرِّضَى، وتقويتِهِ بالصَّبرِ والمُصابَرةِ واحتسابِ الأجرِ عندَ اللهِ، وتعليقِهِ بالآخِرةِ وما فيها مِن نعيمٍ يُنسِي جميعَ آلامِ الدُّنيا وكُروبها ومُنغِّصَاتِها.
فقد قالَ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ مُبشِّرًا ومُرهِّبًا لكُم في شأنِ نُفُوسِكُم: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }، وقالَ اللهُ سُبحانَهُ مُبيِّنًا عاقبَةَ تزكِيَةِ النفسِ، وحالَ الناسِ معها: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ: (( اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا ))، وقالَ اللهُ ــ عزَّ شأنُهُ ــ مُرهِّبًا ثمَّ مُرغِّبًا: { فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }.
أيُّها الناسُ:
مَن زَكَّى نفسَهُ بما تقدَّمَ فهوَ المُستفيدُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، ويعودُ نفعُ ذلكَ ومصلحتُهُ إليهِ، وقد قالَ اللهُ ــ عَزَّ مِن قائِلٍ ــ في تقريرِ هذا الأمرِ: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }.
وأمَّا اللهُ ــ تبارَكَ وتقدَّسَ ــ، فغَنيٌّ عن ذلكَ كُلِّهِ، وعن جميعِ الخلقِ، حيثُ صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما رَوَى عن اللهِ تبارَكَ وتعالَى أنَّهُ قَالَ: (( يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ))، وتأكيدُ ذلكَ مِن القرآنِ قولُ اللهِ سُبحانَهُ: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }، وقولُ اللهِ تعالى: { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }.
أيُّها الناسُ:
إنَّ النفسَ أمَّارَةٌ بالسُّوءِ، وتميلُ إلى الدُّنيا كثيرًا، وتُنافِسُ عليها شديدًا، بل قد تُوالِي وتُعادِي وتُحِبُّ وتُبغِضُ وتقطعُ وتهجُرُ وتَصِلُ وتمدَحُ وتذُمُّ وتكيدُ وتمكُرُ وتُخادِعُ وتَحسدُ عليها، وعلى شهواتِها وملذَّاتِها ومناصِبِها وأموالها، وما فيها مِن مطامع، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَكُم باتقائِها، فقالَ: (( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا ))، والتنافُسُ على الدُّنيا، هو الذي كان يَخشاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم علينا، حيثُ صحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ مُقسِمًا باللهِ ربِّهِ: (( فَوَاللَّهِ: لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ )).
فاكسِروا تكالُبَ نُفوسِكُم على الدُّنيا، وجاهِدوا هواها ومطامِعَها في شهواتِ الدُّنيا وملذَّاتِها وحُطامِها الزائلِ، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ))، ومَحلُّ سكَنِكُم الدائمِ هوَ الآخِرةُ، وليستْ الدُّنيا، فاعمُرُوا الآخِرةَ، ولا تكونوا فيها ومعها كالكافرينَ، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ )).
اللهمَّ: اهْدِنِا لِأحسنِ الأخْلاقِ لا يَهدِي لِأحسنِها إلا أنتَ، واصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إلا أنت، إنَّكَ أنتَ البَرُّ الرَّحيم.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الكبيرِ المُتَعَالِ، ذُو الرَّحمةِ والغُفرانِ، والصلاةُ والسلامُ على جميعِ الأنبياءِ الكرامِ، ورَضِيَ اللهُ عن الصحابةِ والآلِ وجميعِ أهلِ الإيمان.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناسُ:
فبَادِرُوا أعمارَكُم بأعمالِكُم الصالحةِ قبلَ انقضائِها بموتِكُم، وحقِّقوا أقوالَكُم بأفعالِكُم، إذْ كَبُرَ مقتًا عندَ اللهِ أنْ تقولوا ما لا تفعلونَ، واغتنِموا ما بَقيَ مِن حياتِكُم في الدُّنيا بالإكثار مِن الطاعاتِ الواجبةَ والمسنونَةِ، فإنَّ حقيقةَ العُمُرِ ما أمضُاهُ العبدُ فيما خلَقَهُ اللهُ لأجلِهِ، وهوَ عبادَتُهُ سُبحانَهُ، والتقرُّبُ إليهِ بأنواعِ الطاعاتِ، فبِالإكثارِ مِن عبادةِ اللهِ، وإقامتِها وِفْقَ ما جاءَ في السُّنةِ النَّبويَّةِ الصَّحيحةِ مع الإخلاصِ للهِ، يَحيَى العبدُ حياةً طيبةً في الدُّنيا والقبرِ ويومِ القيامةِ، كما قالَ اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }، وما سِوَى ذلكَ مِن العُمُرِ والأوقاتِ فذاهِبٌ خسَارًا، ومسئوولٌ ومُسائَلٌ عنهُ، ومُحاسَبٌ عليهِ.
أيُّها الناسُ:
لقد ثبتَ أنّ السَّلفَ الصالحَ كانوا في أوَّلِ الإسلامِ يَتواعظونَ بهذهِ الأربعِ، يَعِضُ بعضُهم بعضًا بِها: (( اعْمَلْ فِي شَبَابِكَ لِكِبَرِكَ، وَاعْمَلْ فِي فَرَاغِكَ لشُغْلِكَ، وَاعْمَلْ فِي صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَاعْمَلْ فِي حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ )).
فرَحِمَ اللهُ عبدًا اغتنمَ أيَّامَ الشبابِ والقوَّة، وأوقاتَ الصِّحةِ والفراغِ، فأسرَعَ بالتوبةِ والإنابةِ إلى اللهِ مولاهُ قبْلَ طيِّ الكتابِ، وأكثرَ مِن صالحِ الأعمالِ، وطيِّبِ الأفعال، وجميلِ الأقوالِ، قبلَ حُلولِ الأجلِ، قبلَ أنْ يَتمنَّى ساعةً مِن ساعاتِ العُمُرِ لِيَستدرِكَ ما قصَّرَ فيهِ أو فرَّطَ.
قبلَ أنْ تقولَ نفسٌ: { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله }، قبلَ أنْ تقولَ حين تَرَى العذابَ: { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }، قبلَ أنْ تقولَ وهيَ تُعذَّبُ في النَّارِ: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } { رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ }، ولكنْ لا فائدةَ مِن هذا التَّوجُّعِ والنِّداءِ فقد فاتَ زمَنُ الإمكانِ والإمهالِ، وأُغلِقَ بابُ المُراجعةِ للنفسِ والمُحاسبَةِ، ولم يَبقَ مع العبدِ إلا ما قدَّمتْ يداهُ، وما اكتسبَهُ في حياتِهِ مِن طاعةٍ أو عِصيانٍ، وجنَاهُ مِن إساءةٍ أو إحسانٍ، وحازَهُ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }.
اللهمَّ: لا تُهلكنا بذُنوبِنا وآثامِنا، ولا تجعلْ دُنيانا تُلهِنا عن دِينِنا وآخِرتِنا، اللهمَّ صَرَّف قلوبَنا وأسماعَنا وأبصارَنا وجوارحَنا إلى مراضيكَ، اللهمَّ قوِّنا بالاعتصامِ بالتوحيدِ والسُّنةِ، وباعدْ بينَنا وبينَ الشِّركِ والبدعِ والمعاصي والفسادِ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ عِيشةً هنيَّةً، ومِيتتةً سوِّيةً، ومرَدًّا غير مُخْزٍ، اللهمَّ لَيِّن قلوبَنا قبلَ أنْ يُليِّنَها الموتُ، واجعلْها خاشعةً لِذكْرِكَ، وما نزَلَ مِن الحقِّ، اللهمَّ حسِّنْ أخلاقَنا، وجمِّلْنَا بأطيبِ الآدابِ، اللهمَّ ارفعِ الضُّرَ عن المُتضرِّرين مِن المسلمينَ في كلِّ أرض، وارحَم موتانا وموتاهُم، واغفرْ لَنَا ولهُم، إنَّكَ سميعٌ مُجيب، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولَكم.