هديان يختلفان حول القبور وأهلها
( هَدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وهَدي الصوفية )
الحمد لله الملك المجيد، القوي العزيز، الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، وبإرادته حصول الأسباب والمسببات ومفاتيحها، وتبارك من لم يَشْرَكه في الخلق والرزق والتدبير أحد من العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا ضد ولا نظير ولا معين، كاشف الشِّدات، وفارج الكربات، وميسِّر المعضلات، ودافع المشكلات، ومزيل البليَّات، ومجيب الدعوات.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي القرشي الكريم، والإمام المصطفى الجليل، أفضل داع إلى الله، وأخشاهم له وأتقى، فاللهم صل عليه دوماً، وعلى آل بيته وأصحابه وأتباعه في الأقوال والأفعال، وسَلِّمْ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلم المكرم بالدين والشريعة ـ سددك الله وزادك بصيرة بدينه وشرعه ـ:
إن من نظر إلى حال جموع عديدة من الناس اليوم في بلاد الإسلام لا سيما الصوفية ومن تأثر بهم جهة قبور الموتى، والمقبورين فيها، والمقابر، فسيجد الاختلاف الكبير، ويُدرك البون الشاسع، ويلحظ المفارقة الشديدة بينها وبين ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية الثابتة الصحيحة، وهديه الطيب القويم، وما نقل عن أصحابه – رضي الله عنهم – من أقوال وأفعال ثابتة، وهديهم الجميل، وما قاله ودوَّنه أئمة الإسلام والسنة في القرون الأولى وما بعدها، وعلى رأسهم أئمة المذاهب الأربعة المشهورة – رحمهم الله تعالى -.
— فرسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن البناء على القبور، ويرسل أصحابه – رضي الله عنهم – ليهدموا ما بُني على القبور في زمن الجاهلية، وأبيح لهم رفعها بالتراب عن الأرض نحو شبر حتى يُعلم أنها قبور فيُدعى لأهلها ولا تهان فتداس أو تلقى عليها القاذورات.
وهم ـ أرشدهم الله – يبنون عليها، بل ويوصون أبناءهم بالبناء على قبورهم من بعد وفاتهم، ويتركون لهذا البناء مالاً، فهذا قد بنوا على قبره قبة صغيرة أو كبيرة، وذاك قد بنوا على قبره بالأسمنت والرخام نحو متر أو أقل وجعلوا في وسطه قبة صغيرة، وآخر قد عمَّروا على قبره غرفة مُجَمَّلة بالستور والزخارف والألوان.
وقد أخرج الإمام مسلم في “صحيحه” (970) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( نَهَى رَسُولُ االله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ )).
وأخرج الإمام مسلم في “صحيحه” (969) أيضاً عن أبي الْهَيَّاجِ الأَسَدي أنه قال: قال لي علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: (( أَلاَّ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ )).
وقال إمام أهل مصر الليث بن سعد ـ رحمه الله ـ كما في كتاب “مختصر اختلاف العلماء”(1/ 407 – مسألة رقم: 387):
بُنيان القبور ليس من حال المسلمين، وإنما هو من حال النصارى.اهـ
وقال قاضي بلاد اليمن محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ في كتابه “شرح الصدور في تحريم رفع القبور”(ص:8):
اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولا حقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى هذا الوقت:
أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين.اهـ
— رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن اتخاذ القبور مساجد، ببناء المساجد على القبور، أو جَعْل قبور الموتى في المساجد، أو جَعْل القبور أماكن للعبادة كالمساجد، وبيَّن لهم أن ذلك من فعل وهدي اليهود والنصارى، ولعن من فعل ذلك.
فخالفوه ـ أرشدهم الله – وبنوا المساجد على القبور، وقبروا موتاهم في المساجد إما في قبلتها، وإما في وسطها، وإما في مؤخرتها، وإما على جنباتها، وإما في بدرومها، وإما في فنائها، وأوصوا أبناءهم بفعل ذلك لهم إن هم ماتوا، وتركوا لهم مالاً لفعل ذلك بهم، وجعلوا القبور كالمساجد أماكن للعبادات من صلاة ودعاء للأنفس والأهل والذرية وذكر لله وتهليل وتسبيح واستغفار وقراءة قرآن وغير ذلك.
وقد أخرج الإمام مسلم في “صحيحه” (532) عن جُنْدَب بن عبد الله البَجَلي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (( أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )).
وأخرج الإمامان البخاري (427 -3873) ومسلم (528) في “صحيحيهما” واللفظ لمسلم، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن أم حبيبة وأم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فقال صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
وثبت في “مسند الإمام أحمد” (3844-4143) وعند الإمامين ابن خزيمة (789) وابن حبان (2325 -6847) في “صحيحيهما” عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ )).
— رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الكتابة على قبور الموتى، سواء كانت قبور أنبياء أو صالحين أو آباء أو أمهات أو أبناء أو زعماء أو جنود أو غيرهم.
وهم – أرشدهم الله – قد خالفوه فوضعوا على قبور الموتى رخاماً أو حجارة أو ألواحاً كتبوا عليها اسم الميت، وزمن وفاته، أو سورة كالفاتحة، أو آيات قرآنية، أو أدعية مأثورة، أو شيئاً من أفعال الميت وصفاته، أو أنه شهيد في معركة أو قصف كذا.
وقد أخرج الإمامان أبو داود (3226-3225) والنسائي (2027) في “سننهما” واللفظ للنسائي بإسناد صحيح عن جابر – رضي الله عنه – أنه قال: (( نَهَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ، أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ، أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ )).
ومن أراد معرفة قبر ميِّتِّه من أب أو أم أو ولد أو أخ أو صديق أو غيرهم ليزوره للدعاء له والاتعاظ فليضع حجراً من جنس ما في المقبرة، فقد أخرج الإمام أبو داود في “سننه” (3206) بإسناد حسن عن المُطَّلِب أنه قال: (( لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» )).
— رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن تزيين القبور وتجميلها وصبغها بالجص وغيره من المجمِّلات والمزينات.
وهم ـ أرشدهم الله – قد خالفوه فزينوها بالستور والأقمشة والرِّقاع المذهبة، أو زخرفوها بالرخام متلألئ الألوان، أو زينوها بالنقوش متعددة الأشكال والألوان أو بالخطوط العريضة المتنوعة أو بالورود والزهور ذوات الألوان والروائح الطيبة وكأنها أماكن أفراح وأعراس لا أماكن خوف ورهبة، وتذكر للآخرة وما فيها من حساب وجزاء.
وقد أخرج الإمام مسلم في “صحيحه” (970) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ )).
— رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن شد الرَّحل سفراً للعبادة إلى غير المساجد الثلاثة.
وهم ـ أرشدهم الله – خالفوه فشدوا رِحالهم سفراً إلى قبور الأولياء والصالحين، حتى إنه ليجتمع عند بعض القبور في بعض الأوقات والبلدان الألوف الكثيرة فيدعون وينذرون ويذبحون ويصلون الفرائض والنوافل ويتصدقون على الفقراء بالأموال والأطعمة والألبسة ويستغفرون ويذكرون الله تعالى ذكراً كثيراً مسبحين ومهللين ومكبرين ويقرؤون القرآن.
بل ربما يقع بعضهم في الكفر والشرك المخرج عن ملة الإسلام باتفاق العلماء عند هذه القبور بصرف عبادة الدعاء لأهلها، فتسمعه يدعوهم قائلاً: مدد يا سيدي البدوي، أغثني يا جيلاني، فرج عني يا عيدروس.
وقد أخرج الإمامان البخاري (1189) ومسلم (1397) في “صحيحيهما” عن أبي هريرة – رضي الله عنه ـ أنه قال: (( لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى )).
— رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل المقابر مكاناً للتقرب إلى الله تعالى بفعل العبادات العديدة والمختلفة.
وهم ـ أرشدهم الله – قد جعلوا المقابر محلاً للعبادات والطاعات المتنوعة والكثيرة من صلاة فريضة أو نافلة ودعاء للنفس والأهل والذرية وذكر كثير لله تعالى واستغفار وقراءة قرآن وصدقة على الفقراء وغير ذلك.
وقد أخرج الإمامان البخاري (432-1187) ومسلم (777) في “صحيحيهما” عن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا )).
فدلَّ هذا الحديث النبوي على أن المقابر ليست أماكن للتقرب إلى الله بفعل الصلوات من فرائض ونوافل.
وأخرج الإمام مسلم في “صحيحيه” (780) عن أبي هريرة – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ )).
فدلَّ هذا الحديث النبوي على أن المقابر ليست أماكن للتقرب إلى الله بقراءة القرآن أو بعض سوره وآياته، أو ختمه فيها.
وأخرج الإمام مسلم في “صحيحه” (532) عن جُنْدَب بن عبد الله البَجَلي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (( أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ )).
وأخرج الإمام عبد الرزاق الصنعاني في “مصنفه” (1533) بسند صحيح عن زيد بن خالد الجُهني – رضي الله عنه – أنه قال: (( لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَاتخِذُوا فِيهَا مَسَاجِدَ )).
فدل الحديث النبوي والأثر عن الصحابي على أن الأماكن التي تُعمر بالعبادات والطاعات المتنوعة تقرباً إلى الله تعالى هي المساجد والبيوت لا القبور والمقابر.
— رسول الله صلى الله عليهم ينهاهم عن اتخاذ القبور عيداً، وعلى رأسها قبره صلى الله عليه وسلم.
وهم ـ أرشدهم الله – قد اتخذوها عيداً، فخصصوا لها أوقاتاً معينة من الأسبوع أو الشهر أو السنة تزار فيها، كيوم عاشوراء، أو يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أو يوم مولد الولي، أو يوم النصف من شعبان، أو يوم عيد الفطر، أو يوم عيد الأضحى، أو يوم الجمعة، أو غيرها من الأيام، فيدعون الله عندها، ويذكرونه ذكراً كثيراً، ويقرؤون القرآن، ويتابعون الفواتح على أرواح الموتى، وكلما عاد هذا الوقت جاءوا إليها مرة أخرى، بالأعداد الكثيرة كالعشرات والمئات والألوف وربما أكثر، بل قد يشدون رِحالهم إليها سفراً من بلدان متعددة وبعيدة في هذه الأوقات.
وقد أخرج الإمامان أحمد في “مسنده” (8804) وأبو داود في “سننه” (2042) بسند حسن أو صحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ )).
فدل هذا الحديث النبوي على تحريم جعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، ويتحقق جعله عيداً بقصده بالزيارة والاجتماع في وقت معين عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع، إذ العيد اسم لما يعود ويتكرر في زمن معين، وسُمي يوم الفطر ويوم الأضحى عيداً لأنهما يعودان ويتكرران في نفس الوقت من كل سنة.
ودَلَّ أيضاً على أن الدعاء له بالصلاة عليه يكفي من أيّ مكان، ويبلغه، ولا يشترط أن يكون عند قبره.
وإذا كان هذا النهي والمنع منه صلى الله عليه وسلم في حق قبره، فقبور غيره من البشر أولى بالنهي والمنع والتحريم.
— رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه – رضي الله عنهم – وأئمة الإسلام بعدهم من أهل القرون الأولى وعلى رأسهم أئمة المذاهب الأربعة المشهورة لم يكن من هديهم التمسح بالقبور باستلامها بالأيدي والخرق وتقبيلها بالأفواه إذا زاروها، حتى ولو كانت قبور أفضل الناس وأكثرهم علماً وصلاحاً.
وهم ـ أرشدهم الله – إذا زاروا قبور الأولياء والصالحين تمسحوا بها بأيديهم وأبدانهم وثيابهم، وقبَّلوها بأفواههم، طلباً للبركة، واستشفاء بها من الأمراض.
وقد نقل العلامة النووي – رحمه الله – في كتابه “المجموع شرح المهذب”(5/ 311) عن الإمام أبي الحسن الزعفراني – رحمه الله – أنه قال:
واستلام القبور وتقبيلها الذى يفعله العوام الآن من المبتدعات المنكرة شرعاً، ينبغي تجنب فعله، ويُنهي فاعله.اهـ
ثم نَقل عن الحافظ أبي موسى الأصفهاني – رحمه الله – أنه قال:
قال الفقهاء المتبحرون الخراسانيون: ولا يمسح القبر، ولا يقبله، ولا يمسه، فإن ذلك عادة النصارى.اهـ
وقال الإمام ابن تيمية – رحمه الله – كما في “مجموع الفتاوى” (27/ 91-92):
وأما التمسح بالقبر – أيَّ قبر كان – وتقبيله، وتمريغ الخَدِّ عليه فمنهي عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها.اهـ
وقال أيضاً كما “جامع المسائل لابن تيمية”(5/ 368 طبعة: دار عالم الفوائد ـ وتمويل: مؤسسة الراجحي):
وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه لا تُشْرَع الصلاة عند القبور، وقصدها لأجل الدعاء عندها، ولا التَّمَسُّح بها وتَقْبيلها، سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم.
بل ليس تحت أديم السماء ما يُشرع التمسح به وتقبيله إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يستحب التمسح به، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فلم يَمْسَحوا إلا الرُّكنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك.اهـ
— أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الإسلام بعدهم من أهل القرون الأولى وعلى رأسهم أئمة المذاهب الأربعة المشهورة كانوا يكرهون رفع الصوت بالذكر والدعاء وغيرهما خلف الجنازة حين حملها أو إنزالها أو دفنها ويستحبون الصمت والسكينة لعظم شأن الموت.
وهم – أر شدهم الله – يحملون الجنازة أو يسيرون خلفها أو ينزلونها القبر أو يدفنونها وهم يرددون لا إله إلا الله، أو يستغفرون، أو يدعون للميت، أو يسبحون، بصوت مرتفع يسمعه الناس، بل بعضهم يرددون الذكر والاستغفار بصوت جماعي.
وقد أخرج الإمام وكيع بن الجراح في “مصنفه”( 211) بسند صحيح عن قيس بن عُباد أنه قال: (( كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ، وَعِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الذِّكْرِ )).
وأخرج الإمام عبد الرزاق الصنعاني في “مصنفه”(6281) بسند صحيح عن الحسن البصري أنه قال: (( أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحِبُّونَ خَفْضَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ، وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الْقِتَالِ )).
وأخرج الإمام وكيع بن الجراح في “الزهد”(209) بسند صحيح عن أيوب السِّختياني عن أبي قِلابة: (( أَنَّهُ سَمِعَ قَاصًّا رَافِعًا صَوْتَهُ فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: إِنْ كَانُوا لَيُعِظِّمُونَ الْمَوْتَ بِالسَّكِينَةِ )).
وقال فقيه الشافعية ومحدثهم أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي – رحمه الله – في كتابه ” الأذكار”(ص:160):
واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف – رضي الله عنهم -: السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يُرفع صوتاً بقراءة، ولا ذكر، ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره، وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغترَّنَّ بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفُضيل بن عِياض – رضي الله عنه – ما معناه: “الزم طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين”.اهـ
وقال عالم المالكية إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي – رحمه الله – في كتابه “الاعتصام”(1/ 349):
كما أنه سُئِل – يعني: الإمام مالك بن أنس – عن الذِّكْر الْجَهْرِيِّ أمام الجنازة؟ فأجاب:
بأن السُّنة في اتِّبَاع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار، وأَن ذلك فعل السَّلف، واتِّبَاعهم سُنَّة، ومُخالفتهم بدعة.اهـ
أيها المسلم المتبع للسنة – سددك الله وفقهك بدينه -:
لقد كانت زيارة القبور منهياً عنها في بداية الأمر، ثم أُذن بزيارتها لسببين عظيمين:
أحدهما: تَذَكُّر الزائر لها الموت والآخرة، وأن حاله سيكون كحال أهلها، فيترك أهله وماله وخلانه.
وهذا السبب يدفعه للاستعداد للآخرة، بالتوبة من الذنوب، والإكثار من الطاعات، والقيام بالوجبات، وترك المحرمات، والتقلل من الدنيا.
وقد أخرج الإمام مسلم في “صحيحه” (977-1977) وأحمد في “مسنده” (23005) واللفظ له، وأبو داود (3235- 3698) والترمذي (1054) والنسائي (4430- 5651) وابن ماجه (1571) في “سننهم” عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ )).
والثاني: نَفْع الميت بالدعاء له بالمغفرة والرحمة.
فقد صح عن بريدة – رضي الله عنه -: (( أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَى عَلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ الله بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ، أَسْأَلُ الله الْعَافِيَةَ لَنَا وَلَكُمْ )) رواه الأئمة مسلم في “صحيحه”(975) وأحمد في “مسنده” (22985-23039) والنسائي (2040) واللفظ له، وابن ماجه (1547) في “سننهما” وابن حبان في “صحيحه” (3173).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زار مقبرة البقيع، قال: (( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا، إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللهُمَّ، اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ )) أخرجه الإمام مسلم في “صحيحه” (974) عن عائشة – رضي الله عنها -.
أيها المسلم الحريص على سلامة دينه من البدع والضلالات – سلمك الله وعافاك –:
السببان المتقدمان هما المقصودان في الشريعة الإسلامية المنزلة من عند الله تعالى من زيارة القبور وأهلها، فمن زارها لأجلهما فقد حقق السنة النبوية، وعمل بها، وسار فيها على هدي خير البرية صلى الله عليه وسلم، وأصحابه – رضي الله عنهم -.
ومن زارها للطواف حولها، أو دعاء أهلها بتفريج الكرب، ودفع الشرور، وطلب الشفاعة، أو الذبح والنذر لأهلها، أو العكوف عليها والاعتكاف عندها، أو قراءة القرآن، أو ذكر الله فيها، أو دعاء الله عندها للنفس والأهل والمال، أو التمسح والتبرك بها وبالمقبورين فيها، فقد خالف السنة النبوية، ولم يسر على الشريعة المحمدية، وسار على سنن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن تابعهم في أفعالهم من الرافضة وغلاة الصوفية.
وفي الختام أسأل الله تعالى النفع بهذه الكتابة والتذكرة لمن قرأها أو ساهم في نشرها، إنه سميع الدعاء.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد الحسيني الهاشمي القرشي.