منافع وأضرار الصُّحبة والأصدقاء على النفس
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي ألَّفَ بينَ قلوبِ المؤمنينَ بعدَ أنْ كانوا شِيَعًا وأعداءً وأهلَ عصَبيَّةٍ قبَلِيَّةٍ وقوميَّةٍ وشُعوبيَّةٍ ومَناطِقِيَّة، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى الأُلفَةِ والائتلافِ والمَحبَّةِ في اللهِ، والزَّاجِرِ عن الفُرقَةِ والتَّباغَضِ، اللهمَّ فَصَلِّ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسَلِّم.
أمَّا بعدُ، فيَا عِبادَ اللهِ:
إنَّ الإنسانَ ــ ذَكرًا كانَ أو أُنْثَى ــ يَحتاجُ في دُنياهُ إلى صُحبَةٍ طيِّبَةٍ، وأصحابٍ نُبَلاءٍ، ورِفْقَةٍ جيِّدَةٍ، ورِفَاقٍ خِيارٍ، لِمَا في الأصحابِ والرُّفقاءِ والمُصاحَبَةٍ مِن مكاسِبٍ مُتنوِّعَةٍ، وخيرٍ كثيرٍ، ونفعٍ كبيرٍ، وعاجِلٍ في الحياةِ، وآجِلٍ بعدَ المَماتِ، فالصَّاحِبُ والرَّفيقُ معونَةٌ عندَ الشَّدائدِ والبَلاءِ، ومَسْلاةٌ عندَ الهُمومِ والأحزانِ، وسُرورٌ في المجالِسِ والأسفارِ، وطُمأنِينَةُ في الأسْرارِ والمَشورَةِ، وناصِحٌ حينَ التقصيرِ والخطأِ، ودافِعٌ لِلمذَمَّةٍ والمَعايبِ، يَفرَحُ لِفرَحِكَ، ويَحزَنُ لِحُزنِكَ، ويَتأثَّرُ لِمُصابِكَ، وقدْ: (( خَرَجَ ابْنُ مَسْعُودٍ ــ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ــ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ جِلَاءُ حُزْنِي ))، وقِيلَ لِابنِ المُنْكَدِرِ ــ رحمهُ اللهُ ــ: (( مَا بَقِيَ مِنْ لَذَّتِكَ؟ قَالَ: لِقَاءُ الْإِخْوَانِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ ))، وقالَ حَكيمُ العربِ أكْثَمُ بنُ صَيفِيٍّ: (( لِقَاءُ الْأَحِبَّةِ: مَسْلَاةٌ لِلْهَمِّ ))، وقالَ الشافعيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: (( لَيْسَ سُرُورٌ يَعْدِلُ صُحْبَةَ الْإِخْوَانِ، وَلَا غَمٌّ يَعْدِلُ فِرَاقَهُمْ ))، وقالَ ابنُ مُطرِّفٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ: (( لَا حَيَاةَ لِمَنْ لَا إِخْوَانَ لَهُ )).
ألَا فاتقوا اللهَ ــ عِبادَ اللهِ ــ وكونوا خيرَ أصحابٍ، ورِفاقَ صِدْقٍ، ولا تكونوا صُحبَةَ مصالحٍ، ورِفاقَ انتفاعٍ، واحفظوا حقوقَ الصُّحبةِ، وأحسِنوا إلى الأصحابِ نِيِّةً وقولًا وفِعلًا، وعاشِروهُم بالمعروفِ، تَشرُفوا في الدُّنيا، وتَنْبُلوا عندَ الخلقِ، وتَعظُموا عندَ اللهِ في الآخِرَةِ، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ )).
عِبادَ اللهِ:
إنَّ مِنْ أمثالِ العرَبِ الصَّحيحةِ المشهورَةِ: «إنَّ الصَّاحِبَ ساحِبٌ»، أي: يَسحَبُكَ ويَجُرُّكَ مَنْ صاحَبْتَهُ واتَّخذتَهُ صديقًا ورفيقًا إلى ما هوَ عليهِ مِنْ خيرٍ أو شَرٍّ، ورِفعَةٍ أو سُفولٍ، وتوحيدٍ أو شِرْكٍ، وسُنَّةٍ أو بدعَةٍ، وطاعةٍ أو معصيَةٍ، وإصلاحٍ أو إفسادٍ، وإحسانٍ أو إساءَةٍ، وكرَمٍ أو بُخْلٍ، وشجاعةٍ أو جُبْنٍ، وعاداتٍ وطِباعٍ وأقوالٍ وأفعالٍ جليلةٍ أو وضِيعَةٍ، جميلةٍ أو سيِّئِةٍ، ممدوحَةٍ أو مذمومَةٍ، مُشرِّفَةٍ أو مُخزِيَة، ومِصداقُ ذلكَ ما جاءَ بسندٍ حسَّنهُ جمْعٌ مِن علماءِ الحديثِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ))، والخليلُ هوَ: الصَّاحبُ والرَّفيق.
فصَاحِبُ الخيرِ والطاعةِ والاستقامةِ المُوافقَةِ لِنُصوصِ القرآنِ والسُّنةِ النَّبويةِ يَجُرُّكَ ويَسحبُكَ ويدعوكَ إلى ما يُرضِي اللهَ، ويُوافِقُ شريعَتَهُ.
وصاحِبُ الشِّركياتِ والبدعِ والمعاصيِ والفسادِ والإفسادِ يَجُرُّكَ ويَسحبُكَ ويَدعوكَ إلى ما عندَهُ مِنْ شِركيَّاتٍ أو بدعٍ أو معاصٍ أو فسادٍ أو إفسادٍ.
وصَاحِبُ التكفيرِ والأفكارِ المُنحرِفَةِ والانتماءِ للأحزابِ والجماعاتِ والطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ يَجُرُّكَ ويَسحبُكَ ويَدعوكَ لِتكونَ عليها، ومِن أهلِها، ومُعَظِّمًا لِرُموزِها ودُعاتِها وجماعاتِها، وناشِرًا لِفِكرِها وضَلالِها.
وصَاحِبُ الإلحادِ اللادِينِيِّ والعلمانيةِ واللبراليةِ والتغريبٍ والتَّبعِيَّةِ لأهلِ الكُفرِ، يَجُرُّكَ ويَسحبُكَ ويَدعوكَ لِتكونَ معهُم ومِنهُم، وتنشُرَ أفكارَهُم ضِدَّ الإسلامِ وأًصولِهِ وتشريعاتِهِ ونُصوصِ القرآنِ والسُّنةِ النَّبويةِ.
وصَاحِبُ المراقِصِ والمسارحِ والأغانِي وحفلاتِ الفسادِ يَجُرُّكَ ويَسحبُكَ ويَدعوكَ إليها، وإلى أهلِها، وإلى أماكِنِها.
وصَاحِبُ الشُّذوذِ الجِنسِيِّ والفُجورِ والزِّنا وعملِ قومِ لُوطِ والسِّحاقِ والخبائِثِ يَجُرُّكَ ويَسحبُكَ ويَدعوكَ لِتكونَ مِثلَهُ أو مُؤيِّدًا لَهُ ولِمَا هوَ عليهِ.
وصاحِبُ الإرهابِ والمُخدِّراتِ والسَّرقةِ والجرائمِ يَجُرُّكَ ويَسحبُكَ ويَدعوكَ لِتُشارِكَهُ، وتكونَ مِثلَهُ ومعَهُ.
حتى إنَّ الإنسانَ ليتأثَّرُ بأصحابِهِ مِن أهلِ الصَّيدِ وكثرةِ الأسفارِ والرِّياضة، أو أهلِ الاهتمامِ بالحيواناتِ والنُّزْهَةِ البَريَّة أو البحريَّةِ، أو أهلِ الاهتمامِ باللغةِ والأدبِ والشِّعر، أو في دِراسَةِ فُنونِ العلمِ والتخصُّصاتِ العلميَّةِ والمِهَنِيَّةِ والحِرَفِيَّةِ، فيَنتقلَ إلى ما هُم عليهِ، ويَختارُ نفسَ ما اختارُوه.
عِبادَ اللهِ:
إنَّ الصُّحبَةَ قد يَستمِرُ تأثيرُها إلى ساعةِ الموتِ خيرًا أو شَرًّا، وذلكَ لِمَا صحَّ: (( أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: “عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ” ))، فلمْ يتأثَّرْ أبو طالِبٍ في سِياقِ الموتِ وأحرَجِ وقتٍ وأضيَقِهِ بأفضلِ داعيةٍ، وأرْحَمِ إنسانٍ، وأكثرِ مَن يُحِب، وهوَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وتأثرَّ بأهلِ الكفرِ، وما أملَوهُ عليهِ، وخوَّفوهُ بِهِ، وقدَّمَ الموتَ على الكفر.
وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في بيانِ الفرْقِ بينَ الجَلِيسَينِ: (( مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً ))، وقالَ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ مُرهِّبًا لَنَا مِن أصدقاءِ السُّوءِ، ومُرغِّبًا لَنَا في أصحابِ الخيرِ: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }، والمُرادُ بالأخِلَّاءِ: الذينَ تصاحَبوا وتصادَقوا وترَافقوا في الدُّنيا على الكفرِ والشِّركيَّاتِ والبدعِ والمعاصي والشُّرورِ والفسادِ والفِتنِ، وأنَّ صُحبَتَهُم ومحبَّتَهُم تنقلِبُ يومَ القيامةِ إلى عداوةٍ.
وجاءَ بسندٍ حسَّنهُ جمعُ مِنَ علماءِ الحديثِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:(( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ )).
اللهمَّ: اجعلْنا مِنْ خيرِ الأصاحبِ، وأنْفَعِ وأصْدَقِ وأنْصَحِ الأصدِقاءِ، وأطيَبِ وأجملِ الرِّفقَةِ، إنَّكَ جوادٌ كريم.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ البَرِّ الرَّحيمِ، والصلاةُ والسلامُ على محمدٍ خاتَمِ النَّبيِّينَ، ورَضِيَ اللهُ عن آلِ بيتِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ المؤمنين.
أمَّا بعدُ، فيَا عِبادَ اللهِ:
أحِبُّوا لأصحابِكُم ورِفاقِكُم وأصدقائِكُم ما تُحِبُّونَه لأنفسِكُم مِنَ الخيرِ، واكرَهوا لهُم ما تَكرهونَهُ لأنفُسِكُم مِن الشَّرِ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ))، وافعلوا معَهُم مِنَ الخيرِ ما تُحِبُّونَ أنْ يُفعلَ معَكُم، وتعاملوا معَهُم وعاشِروهُم كما تُحِبُّونَ أنْ يُعامِلَكُم ويُعاشِرَكُم الناسُ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ: فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ))، وليَكُنْ حُبُّكُم لهُم، وإعطاؤُكُم لهُم، ومَنْعُكُم عنهُم للهِ، وفي اللهِ، وحتى بُغضَكُم لِبعضِ ما يفعلونَ، لِمَا ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ))، وكونوا معَ أصدقائِكُم ومَن تَصحَبُونَ مِمَّن يألَفُهُ الناسُ لِحُسنِ أخلاقِهِ، ورِفقِهِ ولِينِهِ وسُهولَتِهِ وسماحَتِهِ، وجميلِ طباعِهِ وأفعالِهِ وعاداتِهِ، وسديدِ أقوالِهِ ومشورَتِهِ، حيثُ ثبت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا: أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ ))، وثبتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ )).
أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيمِ: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }.
اللهمَّ: آتِ نفوسَنا تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها، اللهمَّ: إنَّا نعوذُ بِكَ مِن علمِ لا يَنفَعُ، وقلبٍ لا يَخشَعُ، ونفسِ لا تَشبَعُ، ودعوةٍ لا يُستجابُ لَها، اللهمَّ: أصلِحْ لَنا دِينَا الذي هوَ عِصمَةُ أمرِنا، ودُنيانا التي فيها معاشُنا، وآخِرَتَنا التي فيها معادُنا، واجعلِ الحياةَ زيادةً لَنا في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً لَنا مِن كلِّ شَرِّ، اللهمَّ: إنَّا نسألُكَ فِعلَ الخيراتِ، وترْكَ المُنكراتِ، وحُبَّ المساكينِ، وأنْ تغفرَ لَنا وترْحمَنا، اللهمَّ: إنَّا نسألُكَ حُبَّكَ، وحُبَّ مَن يُحِبُّكَ، وحُبًّ عملٍ يُقرِّبُنا إلى حُبَّكَ، اللهمَّ: إنَّا نسألُكَ عِيشةً تَقيَّةً، ومِيتَةً سَوِيَّةً، ومَرَدًّا غيرَ مُخْزٍ ولا فاضِحٍ، إنَّكَ سميعُ الدُّعاءِ.
وأقولُ هذا، وأستغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم.