إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > التربية > خطبة مكتوبة بعنوان: ” تقلب المؤمن بين العافية والمرض “. ملف: [ word – pdf] مع نسخة الموقع.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” تقلب المؤمن بين العافية والمرض “. ملف: [ word – pdf] مع نسخة الموقع.

  • 9 يناير 2025
  • 1٬107
  • إدارة الموقع

تقلُّب المؤمن بين العافية المرض

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي لهُ الخلقُ والأمرُ، وإليهِ يُرجَعُ الأمرُ كُلُّهُ، وإليهِ المصيرُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ العزيزُ الرَّحيمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ إلى النَّاسِ أجمعينَ، اللهمَّ فصَلِّ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعدُ، أيُّها الناسُ:

فإنَّ مِمَّا يجبُ أنْ نُقِرَّ بِهِ جميعًا، ولا إيمانَ ولا دِينَ لَنَا إلا بِهِ، ويَنبغي أنْ تَلتَفِتَ إليهِ قلوبُنا باستمرارٍ، ولا يَغيبَ عنَّا: أنَّ كُلَّ إنسانٍ مملوكٌ للهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ وحدَهُ، وللهِ سبحانَهُ أنْ يَتصرَّفَ فيما يَملِكُ كيفَ شاءَ، وبما شاءَ، ومتى شاءَ، وبالأخْذِ والإعطاءِ والابتلاءِ والرِّفعةِ والوضْعِ والإعزازِ والإذلالِ، لا يُسأَلُ ــ جلَّ وعلا ــ عمَّا يَفعلُ، وأمَّا الناسُ فيُسألونَ عمَّا عمِلوهُ، يَسأَلُهُم ربُّهُم خالِقُهُم ومالِكُهُم، ولِهذا تكونُ أوَّلُ كلمةٍ يَنطِقُ بِها المؤمنُ الصابرُ عندَ الابتلاءِ، كما قالَ اللهُ تعالى عنهُم: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }، وقولُهُم: { إِنَّا لِلَّهِ }، أي: نحنُ مملوكونَ للهِ وحدَهُ لأنَّهُ الذي خلقَنَا وأَوجَدَنَا، ونحنُ تحتَ أمرِهِ وتصرُّفِهِ ليسَ لَنَا مِن أنفُسِنا شيءٌ، وإذا ابتَلانا سبحانَهُ بشيءٍ فقد تصرَّفَ بمَمالِيكِهِ، فلا اعتراضَ يَحِقُ لَنَا عليهِ، وقولُهُم: { وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }، أي: راجِعونَ إليهِ قلبًا ونُطقًا وعملًا بما يُرضِيهِ عنَّا عندَ الابتلاءِ، وراجِعونَ إليهِ بعدَ موتِنَا، ولا بُدَّ أنْ نُخلِّفَ الدُّنيا وراءَ ظَهرِنا، ونأتي ربَّنَا فرْدًا كما خلَقَنا أوَّلَ مرَّةٍ، بِلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ، ولكنْ بالحسناتِ والسَّيِّئات.

أيُّها الناسُ:

إنَّ نِعمَةَ العافيةِ مِن الأمراضِ والوَساوسِ والشُّكوكِ والأوهامِ: لَمِن أعظمِ نِعَمِ اللهِ على عبدِهِ في حياتِهِ الدُّنيا، ويَعرِفُ قدْرَها كُلُّ ذِي عَقلٍ وبصيرَةٍ، لاسِيَّما مَن ذاقَ ألَمَ أمراضِ العُقولِ والأبدَانِ، ومَرارَةَ أسقامِ النَّفسيَّةِ والسِّحرِ والعينِ وتسلُّطِ الجَانِّ، وأهلُ الجنَّةِ أهلُ صِحَةٍ وعافيةٍ، ولا يأتِيهِمُ المرضُ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ عنهُم: (( يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، لاَ يَسْقَمُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبْصُقُونَ ))، ومعنى: (( لاَ يَسْقَمُونَ ))، أي: لا يَمرَضونَ، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مُنَوِّهًا ومُذكِّرًا بِنعمَةِ العافيةِ والصِّحَةْ في الدُّنيا، ومُبيِّنًا حالَ الناسِ معهُما: (( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ ))، ومعنى: (( مَغْبُونٌ فِيهِمَا ))، أي: يَخسَرُ فيهِما كثيرٌ مِمَّن أنعَمَ اللهُ عليهِم بِهِما، حيثُ تذهَبانِ عليهِم سُدًى، وتضيعُانِ في اللهوِ واللعبِ والملذَّات والشَّهواتِ وحُطامِ الدُّنيا وكثيرِ الأسفارِ والنُّزَهِ، وفي تتبُّعِ أهلِ الشُّهرَةِ والرِّياضةِ والسِّياسَةِ والغرائبِ، ومُطالَعَةِ الفضائياتِ وبَرامِجِ التواصُلِ المُعاصِرةِ ومواقعِ الإنترنِت، والتِّجوالِ في الأسواقِ والمعارِضِ والمُولاتِ والمراكزِ التجاريةِ، ويَعرِفُ العبدُ هذا الغَبْنَ الفاحِشَ الشديدَ في سياقِ موتِهِ، وعندَ لِقاءِ ربِّهِ يومَ القيامةِ، وحينَ يُعذَّبُ في النَّار، كما قالَ اللهُ سبحانَهُ: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ }.{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ }.{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }.

ألَا فاتقوا اللهَ ــ عِبادَ اللهِ ــ في وقتِ صِحَّتِكُم وفراغِكُم: بأنْ لا يذهبَ عليكُم دُونَ إعمارٍ لِلآخِرةِ، والتوسُّعِ في الجِنانِ العاليةِ، والحِمايةِ مِن العذابِ في النَّارِ العاتيَةِ، وذلكَ بالإكثارِ مِن الأعمالِ الصالِحَةِ الزَّاكيَةِ، والإقلاعِ عن الذُّنوبِ المُهلِكَةِ، والتعجُّلِ إلى التوبةِ النَّصوحِ الصادِقَةِ، قبلَ أنْ يَحِلَّ بِكُم مرضٌ يُعيقُكُم، أو فِتنَةُ وحرْبٌ تُشغِلُكُم، أو دُنيا تُبسَطُ عليكُم فتتنافسُوها، وقد ثبتَ عن غُنيمِ بنِ قيسٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ أنَّه قالَ مُبينًّا حالَ سَلفِنا الصالحِ مِن الصحابةِ والتابعينَ معَ نُصحِ بعضِهِم لِبعضٍ بذلكَ: (( كُنَّا نَتَوَاعَظُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِأَرْبَعٍ، كُنَّا نَقُولُ: اعْمَلْ فِي شَبَابِكَ لِكِبَرِكَ، وَاعْمَلْ فِي فَرَاغِكَ لشُغْلِكَ، وَاعْمَلْ فِي صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَاعْمَلْ فِي حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ )).

اللهمَّ: فآتِ نُفُسَنا تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ مَن زَكَّاها، أنتَ ولِيُّهَا ومَولَاها.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدِ للهِ الآمرِ بالاستعانةِ بالصبرِ عندَ تغيُّرِ الأحوالِ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ محمدٍ كريمِ الخِصالِ، ورَضِيَ اللهُ عن الصَّحبِ لَهُ والآل.

أمَّا بعدُ، أيُّها الناسُ:

فإنَّ النَصيبَ المكتوبَ على العبدِ مِن المرضِ خفيفًا كانَ أو مُتوسِّطًا أو شديدًا، مُزْمِنًا أو عارِضًا مُؤقَّتًا، خطيرًا أو مُمِيتًا، لابُدَّ أنْ يأتيَهُ ولو احتَمَى واحتاطَ وتسلَّحَ بالأسبابِ، وإنَّ يقينَ المؤمنِ بذلكَ، وطُمأنِينَةَ قلبِهِ إليهِ، لَمِن أقوى أسبابِ الصبرِ والثباتِ والعزيمةِ وراحةِ النفسِ والذِّهنِ، وأعظمِ ما يَزيدُ أجْرَ المرضِ، ويُوسِّعُ تكفيرَهُ للذُّنوبِ، ونحنُ نألَمُ مِن المرضِ، ونتألَّمُ إنْ أصابَ أحدًا مِن أهلِينا، بل قد نأَلَمُ لهُ أكثرَ مِن ألَمِنَا لأنفُسِنا، لكنَّنَا وهُم في المرضِ وغيرِهِ مِن ابتلاءاتٍ تحتَ أمرِ اللهِ وحُكمِهِ ومشيئَتِهِ النافِذَةِ علينا وعليهِم، وقد جاءَ في الحديثِ الذي حسَّنهُ جمعٌ مِن العلماءِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ))، والابتلاءُ بالمرضِ وغيرِهِ خيرٌ للمؤمنِ، لِمَا فيهِ مِن كثيرِ الأجْرِ، وعظيمِ المغفرَةِ،  وكبيرِ التكفيرِ للخطايا ولآثامِ، ورفيعِ الدَّرجاتِ، وشديدِ اللجوءِ إلى اللهِ، والاضطراحِ والانكسار المُستمرِّ بينَ يديهِ، وواسِعِ التَّعلُّقِ بِهِ، ومُناجاتِهِ سِرًّا وجهْرًا ليلًا ونهارًا، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ))، والنَّصَبُ هو: التَّعَبُ، والوَصَبُ هوَ: المرضُ والسَّقَمُ، وثبتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( مَا يَزَالُ البَلَاءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ )).

اللهمَّ يا حَيُّ يا قيومُ: ارفعِ الضُّرَ عن المُتضرِّرينَ مِن المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، وادفعْ عنهُمُ البلاءَ الذي نزلَ بِهِم فإنَّهُ لا يدفعُهُ أحدٌ سِواكَ، اللهمَّ: ارْحَمْ موتاهُم، واشفِ مرضَاهُم وجرحَاهُم، واربطْ على قلوبِهِم فلا يقولوا ولا يفعلوا إلا ما يُرضيكَ عنهُم، اللهمَّ: اجعلْ مُصَابَهُم تقويةً لإيمانِهِم، وتكثيرًا لأُجورِهِم، ومغفرةً لِذُنوبِهِم، ورِفعَةً لِدرجاتِهِم، وعنَّا معهُم، إنَّك سميعٌ مُجيبٌ قويٌ قادرٌ قاهِرٌ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولَكم.