تزويد أولي النُّهى والأحلام بحكم تأخير الصبي المميِّز إذا سَبق إلى الوقوف خلْف الإمام
الحمد لله الخلَّاق العليم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
وبعد:
فقد اختلف الفقهاء ــ رحمهم الله تعالى ــ في حكم تأخير الصَّبي المميِّز إذا كان ممَّا يلي الإمام وقد سَبق إلى المكان خلفه، على قولين:
القول الأوَّل: أنَّه أحقُّ بالمكان، فلا يُؤخَّر عنه.
لأنَّه قد سَبق غيره إلى هذا المكان، ومَن سَبق إلى مكان فهو أحقُّ به، وقد دلَّت الشريعة على أنَّ الصَّف يُدرَك بالسَّبق إليه.
فأخرج البخاري (615)، ومسلم (437) عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا )).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري” (3 /480 ــ عند حديث رقم:615):
وقد دلَّ الحديث على القُرعة في التنافس في الصَّف الأوَّل إذا استبق إليه اثنان وضاق عنهما وتشاحَّا فيه، فإنَّه يُقرَع بينهما.اهـ
وهذا القول هو مذهب الشافعي، وطائفة مِن الحنابلة.
القول الثاني: أنَّه يجوز تأخيره.
لأنَّه في مكان ليس له.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري” (3/ 481):
فإنْ كان السابق إلى الصَّف غلامًا لم يَبلُغ الحُلم جاز تأخيره.
فعله أُبَيُّ بن كعب بِقيس بن عبَّاد، وصرَّح به أصحابنا، وهو ظاهر كلام الامام أحمد، وقول سفيان.اهـ
وقال أيضًا (5/ 445):
ويُستثنى مِن ذلك:
الصَّبي، إذا كان في الصَّف، وجاء رجل، فله أنْ يُؤخِّره ويقوم مقامه، كما فعله أُبَيُّ بن كعب بِقيس بن عبَّاد، وقد ذهب اليه الثوري، وأحمد.اهـ
ومِن حُجَّة هذا لقول:
أوَّلًا ــ ما أخرجه مسلم في “صحيحه” (432) عن أبي مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ )).
ووجه الاستدلال مِنه:
أنَّه صلى الله عليه وسلم قد جعل ما يليه مكانًا لأولِي الأحلام والنُّهى، بل أمرهم أنْ يكونوا هُم مَن يقف وراءه، ومَن لم يَبلُغ ويَعقِل ليس مِنهم، فليس هذا مكانه.
ثانيًا ــ فِعل الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
فقد أخرج أحمد (21264) واللفظ له، والنَّسائي (808)، وابن خزيمة (1573)، والحاكم (778 )، وابن حِبَّان (2181)، عن قيس بن عبَّاد أنَّه قال:
(( أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ لِلُقِيِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ رَجُلٌ أَلْقَاهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أُبَيٍّ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَخَرَجَ عُمَرُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُمْتُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَنَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَعَرَفَهُمْ غَيْرِي، فَنَحَّانِي وَقَامَ فِي مَكَانِي، فَمَا عَقِلْتُ صَلَاتِي، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: يَا بُنَيَّ لَا يَسُوءُكَ اللهُ، فَإِنِّي لَمْ آتِكَ الَّذِي أَتَيْتُكَ بِجَهَالَةٍ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: ” كُونُوا فِي الصَّفِّ الَّذِي يَلِينِي “، وَإِنِّي نَظَرْتُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَعَرَفْتُهُمْ غَيْرَكَ، ثُمَّ حَدَّثَ، فَمَا رَأَيْتُ الرِّجَالَ مَتَحَتْ أَعْنَاقَهَا إِلَى شَيْءٍ مُتُوحَهَا إِلَيْهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَلَكَ أَهْلُ الْعُقْدَةِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَلَا لَاعَلَيْهِمْ آسَى، وَلَكِنْ آسَى عَلَى مَنْ يَهْلِكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا هُوَ أُبَيٌّ )).
وصحَّحه:
ابن خزيمة، والحاكم، وابن حبَّان، والذهبي، والألباني، والوادعي.
وجوَّد إسناده:
أبو عبد الله ابن مفلح، ومحمد بن عبد الوهاب.
وقد اجتمع في هذا التأخير للفتى ثلاثة أمور:
1 ــ أنَّه وقع مِن أُبَيِّ بن كعب ــ رضي الله عنه ــ بمحضَر مِن الصحابة، ولم يُذكر أنَّ أحدًا أنْكَر عليه.
2 ــ أنَّ أُبَيَّ بن كعب ــ رضي الله عنه ــ قد أبانَ للفتى أنَّه لم يًنَحِّه إلا عن عِلم، إذ قال له:
(( فَإِنِّي لَمْ آتِكَ الَّذِي أَتَيْتُكَ بِجَهَالَةٍ )).
3 ــ أن أُبَيَّ بن كعب ــ رضي الله عنه ــ مِن رواة حديث:
(( كُونُوا فِي الصَّفِّ الَّذِي يَلِينِي )).
ولا ريب أنَّ الراوي مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ مِن أدرى الناس بفقه مروِّية، لاسيَّما إذا كان مِن علمائهم كأُبَيِّ بن كعب ــ رضي الله عنه ــ.
وبهذه الثلاثة يُجاب عن قول مَن قال:
إنَّ الحديث ليس فيه إلا الأمر لأولِي الأحلام والنُّهى بأنْ يكونوا خلف الإمام.
ثالثًا ــ أنَّ أهل الأحلام والنُّهى أحقُّ بالمكان، لأنَّه يترتَّب على وقوفهم خلْف الإمام مصلحة عامة للمصلِّين، بخلاف مَن لم يَبلُغ فالمصلحة في حقِّه خاصَّة.
فهم في الغالب:
1 ــ أفطن لسهو الإمام وخطأه.
2 ــ وأحسن تصرُّفًا إذا قَطع الإمام صلاته أو ألَمَّ به شيء في صلاته.
3 ــ وأكثر علمًا بالصلاة وأحكامها.
وقال الفقيه الخطابي ــ رحمه الله ــ في كتابه “معالم السنن” (1 /184):
إنَّما أمَر صلى الله عليه وسلم أنْ يليه ذوو الأحلام والنُّهى ليعقِلوا عنه صلاته، ولكي يَخلُفوه في الإمامة إنْ حدَث به حدَث في صلاته، وليرجِع إلى قولهم إنْ أصابه سهو أو عرَض في صلاته عارِض في نحو ذلك مِن الأمور.اهـ
وقال الحافظ ابن عبد البَرِّ النَّمِري ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستذكار” (6 /237):
وكذلك ينبغي أنْ يكون فيالصَّف الأوَّل مَن يَصلح أنْ يُلقِّنه ما تعايا عليه ووقف فيه مِن القرآن، ومَن يَصلح أيضًا للاستخلاف في الصلاة، إنْ ناب الإمام فيها ما يَحمله على الاستخلاف.اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.