الأحكام الفقهية الخاصة بزكاة الفطر
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ ربِّ كلِّ شيءٍ وملِيكِه، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على جميعِ أنبيائِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، ورضَيَ عن آلِ محمدٍ وأصحابِه.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فلَقد قطعتُم الأكثرَ مِن شهرِ رمضان، ولم يَبقَّ مِنهُ إلا أيَّامٌ قليةٌ، فتَدارَكوها بالتوبةِ النَّصوحِ، والإكثارِ مِن الصالحاتِ، وترْكِ الخطيئاتِ والمُنكراتِ، وحُسنِ الخُلقِ وإحسانِ المُعاملةِ مع النَّاسِ، لأنَّ بابَ التوبةِ لم يُقفَلْ بعدُ، واللهُ يُحِبُّ التوابينَ، وأرحَمُ بِكُم مِن أنفسِكُم وأهلِيكُم ومَن في الأرضِ جميعًا، ولا ولا تزالونَ تعيشونَ في زمَنٍ فاضلٍ مُباركٍ تُضاعَفُ فيه الحسناتُ، وتُكفَّرُ فيه الخطيئات، وتُرفعُ فيهِ الدَّرجات، وقد قالَ اللهُ سبحانَهُ مُبشِّرًا لكُم ومُحَفِّزًا: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، وقال تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: قالَ اللهُ تعالى: (( يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ )).
أيُّها المسلمون:
لقد دخلتُم أو أوشكتُم على الدخولِ في وقتِ عبادةٍ جليلةٍ واجبةٍ، ألَا وهيَ زكاةُ الفِطرِ، وهذهِ جملةٌ مِن مسائِلِها وأحكامِها:
المسألةُ الأولى: تجبُ زكاةُ الفِطرِ على المسلمِ الحَيِّ، ذَكَرًا أو أُنْثى، صغيرًا أو كبيرًا، حُرًّا أو عبدًا، لِما صحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ ))، وإلى وجوبِها على هؤلاءِ جميعًا ذهبَ عامَّةُ الفقهاء.
المسألةُ الثانيةُ: الجَنينُ الذي في بطنِ أُمِّهِ لا يَجبُ إخراجُ زكاةِ الفِطرِ عنهُ، وإنَّما يُستحبُ باتفاقِ المذاهب الأربعة، وكانَ السَّلفُ الصالحُ يُخرجونَها عنهم، حيثُ صحَّ عن تلميذِ الصحابةِ أبي قِلابَةَ أنَّهُ قالَ: (( كَانَ يُعْجِبُهُمْ: أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ حَتَّى عَلَى الْحَبَلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ )).
المسألةُ الثالثةُ: المجنونُ يَجبُ إخراجُ زكاةِ الفِطرٍ عنه، لِدخولِهِ في عُمومِ قولِهِ: (( فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))، وهو مِن أنفُسِ المسلمين، وإلى هذا ذهبَ الأئمةُ الأربعةُ، والظاهريةُ، وغيرُهم.
المسألةُ الرابعةُ: المسلمُ الفقيرُ لهُ حالان:
الحالُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ مُعْدَمًا لا شيءَ عنده، وهذا لا تَجبُ عليهِ زكاةُ الفِطرِ باتفاقِ العلماء.
الحالُ الثاني: أنْ يَملِكَ طعامًا يزيدُ على ما يَكفيهِ ويَكفِي مَن تَلزمُهُ نفقتُهُ مِن أهلٍ وعِيالٍ ليلةَ العيدِ ويومَهُ، أو ما يَقومُ مقامَ الطعامِ مِن نُقود، وهذا تَجبُ عليه زكاةُ الفطرِ عندَ أكثرِ اللعماء.
المسألةُ الخامسةُ: زكاةُ الفِطرِ عندَ أكثرِ الفقهاءِ تُخرَجُ مِن غالبِ قُوتِ البلدِ الذي يُعملُ فيه بالكيلِ بالصاع، سواء كانَ تمرًا، أو شعيرًا، أو زبيبًا، أو بُرًّا، أو ذُرة، أو دُخنًا، أو عدسًا، أو فولًا، أو لوزًا، أو حُمُّصًا، أو كُسكسًا، أو أُرْزًا، أو غيرَ ذلك، ومِقدارُ ما يُخرَجُ في هذهِ الزكاةِ: صاعٌ، والصَّاعُ كَيلٌ معروفٌ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقبْلَهُ وبعدَهُ، وهو بالوزنِ المُعاصرِ ما بينَ الكيلوينِ وأربعِ مئةِ جرامٍ إلى الثلاثة.
المسألةُ السادسةُ: يجوزُ أنْ تُخرَجَ زكاةُ الفِطرِ قبْلَ العيدِ بيومٍ أو يومين، لِمَا صحَّ عن تلميذِ الصحابةِ نافعٍ أنَّهُ قالَ: (( كَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ))، والأفضلُ باتفاقِ العلماءِ أنْ تُخرَجَ في يومِ عيدِ الفطرِ بعدَ صلاةِ فجْرهِ وقبْلَ صلاةِ العيد، لِمَا صحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ ))، ولِيَحْذَرِ المسلمُ مِن تأخيرِها حتى تَنتهيَ صلاةُ العيد، فقد ثبتَ أنَّ ابنَ عباسٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ ))، ومَن أخَّرَها عمدًا حتى انقضَى يومُ العيدِ وغرَبتِ الشمسُ فقد أثِمَ، وكانَ مُرتكبًا لِمحرَّمٍ باتفاقِ العلماءِ، ومَن أخَّرَها نسيانًا أو جهلًا أو بسببِ عُذرٍ حتى انتهت صلاةُ العيدِ ويومُهُ، كمَن يكونُ في سَفرٍ وليسَ عندَهُ ما يُخرِجُهُ أو لم يَجدْ مَن تُخرَجُ إليه، أو اعتمدَ على أهلِهِ أنْ يُخرِجوها واعتمدوا هُم عليه، فإنَّه يُخرِجها متى علِمَ أو تذكَّرَ، ولا إثْمَ عليه، وتُعتبَرُ زكاة، ومَن فرَّطَ فلم يُخرِجْها حتى انتهتْ صلاةُ العيد أخرجَها بعدَ الصلاةِ، ومعه حتى إلى غُروبَ شمسِ يومِ العيد.
المسألةُ السابعةُ: لا يجوزُ أنْ تُخرَجَ زكاةُ الفِطرِ نقودًا، بل يَجب أنْ تُخرَجَ طعامًا، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فرَضَها وأخرَجَها طعامًا، وكذلكَ فعلَ أصحابُهُ في زَمَنِهِ وبعد وفاتِهِ، ولا يجوزُ العُدولُ عمَّا فرَضَ إلى غيرِهِ إلا بدليلٍ شرعِيٍّ ولا يُوجَد، والدراهِمُ والدَّنانيرُ قد كانت موجودةً في عهدِه صلى الله عليه وسلم، وعهدِ أصحابه مِن بعدِه، ومع ذلك فلم يُخرِجوها إلا مِن الطعام، وخيرُ الهَديِ هَديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، ومَن أخرجَها نقودًا لم تُجزِئهُ عندَ أكثرِ الفقهاءِ، مِنهم: مالكٌ والشافعيُّ وأحمد، ومَن أخرجَها طعامًا أجزأَتهُ عندَ جميعِ العلماء، وقال الفقيهانِ عِياضٌ المالكيُّ والنَّوويُّ الشافعيُّ ــ رحمهُما اللهُ ــ: «ولم يُجِزْ عامَّةُ العلماءِ إخراجَ القيمةِ».
والحمدُ للهِ أوَّلًا وآخِرًا وظاهرًا وباطنًا، وبُكرةً وأصيلًا، وعلى كلِّ حال.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ، وسلامٌ على عِبادِهِ الذين اصطَفى.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فلا يَزالُ الحديثُ معكُم مُتَّصِلًا عن مسائلِ زكاةِ الفِطر، فأقولُ مستعينًا باللهِ:
المسألةُ الثامنةُ: فقراءُ المسلمينَ مَصْرِفٌ لِزكاةِ الفطرِ باتفاقِ العلماءِ، ولا يجوزُ أنْ تُعطَى لِغيرِ المسلمينَ حتى ولو كانوا فقراء، وإلى هذا ذهبَ أكثرُ الفقهاء، مِنهم: مالكٌ والشافعيُ وأحمد، لأنَّ المنقولَ عملًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إخراجُها على فقراءِ المسلمين.
المسألةُ التاسعةُ: يُخرِجُ الرَّجلُ زكاةَ الفِطرِ عن نفسِه وعمَّن يَمُونُ مِن أهلِهِ ويُنْفِقُ عليهِم مِن زوجةٍ وأبناءٍ وبناتٍ، وغيرِهِم، تبَعًا للنفقة، وقد صحَّ أنَّ أسماءَ ــ رضيَ اللهُ عنها ــ: (( كَانَتْ تُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ مَنْ تَمُونُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ))، وصحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ: (( كَانَ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، عَمَّنْ يَعُولُ )).
المسألةُ العاشرةُ: يُخرِجُ العبدُ زكاةَ الفِطر في نفسِ المدينةِ أو القَريةِ أو الباديةِ التي هو موجودُ فيها وقتَ إخراجِ الزكاةِ، وعلى هذا جَرَى عملُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابِهِ، وقال الإمامُ أبو عُبيدٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «والعلماءُ اليومَ مُجمِعونَ على: أنَّ أهلَ كلِّ بلدٍ مِن البلدان، أو ماءٍ مِن المياهِ، أحقُّ بصدَقتِهم، ما دامَ فيهِم مِن ذَوي الحاجةِ واحدٌ، فما فوقَ ذلكَ»، وقالَ الفقيهُ ابنُ رُشدٍ المالكيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «وعندَ أكثرِهم: أنَّه لا يجوزُ تَنقيلُ الصَّدقةِ مِن بلدٍ إلى بلدٍ إلا مِن ضَرورةٍ»، وعليهِ: فمَن كان يَسكنُ مدينةَ الرياضِ فليُخرجْ زكاتَهُ على فقرائِها، وليسَ على فقراءِ مكةَ، ومَن كان يَسكنُ القاهرةَ فليُخرِجْ زكاتَهُ فيها وليسَ في الإسكندرية، ومَن كانَ يَسكنُ واشُنطن فليُخرِجْ زكاتَهُ على فقرائِها المسلمينَ، وليسَ على فقراءِ مدينةِ نُيويورك المسلمين.
اللهمَّ: ارزُقنا توبةً نصوحًا، وقلوبًا تخشعُ لِذكرِكَ، وإقبالًا على طاعتِكَ، وبُعدًا عن المعاصي وأماكنِها وقنواتِها ودعاتِها، اللهمَّ ارفعِ الضُّرَّ عن المُتضرِّرينَ مِن المسلمينَ في كلِّ أرض، اللهمَّ تقبَّل صيامَنا وقيامَنا وزكاتَنا، اللهمَّ ارحم موتانا، وأكرمْهُم بالنَّعيم في قبورِهم، وبرِضوانِكَ والجنَّةِ، وأصلِح أهلِينا، واجعلهُم مِن عبادَكَ الصالحينَ، إنَّكَ يا ربَّنا لَسميعُ الدُّعاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.