حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع القرآن
الخطبة الأولى :ـــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ لله الذي نزَّل القرآن تبصرةً لأُولي النُّهى والألباب، وتذكرةً لِمن خاف الوعيدَ والعذاب، وأَودَعه مِن فنون العلوم والحِكم العَجَب العُجاب، وجعله أجلَّ الكتب قدْرًا، وأغزَرها علمًا، وأعذَبها نظمًا، وأبلغَها في الخطاب، قرآنًا عربيًّا غيرَ ذي عِوَج، مَن قال بِه صدق، ومَن تعلَّمه وعلَّمه وعمِل بِه أُجِر ورُفِع، ومَن حَكم به أصاب الحقَّ وعَدَل، ومَن اهتدى بهداه هُدي إلى جنات النعيم، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الجبَّار، العزيز القهَّار، الذي عَنَت لقيومِيَّته جميع الوجوه، وخضَعت لعظمته سائر الرِّقاب، وجلَّ عن الشَّبيه والنظير والنَّديد، وأشهد أنَّ محمدُا عبدُ الله ورسوله، وحبيبُه وخليله، وخِيرَته مِن خلقِه؛ حيث اصطفاه مِن أشرف الشعوب، وجعله في خير أمَّةٍ أُخرِجت للناس، وأكرَمه بالقرآن المُعجزة المستمرة على تعاقُب الزَّمان، حتى كان خُلُقَه في حِلِّه وتَرْحَاله، فصلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه الكرام الفِخام الرُّكع السجود البكَّئين خوفًا مِن ربِّهم، وعلى مَن سار على طريقه واتَّبع هُداه، صلاةً وسلامًا دائمَين إلى يوم الحشر والمآب.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فإنَّ مِن أعظم ساعات المسلم هي تلك الساعات التي يقضيها مع كتاب ربَّه القرآن، فيتلو ويتدبَّر ويتعلَّم الأحكام، ويأخذ العِظَة والعبرة، فهو كلام الله العظيم، مالك السموات والأرضين، الذي بيده أَزِمَّة الأمور ومقاليدها، والذي أدهش العقول، وأبكى العيون، وأحيا القلوب وليَّنها، وطأطأت له رؤوس أهل الكفر، وحرَّك ألبابَ الجنِّ حين سمعته مَن النبي صلى الله عليه وسلم فآمنَت ورجعَت إلى قومها تدعوهم للإيمان به، وهو الكتاب الذي رفع الله بِه هذه الأمَّة وأعزَّها وأكرمها، ففتَحت بِه مشارق الأرض ومغاربها، وهزَمت بِه جيوش كِسرى وقَيصر، وهَدَتْ بِه العرب والعَجم، الصغار والكبار، الذكور والإناث، وهو النور المُبين في القلب، والنور المُبين في الوجه، والنور المُبين في المنطق والاحتجاج، والنور المُبين في القبر، والنور المُبين في القيامة والعرض، وهو والشفاء النافع للقلوب؛ فكم مِن ضالٍّ قد هداه؟ وكم مِن شاكٍّ قد أزال شكُوكه؟ وكم مِن تالٍ قد أدمعه وأبكاه؟ وكم مِن عاصٍ قد أبعده عن عصيانه؟ وكم مِن مهمومٍ مكروبٍ قد وسَّع عليه وآنَسه؟ وهو الشفاء النافع لأمراض الأبدان؛ فكم مِن مريضٍ تُلِيَت عليه آياته فقام مُعافًا بريئًا مِن المرض؟ وكم مِن لَدِيغ قُرِئت عليه آياته فقام كأنَّما نَشِط مِن عِقال؟ وهو المُعجز في بيانه، الجزيل في ألفاظه، الجميل في سياقه، المتين في معناه، فكم مِن مُبطِلٍ قد أفحَمَه؟ وكم مِن عاقلٍ قد أخذ بِلُـبِّه وأدهَشه؟ وكم مِن تالٍ لم يأتِه المَلل مِن كثرة الترداد؟.
أيُّها الناس:
لقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن أكملَ الأحوال، وكانت عنايته بِه أبلغَ العناية، وكان اهتمامه بِه أجملَ الاهتمام، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير المدارسة للقرآن، فكان يتدارسه مع جبريل ــ عليه السلام ــ، فصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ )).
وكان صلى الله عليه وسلم يتدارسه مع أصحابه حتى تَذرِف عيناه دمعًا، فصح عن ابن بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } قَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ )).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام بالليل يُصلِّي يُكْثر القراءة مِنه، ويترسَّل فيها، ويدعُو عند آيات الرحمة والعذاب مِنها، ويُنَزِّه ربَّه عند آيات التسبيح، فصحَّ عن حذيفة ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ )).
وصحَّ عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قِيلَ: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ )).
وكان صلى الله عليه وسلم يتأدَّب بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه، فما مدحه القرآن كان فيه رضاه، وما ذمَّه القرآن كان فيه سخطه، فصحَّ عن سعد بن هشام أنَّه قال لأُمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ : (( يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآن )).
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأه حتى وهو يسير على دابَّته، فصحَّ عن عبد الله بن مُغفَّل ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً، وَهُوَ يُرَجِّعُ )).
وكان صلى الله عليه وسلم شديد التأثر بِه إذا سمعه أو قرأه، تَذرِف عيناه ويَبكي، فصحّ عن عبد الله بن الشِّخِّير ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( رَأَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدره أزير كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ )).
وصحَّ عن علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلاَّ نَائِمٌ، إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، يُصَلِّي، وَيَبْكِي، حَتَّى أَصْبَحَ )).
وثبت عن عُبيد بن عُمير أنَّه قال لعائشة ــ رضي الله عنها ــ: (( أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي» قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟، قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ … }» الْآيَةَ كُلَّهَا )).
وكيف لا تَذرِف عيناه ويَبكي صلى الله عليه وسلم مِن أثر القرآن على نفسه؟ وقلبُه أَليَنُ القلوب وأرقُّها وأخشعُها وأبرُّها وأزكاها، إذ صحَّ عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( فَوَاللهِ إِنِّي أَخْشَاكُمْ لِلهِ، وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ )).
أيُّها الناس:
لقد كان اهتمام الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ بالقرآن كبيرُا، وتدبُّرهم له شديدًا، وتأثُّرهم بِه عجيبًا، كانوا يُحيُون بِه ليلهم، ويٌزيِّنون بتعلُّمه وتعلِيمه وتدارس أحكامه نهارهم، وتَدمَع وتَبكي عند تلاوته عيونهم، فصحَّ عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنها قالت في وصف أبيها صدِّيق الأمَّة أبي بكرٍ ــ رضي الله عنه ــ: (( كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ )).
وصحَّ عنها ــ رضي الله عنها ــ أيضًا أنَّها قالت: (( لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتِي قَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» )).
وصحَّ عن عبد الله بن شَداد ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:(( سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ ــ رضي الله عنه ــ وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، يَقْرَأُ: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } )).
وثبت عن نافع مولى ابن عمر ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( كانَ عبدُ الله بن عمرَ إذا قرأً هذهِ الآيةِ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } بَكَى حتى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ البُكاءُ، ويقولُ: بلَى يَا رَبِّ)).
وصحَّ عن عُروة ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( دَخَلْتُ عَلَى أَسْمَاءَ ــ رضي الله عنها ــ وَهِيَ تُصَلِّي فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: { فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ }، فَاسْتَعَاذَتْ، فَقُمْتُ وَهِيَ تَسْتَعِيذُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ أَتَيْتُ السُّوقَ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَهِيَ فِي بُكَائِهَا تَسْتَعِيذُ )).
أيُّها الناس:
كيف لا يكون هذا حاله صلى الله عليه وسلم مع القرآن حين سماعه، وحال أصحابه ــ رضي الله عنهم ــ؟ وقد قال ربُّهم ــ جلَّ وعلا ــ في وصف القرآن، ووصف أهل خشيته إذا سمعوه أوقرأوه: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.
فالقرآن يؤثِّر في قلوب أهل الإيمان؛ فيزيد مِن خشيتها لربَّها، وتزداد له خشوعًا وخضوعًا، وتقرُّبًا وانقيادًا، ورهبةً وخوفُا، وحُبًّا وإجلالًا، وتعظيمًا وتقديسًا، حيث قال الله ــ تبارك اسمه ــ في أواخِر سورة براءة مُبيِّنًا هذا الأثر الجميل للقرآن: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ }.
كيف لا يكون هذا هو حال أهل الإيمان عند سماع القرآن أو عند قراءته؟ والله تعالى قد أمَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنْ يَخُصَّهم مِن بين خلقِه بمزيد تذكيرٍ بِه، فقال سبحانه في سورة ق: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ }.
كيف لا يتأثَّرون؟ وكيف لا يتغيَّرون؟ فَيُحِلُّون مَحلَّ السيئةِ الحسنة، ويُتبِعون الطاعة بالطاعة، وهذا القرآن كلامُ ربَّهم وخالقهم ومالكهم ومُدبِّر أمورهم وشؤونهم؛ رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، والذي لو أُنزِل على الجبال الصُّم الصِّلاب الشامخة ــ وكانت تعقِل ما فيه مِن الوعد والوعيد ــ لَتَصدَّعت وتشقَّقت مِن خشية ربَّها، ورهبةً مِنه وخوفًا، فحيث قال الله تعالى فاطرُها ومُثبِّت الأرض بِها في سورة الحشْر: { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
{ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وهذا هو المقصد مِن ضَرْب الله سبحانه هذا المثل؛ إنَّه تَذكُّر الإنسان وتفكُّره واعتبارُه كي يُراجع نفسه فيبعدَها عن دَنَس المعاصي وضررها، ويزكِّيَها بالطاعات ويجمِّلَها، ولكنَّ بعض هذه الأجساد التي خلقها الله مِن جِلْدٍ وعَصَب وعظم ولحم قد أصبحت قلوبُ أهلها أقسَى مِن الحديد؛ بل أقسَى مِمَّا هو أقسَى مِن الحديد؛ وهي الحجارة، حيث قال الله سبحانه مٌخبِرًا عن هذا الصِّنف مِن الناس، ومُحذِّرًا مِن مشابهتهم في سورة البقرة: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }.
ولقد توَّعد الله تعالى أهلَ القلوب القاسية التي لا تَلين عند سماع كلامه، وقراءة كتابه، ولا تتذكَّر بآياته، ولا تطمئِن بِذكره؛ بل هي معرضةٌ عن ربِّها، مُلتفتة إلى غيره، بالويل الشديد، والشَّر الكبير، فقال سبحانه: { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ }.
وثبت عن مالك بن دينار ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( ما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظم مِن قسوةْ القلب )).
وقال حذيفة المَرعشِيُّ ــ رحمه الله ــ: (( ما أُصيِبَ أحدٌ بمصيبةٍ أعظم مِن قساوةِ قلبِه )).
بارك الله لي ولكم فيما سمعتم، وجعلنا مِن أهل القرآن، وأزال القساوة عن قلوبنا، إنَّه جواد رحيم.
الخطبة الثانية:ـــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله الذي علَّم القرآن، خلقَ الإنسان، علَّمه البيان، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، أعلمِ الخلق بالله ودينه وشرعه، وأنصحِهم للناس وأنفعِهم، وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات، ومَن تبعهم إلى يوم الحشر والجزاء.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فلقد كان للسلف الصالح مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ، والتابعين، ومَن بعدهم، مع القرآن حالًا عجَبًا، وإقبالًا شديدًا، وحرصًا بالغًا، واهتمامًا مُتزايدًا، فكان أُبَيُّ بنُ كعبٍ ــ رضي الله عنه ــ يَختم القرآن في كلِّ ثمان، وكان ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ يختمه مِن الجمعة إلى الجمعة، وكان تميمٌ الدَّاري ــ رضي الله عنه ــ يختمه في كلِّ سَبعٍ، وكان الأسود بن يزيد ــ رحمه الله ــ يختمه في كلِّ سِتٍّ، وكان علقمة ــ رحمه الله ــ يختمه في كلِّ خمس، وكان مِنهم مَن يختمه في ثلاث ليال.
وكان لكثيرٍ مِنهم حِزب ووِرد معلوم مِن القرآن، يقرؤه كلَّ يوم ولا يتركه، وكان بعضهم إنْ شُغِل عن حِزبِه مِنه بالنهار قرأه بالليل، وإنْ لم يتيسَّر له قرأه مِن الغد مع الحِزب الجديد.
فاقتدوا ــ سدَّدكم الله ــ بسلفكم الصالح في ذلك، واجعلوا لأنفسكم حِزبًا ووِردًا مُعيَّنًا مِن القرآن، جزءًا أو نصف جُزء، أو أقلَّ أو أكثر، كلَّ يومٍ تقرؤونه لا تُخِلُّون به، وتجعلون له وقتًا مُحدَّدًا مِن اليوم، أو تفرِّقونه في سائر اليوم، تقرءونه قيامًا أو قعودًا أو مضطجعين؛ فإنَّ في ذلك خيرٌ عظيم لكم؛ حيث يُعينكم على الاستمرار في القراءة ما دُمتُم أحياء، وتَكثُر بِه أجوركم، وتتثبُت في قلوبكم ألفاظه ومعانيه وترسخ، وتدفعون عن أنفسكم هجْره، وتَنْزِل عليكم السَّكينة، ويَقتدِي بَكم زوجاتكم وأولادكم ذكورًا وإناثًا، ويَنفِر الشيطان مِن بيوتكم؛ فإنَّ هذا القرآن مباركٌ في تلاوته، مباركٌ في منهاجه، مباركٌ في آثاره، مباركٌ في ثوابه، واستشعروا أنَّكم تقرءون كلام الله ربّكم وخالقكم ومالككم؛ فأحضِرَوا قلوبكم عند تلاوته، وتدبَّروه وتفهَّموا ما فيه مِن أَمرٍ ونَهي، ووعدٍ ووعيد، وخبرٍ ونَبأ؛ لتنتفعوا بهذه التلاوة، فيحصُلَ لكم الثواب، ويحصُل لكم العلم والمعرفة.
هذا وأسألُ الله أنْ يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجِلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، وأنْ يجعلنا مِمَّن يتلونه حقَّ تلاوته، ويحفظونه أحسن حفظ، وأنْ يرزقنا بِه السعادة والفلاح والرِّفعة في الدنيا والآخِرة، وأنْ يجعلنا بِه مؤمنين، ولأخباره مصدِّقين، وبأحكامه عاملين، متَّفقين فيه غير مختلِفين، مؤتلِفين غير متعادِين، اللهم ارفع لنا بِه الدرجات، وكفِّر عنَّا بِه السَّيئات، وباعِد بيننا وبين هَجْره، إنك سميعٌ مجيب.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.